الشارع المغاربي: لقد كثر الحديث، إما مساندة أو رفضا، عن الأمر الرئاسي عدد 117 فرأينا من واجبنا تقديم بعض التوضيحات حوله لرفع الغموض عن هذا النص الهام ولتهدئة ردود الفعل السلبية والانفعالات المتشنجة ضد هذا النص الهام دون تبرير مقنع، في نظرنا على الأقل..
ولتكون المواقف واضحة وسعيا منا لإبراز موضوعية كلامنا وخُلوه من كل تحيّز، لنبدأ بالتعبير عن اسفنا لاعتماد هذا الأمر الرئاسي على الفصل 80 من الدستور لأسباب عديدة فصّلناها في صحيفة ‹ليدرز› بتاريخ الأول من أكتوبر الجاري وفي جريدة ‹الصباح› بتاريخ 2 من نفس الشهر، نختزلها في ان الظروف العامة للبلاد بلغت من الخطورة ما يستوجب اتخاذ تدابير أكبر بكثير مما يسمح به الفصل 80 المذكور. زيادة على ذلك، فإنه يجب التذكير بأن بعض الآليات اللازمة للتفعيل الناجع للفصل 80 هذا مفقودة أصلا.
مع هذا، فإنه كان، في رأينا، من الأفضل ومن الأكثر فاعلية من الناحيتين الدستورية والقانونية، الاعتماد على الفصل الرئيسي الثالث من الدستور، هو مذكور في الأمر الرئاسي 117، ثم إكمال ذلك المرجع الأساسي بالفصلين 72 و71 (بهذا التسلسل المنطقي) وذلك باعتبار الأسباب والمؤيدات التالية، نذكّر بها بإيجاز: *- الفصل 72 هو مواصل ومتمم للفصل الأساسي عدد 3 المذكور في روحه، باعتبار ان الفصل 3 بعد ان اعلن ان «›الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات، يمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين أو عبر الاستفتاء» واصل بإكمال ذلك المبدأ بتعيين هيكل دستوري أساسي اسدى اليه المهمة الأعلى، وهي «رئاسة الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور». هذا الهيكل الأساسي «هو رئيس الجمهورية»، ولا غير. وهذا يعني ان رئيس الدولة هو، حسب الدستور، الجهة الأولى التي تتوجه اليها المجموعة الوطنية بأكملها عند حدوث الأحداث الخطرة والمهددة بالهلاك والانهيار بما لا يسمح لذلك المسؤول أن يتبرأ أو أن يتعذر بمحدودية السلطات المذكورة في الدستور او بقلة الإمكانات المتوفرة لديه للإفلات من مسؤولياته او للتخلص من واجباته، مهما كانت صعوبتها او خطورتها. وفي رأينا، فإن الخطر الإرهابي وخطر انهيار الدولة واضمحلال هيبتها وتبعثر مفاصلها الدولة وفقدانها الثقة الدولية على مختلف المستويات وقرب افلاس البلاد داخليا وبالخصوص خارجيا، كل هذا يتطلب اكثر من شهر او شهرين او قُل حتى أربعة اشهر واكثر من اعمق المراجعات للتشريعات والسياسات والتصميمات بقصد اصلاح الوضعية وإخراج البلاد من الجحيم الذي اغرق فيه بفعل فاعل . وليتذكّر الجميع ان الأزمة العميقة والافلاس السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي دُفع بالبلاد اليه، انما المسؤول عنه والمطالب بالمحاسبة عنه معروف عند الجميع، داخليا وخارجيا، ولم يبق الا تنظيم مساءلتهم ومعاقبتهم عليه.
