الشارع المغاربي: نعم، من حقّي بصفتي مواطِنا أو على الأقل أسعى أن أكون مواطنا في دولة مواطنة حقيقيّة، أن أتحدّث في القضاء، إذ لا يمكنني الوصول إلى ما أسعى إليه من مواطنة نلهث وراءها منذ عقود دون قضاء مستقلّ تماما وفاعل وقويّ وغير واقع تحت أيّ تأثير سياسيّ أو ماليّ أو حزبيّ أو إيديولوجيّ أو هو يميّز بين المواطنات والمواطنين تحت أيّ إكراهٍ كان. وهذا الأمر يدخل في دائرة الحقوق غير القابلة للتفاوض ممّا يشرّع لكلّ مواطنة ومواطن الخوض في شأن القضاء وإن كان جاهلاً بالكليّة بالتفاصيل القانونيّة والتراتيب المعقّدة الّتي يعرفها المختصّون في الشأن القضائي والّتي لا يحتاج المواطن العادي مثلي أن يعرفها للمطالبة بحقّه في قضاء حقيقيّ يضمن حقوقه الأخرى ويكون مطمئنّا في بلاده. ولذلك كلّه لا أدّعي أيّ معرفة بالقضاء ومتاهاته القانونيّة والدستوريّة دون أن يكون ذلك مانعا من المطالبة بما طالبت به إذ يكفي المبدأ العامّ السابق لشرعنة كلّ ما سيأتي لاحقًا والردّ على كلّ من يمنع حقّ أي مواطن في المطالبة بحقّه في قضاء مستقلّ ليكون عادِلاً وضامنا لحقوقه.
إنّه لمن المكابرة والعناد عدم الاعتراف بشكل حاسم أنّ تونس منذ الاستقلال إلى اليوم تشهد صراعا سياسيّا قبل كلّ حساب يدور حول السلطة القضائيّة وعليها، ولن أخوض هنا في النوايا أو ما أثبتته التجربة والواقع من توظيف تعجز هذه الكلمات أو غيرها عن حصره، وربّما الحديث عن ذلك سيكون من باب “المعلوم من الاستبداد بالضرورة”. ولكن فلنذكّر ببعض ما يرتبط بأهمّ مؤسّسة دستوريّة تتعلّق بالقضاء فهي اليوم محلّ صراع واقع تحت وطأة الفصل الثمانين من الدستور من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية مواقف الأحزاب والمنظّمات والشخصيّات المناهضة لقرارات 25 جويلية 2021 وما تلاها وبالخصوص الأمر الرئاسي 117 الّذي عمّق المخاوف لدى طيف من السياسيّين والحقوقيين وغيرهم على المسار الديمقراطي بحكم تفرّد رئيس الجمهوريّة بجميع السلطات، وكانت مخاوفهم حقيقيّة مع ضرورة التنبيه إلى التمييز مع ما أسميناه في مواضع أخرى بـ “التخويف التكتيكي” من جهات لا علاقة لها بالديمقراطيّة لا من قريب ولا من بعيد، بل إنّ تعاملها مثلا مع القضاء خلال العشريّة الأخيرة بالخصوص يغني عن كلّ دليل عن عدم إيمانها بالثقافة الديمقراطيّة.
علينا التذكير أنّ تونس بقيت تنتظر ما يناهز ثلاث سنوات بعد دستور 27 جانفي 2014 لترى أوّل انتخابات للمجلس الأعلى القضاء يوم 23 أكتوبر 2016 تبعا للقانون الأساسي الّذي أصدره مجلس نواب الشعب في أواخر أفريل 2016. وباستحضار ما تمّ تداوله منذ 14 جانفي 2011 حول كيفيّة اشتغال القضاء زمن حكم ابن عليّ وقبله بورقيبة واعتباره أداة في يد السلطة السياسيّة، إذ يكفي أن ابن عليّ كان يترأس المجلس الأعلى للقضاء، أليس من الجائز التساؤل عن سبب التأخير الكبير في وضع الأسس القانونيّة لما ركّزه الدستور الجديد لانتخاب المجلس الأعلى للقضاء؟ ربّما أيضا ننسى أنّ تلك الانتخابات قُبلت المشاركة فيها على مضض من طرف قسم كبير من القضاة أنفسهم تحت شعار “احترام الدستور” بعد أن أمضى قانونها رئيس الجمهوريّة المؤقّت وقتها المنصف المرزوقي على الرغم من إعادتها من الهيئة الوقتيّة لمراقبة دستوريّة القوانين، ولكن جمعيّة القضاة مثلا رأت وجوب “العمل من داخل ذلك القانون”. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ تلك الانتخابات الّتي لم يشارك فيها سوى حوالي 47 بالمائة من الّذين يحق لهم الانتخاب وهي نسبة ضعيفة، قد كانت مسبوقة باحتجاجات كبيرة جدّا منذ فترة سابقة عن تاريخ المصادقة على الدستور التونسي، إذ لا يجب أن ننسى ما شهدته تونس من احتجاجات القضاة وإضرابهم عن العمل أسبوعا كاملا خلال شهر جانفي 2014 قبيل أيّام من 27 جانفي، إذ حمل مشروع الدستور فصولا كان من الواضح تماما أنّ الأغلبيّة في المجلس التأسيسي وقتها تريد من خلالها وضع القضاء في قبضة السلطة التنفيذيّة والتشريعيّة ومن ذلك فصول دستوريّة تحدّد دور السلطة التنفيذيّة في تعيين قضاة، وكذلك ضبابيّة تحديد مهام المحاكم العسكريّة، كما عارضت الأغلبيّة في المجلس التأسيسي وقتها إصدار الأحكام باسم الشعب وتنفيذها باسمه، إذ كانت تلك الأغلبيّة تريد إعادة التنفيذ إلى السلطة التنفيذيّة وهو ما رفضه القضاة وغيرهم من المدافعين عن استقلاليّة القضاء.
