الشارع المغاربي: يحسن في البداية أن أوضّح أنّ الوَاويْن الواردتيْن في عنوان هذا المقال لا تحيلان على المعنى نفسه، فالواو الأولى الرابطة بين القاعدة والاستثناء هي واو عطف أكاد أقول إنّها ضروريّة بحكم أنّه لا يمكن الحديث عن قاعدة دون حديث عن استثناء إلى الحدّ الّذي يمكن معه اعتبار هذا المركّب العطفيّ مفردة واحدة من جهة التصوّر لا من جهة التركيب، وهو ما سأعود إليه لاحقا. أمّا الواو الثانية فتحيل على معنى العلاقة بين المركّب الأوّل من جهة وكلمة “الضرورة” من جهة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الضرورة تتعلّق مبدئيّا بالاستثناء لا بالقاعدة وإن كنّا أشرنا إلى التلازم الكلّي بينهما.
لن يصعب كثيرا على القارئ الفطن أنّ الأمر يتعلّق هنا بالحالة الاستثنائيّة، أي العبارة المفتاح الواردة في الفصل 80 من الدستور التونسي والّذي على أساسه اتّخذ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد قرارات يوم 25 جويلية 2021 وذلك بقطع النظر عن الجدل الدستوري الصرف والحرفي النصّاني الّذي هيمن خلال الأيّام الأولى الّتي تلت ذلك التاريخ لتحلّ محلّها، في تقديري، مسائل أكثر عمقا وترتبط بالقضايا الحقوقيّة وبمستقبل البلاد برمّته وكذلك بالقيَم الجمهوريّة ودولة المواطنة.
إنّ مقولتيْ القاعدة والاستثناء هما مقولتان مرتحلتان من المنطق إلى شتّى مناحي الحياة السياسيّة والاجتماعيّة بصورة عامّة، ونعلم جميعا تلك القولة الشهيرة الّتي غدت بمثابة البديهيّة ولكنّها مشكلة بدرجة عويصة، وأقصد: “لكلّ قاعدة استثناء”. إنّ هذه المقولة ملغزة جدّا إلى درجة جعلت العقل البشري يسعى إلى التملّص من الإلغاز برفع القول إلى مرتبة البداهة غير القابلة للنقاش، وهو دأبه في عديد الأحيان حين لا يجد تفسيرا مقنعا، بل يصل الأمر إلى تركيب قواعد أخرى ترتقي بدورها إلى مرتبة البداهة وتغدو بمثابة المثل السائر الثابت أو القانون، وفي مثال الحال قولنا “الاستثناء الّذي يبرّر القاعدة” فنصبح في منزلة المبرّر للشيء بنقيضه إذا ما اعتبرنا أنّ القاعدة هي نقيض الاستثناء بالكليّة. وربّما علينا هنا أن نفكّر بمفهوم مختلف لا يبتعد كثيرا عن جوهر الاستثناء وهو مفهوم الضرورة الّذي يتمّ تجنّب استعماله لما يحمله من إحالات غير مرغوب فيها، وخاصّة في الثقافة العربيّة عموما. ومن بين تلك الإحالات المكروهة مفهوم “الضرّ والضرر”، وكذلك مفهوم “الاضطرار” بما يحمله من معاني انتفاء الاختيار والوقوع تحت وطأة الإكراه. وهناك في معنى الضرورة ما يشير أيضا إلى ارتكاب المحظور ولكنه محظور استثنائي جدّا إذ أنّه يصبح “محظورا مُباحًا” وغنّي عن التذكير هنا بتلك القاعدة الأصوليّة الشهيرة: “الضرورات تبيح المحظورات”. ولكن على الرغم من ذلك يصبح الضرر والاضطرار والوقوع في الحضوري من الأمور الضروريّة بمعنى الوجوب دفعا لما هو أشدّ ضررا. وعلينا الانتباه أيضا إلى أنّ من خصائص القاعدة أنّها تكون أقرب إلى النظريّة في حين يكون الاستثناء ألصق بالواقع، بعبارة أخرى فإنّ اللجوء الاضطراري إلى الضرر لدفع ضرر أكبر يفرضه الواقع الّذي لا يتطابق في كلّ الأحيان مع النظريّة المتعلّقة بما “ينبغي أن تكون عليه الأمور في الحالات العاديّة”، ولكن هناك شرط أساسيّ يفرض نفسه ولا يجب التغافل عنه مطلقا وهو أنّ ذلك “المحظور المباح” لا ينبغي أن يتحوّل إلى مباح مطلقٍ فيتحوّل الضرر إلى قاعدة، وذلك هو الخطر الحقيقيّ. وبذلك نجد أنفسنا أمام معادلات صعبة تدور في فلك الضارّ والأشدّ ضررا وارتكاب المحظور، ولعلّ تحديد الأطراف المناسبة لعناصر هذه المعادلة يكون مدخلا مناسبا لتحديد المواقف من 25 جويلية واستقرائه.
أظنّ أنّ مفهوم “الضرورة” هو المفهوم الأنسب بالنسبة إلى الحالة التونسيّة الراهنة وأدقّ ممّا عُبّر عنه بالحالة الاستثنائيّة الموجِبة ضمنيّا لخرق القاعدة الّتي يمثّلها الدستور والقواعد المنظِّمة للانتظام السياسي التونسي من مؤسّسات وحكومة وبرلمان. والملاحَظ في الواقع التونسي منذ 2011 أي منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وما نتج عنه لاحقا طيلة العشريّة الأخيرة، أنّ تلك “القاعدة” أصبحت تمثّل الضرر الأكبر ممّا حتّم الخروج منه بضرر ضروريّ محظور وفق القاعدة ولكنّه بشكل ما دفْع لمَهلكة حتميّة يمكن تلخيصها في انهيار الدولة برمّتها، وقد تمّ التنظير لما يسمّى “حقّ الضرورة” وبالخصوص في فقه القانون الألماني منذ القرن التاسع عشر لتأخذ المسألة أبعادا كثيرة إلى وقت قريب جدّا وخاصّة في إطار المدرسة الواقعيّة في القانون.