– لقد وقعت المناداة بإسقاط النظام الحالي والاطاحة برئيسه ومحاكمته ومن معه والرجوع الى ‹الشرعية الدستورية› المنتصبة منذ 2014 والى ‹دولة القانون والمؤسسات› التي نَمَت في ظله – لكن، إذا كان الأمر كما يذكرون، فمن يا ترى، المسؤول عن: *- تعطيل الدستور ومؤسساته واحكامه وافشال فاعليته؟ *- ومن هو السؤول عن اهدار المال العام وتجفيف الإمكانات المالية للمؤسسات الوطنية ومنها ما قُدّر بأرقام خيالية لم يعهد لها مثيل في تاريخ البلاد، وحتى في أتعس ظروفها وأكثفها ظلاما ؟ *- من المسؤول عن جرائم تهجير الألاف المؤلفة من الشباب التونسي الذين دفع بهم الى الجحيم بلا رجعة وبإجهاض كل آمالهم في العيش الكريم؟ *- من المسؤول عن التنظيمات المسلحة السرية والمُمَوّلة من الخارج والتي كُرّست لخدمة مصالح وسياسات دول اجنبية لا تُكنّ لهذا البلد الأمين الا العداوة؟ – من المسؤول عن امتصاص الاقتصاد الوطني بما تقدره المنظمات الدولية بنصفه لفائدة المهربين والسراق والإرهابيين والناشطين في المتاجرة بالمخدرات وتهريب الأسلحة وتبييض الأموال والاجرام الدولي؟
تلك التركة التي سيَخلفُها الجيل الحاضر وكذلك الأجيال القادمة – والى موفى منتصف هذا القرن، على الأقل – والتي قد يكون من العسير مواجهتها ومعالجتها وتدارك صعابها ومخلفاتها، والتي هي على غرار الأمراض المزمنة والثقيلة التي لن تقع معالجتها ببعض أقراص ‹الأسبيرين›، بل هي ككل الامراض المزمنة والطويلة، تتطلب المواجهة بالأدوية الثقيلة والباهظة أسعارها والطويلة الإحاطة بها. وبكل صراحة، هذا هو المؤمل القيام به على طول السنوات القادمة – عشرون سنة؟، او اربعون سنة؟، أو ما بينهما…
وليس كل هذا مسألة «زمن» فقط، بل إنها مسألة صبر ومثابرة وثبات، بما يعني ان هذا المجهود يتطلب تضحيات عظيمة من لدن أجيال عديدة. وهذا يتطلب أيضا تهيئة المناخ المناسب والقدرات البشرية الملائمة والاعتمادات المالية الضخمة والتجهيزات التقنية المتقدمة والمكلفة والمتطورة دوما.
وهذا يعني، في الأمد القريب، العمل الجدي والصبور والدؤوب. وما المرحلة الإعدادية الحالية الا الأمد القصير – خمس سنوات تقريبا – وهي التي ستَنتج عنها التحولات والرجّات العميقة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والتشريعي بالخصوص. وباختصار، لقد اعطى خطاب 25 جويلية الفارط الصورة الحقيقية لوضع البلاد وأعلن ان مسؤوليات رئيس الدولة في معالجتها عظيمة وأنذر ان ‹تمريض› هذا العليل سيتطلب جهودا طويلة وعملا مرهقا. فما سينتج عن ذلك من تحولات وما هو الوزن الحقيقي للانتقادات اللاذعة الصادرة عن أحزاب المعارضة، وما هي طلباتها وما هي جديتها ؟
*- الرجوع الى ما قبل 25 جويلية : لن نطيل الكلام في هذا الموضوع: فبعد الفضيحة الكبرى لركوب النهضة وازلامها على الثورة لمدة 12 سنة، فإن عجزها وخيبتها في ممارسة الحكم بالبلاد طيلة تلك المدة الطويلة لا يترتب عنها الا الانعدام الكلي للثقة في هذه المجموعة من السياسيين. فلا يبقى لهم ولغيرهم الا ان يخوضوا الانتخابات القادمة، إن مكّنهم المستقبل القريب من ذلك…
*- الرجوع الى الدستور: هذا الطلب شديد الغرابة ويحمل في طياته أكبر المخادعات باعتبار ان المطالبين بالعودة الى الدستور كانوا هم أنفسهم، يتحكمون بصورة مطلقة في كتابة النص الدستوري وفي تطبيقه أو في عدم تطبيقه لمدة 12 سنة: فكيف يمكن لهم المطالبة بالعودة الى ما أفسدوه جملة وتفصيلا في هذا الباب بالذات؟
*- الديمقراطية: أعداء الديمقراطية عقائديا ودينيا وممارسة لم يعودوا اهلا لتشريكهم في المعاملة الديمقراطية الحقة. فما تميزوا به في العمل السياسي هو ميلهم للتآمر على الديمقراطية كما تبين ذلك بعد «مؤامرة الشيخين في نزل البرستول الباريسي» تحت عنوان ‹التوافق› الفاسد.
*- الصمت على المساءلة السياسية: هذا أمر غريب بحكم انه طيلة الفترة الماضية – ومدتها 12 سنة -، لم يتفوّه أي من الزعماء السياسيين الحاكمين أو اذنابهم بأي اقتراح لسد الثغرة الدستورية المتعلقة بالمساءلة لكل من تحمل وظيفة سياسية أو إدارية، وهو المبدأ الأساسي في الديمقراطيات المعقلنة. بل إن ما تميزت به الفترة النهضوية هو العكس، الذي بموجبه يُغفر لرئيس الحكومة الفاشل فشله، والذي كذلك يُجازى الوزير الفاشل بترقيته من منصب وزير الى منصب وزير أول….
*- الانتخابات المزورة: لقد أُسعفت «النخبة الحزبية والسياسية» في بلادنا بنظام انتخابي مزوّر وظالم من مستوى ما يسميه الخبراء «الجمهوريات المَوزيَّة» وتميّزت بسهولة الرشوة والارتشاء بثمن بخس. أضف الى ذلك تدخل المال السياسي الداخلي وأيضا الخارجي في الانتخابات وغياب الرقابة الجدية من طرف المؤسسات المالية والقضائية، عموما، ما ينتج عنه ان الانتخابات (والمقاعد في البرلمان) تباع وتشترى سرا وعلنا وبكل اريحية. فما معنى العملية الانتخابية، وما مفهوم الديمقراطية أصلا؟
*- الحصانة والامتيازات لأعضاء مجلس النواب: الحصانة النيابية أضحت الامتياز الذي جعل من مجلس النواب الملجأ الناعم والأمين للعديد من المتطفلين على العمل السياسي والمندسين في هذا الهيكل التشريعي قصد قضاء مآربهم والتآمر على حساب الصالح العام. وكذلك الأمر بالنسبة ‹للمنح والامتيازات المسندة لرئيس مجلس نواب الشعب واعضائه. فلا مجال لمثل هذه الفضيحة، ووجب بذلك ‹رفع الحصانة البرلمانية عن جميع أعضاء مجلس النواب›، بل ويتحتم رفع هذه الحصانة عن كل من يعمل في المجال السياسي والقضائي والإداري العمومي، وإلغاء المنح والامتيازات البرلمانية.
*- المحكمة الدستورية واستقلال القضاء: هاتان المؤسستان هما وجهان اثنان لعملة واحدة، وهما أساس العدل والاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد. فأما الأولى، فإنها لم تر النور بفعل فاعل، ويا للمهزلة عندما رأيت أخيرا المعطلين لمشروع الأمس ينقلبون الى دعاة مستميتين من اجل إرسائها على عجل لاكتشافهم فجأة أهمية هذه المؤسسة القضائية…. وأما المؤسسة القضائية ومبدا استقلاليتها، فلنكتف بالتلميح الى اكبر الفضائح في بلادنا التي تتمثل في اثبات فساد اعلى قاض في الهيكل القضائي واعلى قاضي في النيابة العامة. هلا كانت هذه الجريمة الشنعاء ممكنة لولا اختراق الفاسدين السلك القضائي عموما والتمكن منه بصورة قاتلة ؟ : بلا تعليق…
*- محاربة الفساد: هذا المطلب يمثل مبدأ أساسيا في العهد الجديد ويتطلب بلا شك زمنا طويلا وتشريعات ناجعة وقوية وثباتا فائقا إذا أريد منع الفساد واجتثاثه من كل مفاصل الدولة والمجتمع. وربما هذا هو الذي يخيف اهل المعارضة وازلامها لعمق تفشي هذه الآفة في كل البلاد. هذه الحرب على الفساد هي ضرورة مطلقة وواجب تحريكها بصورة فعالة وبيد غير مرتعشة وتختلف عن كلام بلا فعل مثلما كان معتادا منذ عدة سنين…
*- الحقوق والحريات: هل الحقوق والحريات مهددة اليوم مثلما تصرخ المعارضة بذلك؟ – الحقيقة في المرسوم عدد 117 هي انه يقول بكل وضوح: «لا يجوز عند سن المراسيم النيل من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمومة بالمنظومة القانونية الوطنية والعالمية» (الفصل 4). وكذلك، فإن نفس النص يأمر بأنه «يتواصل العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه، وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع احكام هذه الأمر الرئاسي» (الفصل 20). أضف الى ذلك ان التشريعات المستقبلية «ستكرس دولة القانون وتضمن الحقوق والحريات العامة والفردية وتحقيق اهداف ثورة 17 ديسمبر 2010 في الشغل والحرية والكرامة الوطنية» (الفصل 22).