إن “الضرورة” مفهوم قانونيّ أيضا وهو مستخدم في العلوم السياسيّة ومرتبط بالتأويل الواقعي للدساتير والقوانين، ومتعلّق بالقول إنّ مؤَوّل النصّ هو الصانع الحقيقي للقاعدة. هذا الاتّجاه يمثّله على سبيل المثال ميشيل تروبار (Michel Troper) في آخر إصدارته الذي يعود إلى سنة 2011 ويحمل عنوان “القانون والضرورة” (Le droit et la nécessité). ولعلّ اسم السلسلة الّتي نشرت هذا الكتاب له دلالات كبيرة، إذ هو عنوان كتاب هوبز الشهير “التنّين” (Le Léviathan)، بكلّ ما يحيل عليه هذا الاختيار من توجّهات فلسفيّة قوامها علويّة الدولة القويّة القامعة للشرّ الأصيل في الإنسان، واعتبار أنّ كلّ شيء يهدّد الدولة يمثّل خطرا لابدّ من إيقافه بأيّ طريقة وبكلّ تأويل ممكن مهما كان متعسّفًا. إنّ هذا التوجّه لا يهمّه كثيرا طبيعة القانون أو مفهومه، ولا يهمّه كذلك النظر في مسألة التراتبيّة بين الدستور والقانون، وهل فعلا أنّ الأوّل أقوى درجة من الثاني. بل إنّ هذا التوجّه لا ينظر حتّى فيما إذا كانت الدولة خاضعة للقانون. إنّ الأهمّ هنا هو الوضعيّات والحالات والأسباب الّتي تجعل من الفاعلين يضعون هرميّة معيّنة بالنسبة إلى القواعد والسيادة ودولة القانون وفق تأويل مخصوص للقانون والدستور. إنّ هذا التوجّه، وبكثير من الاختزال الّذي قد يكون مخلاّ، يحمل في جوهره مفارقة كبيرة إذ أنّه في الآن نفسه يقدّم الواقع والمجتمع [الشعب إن شئنا] على القانون والدستور، ويجعل الوظيفة الأساسيّة للقانون والدستور تبرير الاختيارات في الواقع وإضفاء الشرعيّة عليها، مع اعتبار تلك الخيارات في أعلى الهرم وأقوى من الدستور والقانون.
هل كانت الضرورة متوفّرة في الوضع التونسي قبل 25 جويلية؟ ربّما تكون الإجابة ضربا من التكرار المملّ لوصف الوضع الرديء السائد في كلّ المستويات خلال العشريّة الأخيرة مع الانعدام التامّ لوجود مخرج دستوري وقانونيّ من الأزمة الّتي تعيشها تونس، وبقطع النظر عن مساندة ما ذهب إليه رئيس الجمهوريّة أو تنسيبه أو الحذر منه فإنّه كان من المستحيل تغيير الوضع في إطار المؤسّسات القائمة وفي إطار الحكومة والبرلمان القائمين، وبالأجهزة الّتي سيطرت عليها أساسا حركة النهضة منذ سنوات، وفي ظلّ تنكّر تامّ لاستكمال الهيئات الدستوريّة وبالخصوص المحكمة الدستوريّة. ولا يمكن أيضا إنكار أنّ الدولة وأجهزتها كانت تستعمل خدمة للمصالح الفئويّة، وأنّ القوانين توضع لمصالح ضيّقة، وأنّ القضاء مكبّل بعدّة أشكال ووجوه. وأنّ كلّ ذلك وغيره هو ما مثّل بالنسبة إلى الرئيس تهديدا مباشرا للدولة، ممّا استوجب تحكيم إجراءات الضرورة المغلّفة باسم دستوريّ هو “الحالة الاستثنائيّة”.
وعلى الرغم من كلّ ما سبق، وهو يدخل في إطار محاولة التفسير والفهم، لا التبرير وينبغي التمييز بين المستويين تمييزا واضحا، فإنّ الضرورة ومهما بلغت الحاجة إليها وهي واقعة في تونس اليوم، لا يمكن أن تستمرّ إلى ما لا نهاية له، إذ أنّ المعضلة السياسيّة الّتي يمثّلها القانون الانتخابي، والنظام السياسي، والمنظومة الحزبيّة بالخصوص، وقد أثبتت السنوات الأخيرة أنّه لا توجد في تونس أحزاب تقوم بالمهمّة النظريّة كما تحدّدها العلوم السياسيّة، إذ أنّها تجمّعات حول أشخاص، وحتّى المجريات الأخيرة ضمن حركة النهضة أسقطت الوهم الشائع لدى العديدين بأنّها الحزب الوحيد المهيكل والمنظّم، إذ أنّه مرتبط بشخص وقوّته الظاهرة لا تعدو أن تكون سوى نتيجة لقوى ماليّة داخلية وخارجيّة إضافة إلى ضعف الأحزاب الأخرى، كلّ ذلك لا يجب أن يكون مدخلا لضرب الديمقراطيّة التمثيليّة وللقوى الوسيطة كالأحزاب والمجتمع المدني والقوى الّتي تكبح جماح التفرّد بالسلطة، لتبقى الضرورة القصوى هي العودة بالسياسة إلى معناها النبيل أي إدارة الشأن العام بعيدا عن المطامع الفئويّة الضيقة عبر مؤسّسات دولة حديثة.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 7 سبتمبر 2021