*- الإقحام المفتعل للعقيدة في السياسة: كما يثبت ذلك تاريخ الأديان عموما والأديان السماوية خصوصا، فإن العقيدة والسياسة هما خطان متوازيان لا يلتقيان الا بالحاق الاولى والثانية بأضرار وخيمة وعميقة، ما حمل السياسة على الابتعاد عن العقيدة في العالم المسيحي، مثلا. اما في عالمنا الإسلامي، فإن كارثة الادماج او المحاولة في ذلك آلت بعد العظيم من المآسي الى الفشل الكبير والى التخلف المحزن في معظم البلاد العربية والإسلامية. أما في تونس، فإن عاملين أساسيين كانا السبب في المأساة: الأول هو التحاق المنظمة الإسلامية التونسية بمجمع الاخوان المسلمين تزلفا وتقربا منها بقصد الاحتماء بها. والفاعل الثاني هو استعمال الدول الغربية، خصوصا، الولايات المتحدة الامريكية، الإسلام قصد السيطرة على العالم العربي لأسباب معروفة ومبتذلة. وإنه من مسؤولية الشعب التونسي التفطّن لهذه الخدعة ولما ينجرّ عنها من اضرار مختلفة الابعاد، ذاق طعمها المرير في عهد الحكم النهضوي. ومن انذر فقد اعذر…
*- ‹انقلاب على الثورة› ام ‹انقلاب على الانقلاب؟›: لقد استنفد اهل المعارضة كل اسهُمهم هجوما على التحول السياسي الحالي بأن نددوا بما اسموه ‹الانقلاب على الثورة›. لكنهم فضحوا أنفسهم بأنفسهم بتناسيهم ما فعلوا سنة 2011 عندما ركبوا على الثورة الشعبية واستغلوا صفاء اغلبية الشعب وبراءتها الطبيعية واستمالوها بثمن بخس وبهدايا مضحكة. فإذا راجعوا التاريخ الحديث، فإنهم سيتفطنون الى ان التحول الحالي إنما هو، كما قيل بكل رشاقة، ‹انقلاب على الانقلاب›، فإذا به هو الرجوع الى الشرعية الثورية الحقيقية، ‹وعلى الفهيم ان يفهم›.
*- التشاور والديمقراطية: الديمقراطية هي ‹التشاور› والمداولة واحترام مبدأ ‹الرأي والرأي الآخر›. لكن، هل من المعقول ان يقع ‹التشاور› مع من ‹أفسدوا في الأرض›؟، او مع من باعوا ضمائرهم للمفسدين وللمصالح الخاصة وغير المشروعة وللمصالح الأجنبية باختلاف أنواعها وتوجهاتها؟ – أليس هذا هو ما حصل في هذه البلاد الوديعة طيلة العشر سنوات الماضية؟ – أليس هذا هو بالذات ما طالب الشعب بتحريمه وبمساءلة من قام بتلك الخيانة؟
*- النظام السياسي: النظام الرئاسي، الرئاسوي، الدكتاتوري: لقد هبّت المعارضة للتنديد بنيّة رئيس الدولة بإبطال النظام ‹البرلماني› الحالي وبتعويضه بالنظام ‹الرئاسوي› الذي، حسب كلامهم، سيفتح حتما الباب أمام الدكتاتورية› وأمام اغتيال الديمقراطية. الا ان الغريب في هذا الادعاء، هو انهم قاموا بالهجوم على رئيس الدولة قبل أن يبادر بأي اقتراح في ذلك الاتجاه، وأنهم هم بالذات الذين مارسوا ‹الدكتاتورية› الفاسدة بصورة مباشرة او غير مباشرة منذ جلوسهم على سدة الحكم في البلاد….
*- ‹الظروف الاستثنائية› وأحكامها: المقولة «للضرورة أحكام» معروفة منذ القدم ولا وجوب للإطالة في الكلام عنها. الغريب في قضية الحال هو إصرار المعارضة على ما تنعته بالطابع الإجرامي المثير والتعسفي لأحكام المرسوم عدد 117 في هذا الصدد في حين أن: من ناحية أولى، أصبح الطابع الاستعجالي والخطير للوضعية واضحا وملحّا وأن التقاعس في معالجته السريعة قد يِؤخذ على محمل اللامسؤولية وغياب الاكتراث بمتطلبات الصالح العام… . ومن ناحية ثانية، فإن على المعارضة ان تتذكر انها لم تتردد طيلة حكمها في البلاد عن اللجوء بصورة مباشرة او غير مباشرة الى ‹الاحكام الاستثنائية› واكثر من ذلك، الى خرق القانون والى سن القوانين التي تخدم مصالحها الشخصية او الفئوية.
*- الزمن والرزنامة: لقد بين المرسوم 117 ان هذا العمل الإصلاحي والاعدادي سيمتد على حقبة من الزمن لا يمكن تحديدها مسبقا باعتبار ان تقلب الظروف وتعقدها وصعوبة الاعداد المركّز لها تتطلب الكثير من السلاسة في هذا الميدان. والحقيقة هي ان من سبق في الحكم في البلاد لم يتردد في التطويل في الآجال بما يتناسب ومصالحه الخاصة او الفئوية. فكيف له ان يطالب بالإيجاز في المواعيد اليوم؟
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 5 اكتوبر 2021