ربّما في هذه الأمثلة، وهي غيض من فيض في الحقيقة، إشارات إلى أنّ المسألة وإن لبست جبّة الشعار الكبير “استقلاليّة القضاء” ولكن الأمر كان محلّ تنازع دائم، وأنّ السلطة التنفيذيّة والسلطة التشريعيّة الحاصلة على الأغلبيّة منذ الثورة كانت دائما في محاولة لوضع القضاء تحت إمرتهما وتطويعه بشكل أو بآخر تحت مسميّات مختلفة من أعمقها أثرا مقولة “التوافق” تلك المقولة المنافية بالكليّة لكلّ معاني الديمقراطيّة.
عاش القضاء ضغطا إعلاميّا وسياسيّا كبيرا، ورأينا في مناسبات كثيرة تطاولاً عليه خلال السنوات الأخيرة، وسادت نظرة سلبيّة جدّا اجتماعيّا وشعبيّا تجاهه، ونتذكّر جيّدا تلك الجملة الّتي سمعناها “الأمن يشدّ والقضاء يسيّب” الّتي ارتبطت بقضايا خطيرة جدّا في طليعتها القضايا الإرهابيّة. وتواصل الأمر مع ما شهدته الساحة من تداول مكثّف لما تعلّق بالرئيس الأوّل لمحكمة التعقيب والرئيس الأوّل لمحكمة الاستئناف بتونس وأثر ذلك السيّء جدّا على صورة القضاء. وصولا إلى إقحام القضاء في الخصومات السياسيّة قبل مدّة وجيزة جدّا من إجراءات 25 جويلية حين تعلّق الأمر بقرار مجلس القضاء العدلي منع القضاة من تقلّد مناصب برئاسة الجمهوريّة أو رئاسة الحكومة، ذلك القرار المتزامن مع إعفاء رئيس الحكومة وقتها هشام المشيشي لرئيس هيئة مكافحة الفساد القاضي في الأصل عماد بوخريص والّذي تمّ استقباله من رئيس الجمهوريّة في إشارة واضحة للصراع السياسي بينهما وتداخل السياسي بالقضائي بشكل جليّ.
رأيت وسمعت أنا المواطن البسيط غير العارف بتشعبّات القضاء كلّ ذلك وغيره كثير ممّا يضيق به المقام وتمتلئ به صفحات طوال، إضافة إلى المناسبات الكثيرة الّتي لم يتحرّك فيها القضاء إلاّ بعد أن تُثار القضايا الخطيرة في الإعلام، وعلمت أنّ محكمة المحاسبات قد كشفت جرائم انتخابيّة كثيرة جدّا من شأنها إسقاط قائمات وتغيير نتائج الانتخابات وقد خلتها “شفّافة ونزيهة”، غير أنّ تقريرها بقي حبرا على ورق دون أثر قانونيّ فعليّ، فماذا عساي أخمّن؟ وكيف ستكون نظرتي إلى القضاء في بلد أحلم أن أكون فيه مواطنًا؟ وكيف يكون موقفي حين أرى قضاة يدلون بدلوهم علنا في قضايا سياسويّة صرف على صفحات التواصل الاجتماعي؟ وكيف لا يكون كلّ ذلك مدخلا مناسبا للقوى السياسيّة المختلفة، بقطع النظر عن النوايا، لمحاولة بسط النفوذ على القضاء مستفيدا من الصورة الشعبيّة السيّئة حوله فيجد التأييد والإشادة على الرغم من التعارض الواضح بين مبدأ التفريق بين السلط من ناحية وما رأيناه في الآونة الأخيرة من أحكام قضائيّة تلي مباشرة خطابات رئاسيّة تُكيّف بوضوح بأنّها تدخّل في القضاء سواء برفع قضايا أو الإقامات الجبريّة أو أحكام صادرة إلى غير ذلك من ناحية أخرى، ووصل الأمر إلى طلب مباشر وعلنيّ من وزيرة العدل بفتح بحث قضائيّ، ومثل الأمر لا يؤخذ بحسن النوايا وسوئها أمام المجتمع الدولي، وأمام المدافعين الحقيقيين عن استقلال القضاء في ظل الإيمان بدولة المؤسسات، إنّ مثل هذا الأمر سيعتبر تدخّلا مباشرا في القضاء من السلطة التنفيذيّة، وفي الوضع التونسي الحالي اجتمعت السلطتان التنفيذيّة والتشريعيّة في يد واحدة والمواقف الأخيرة تدلّ على سعي إلى ضمّ السلطة القضائيّة إليهما.
علينا الانتباه جيّدا في هذا المستوى، إذ مهما كانت وضعيّة القضاء، ومهما كان تاريخه ونقائصه، ومهما كانت تمثّلات الناس له شعبيّا، فكلّ ذلك لا يمكن بأيّ حال أن يكون مدخلا لتحويل السلطة القضائيّة إلى أداة في يد السلطة التنفيذيّة مهما كانت الدواعي والاعتبارات. بقي السؤال الحائر الآن: هل يمكن للقضاء أن يصلح نفسه بنفسه وهو على حالته هذه، وبما يشهده من انقسامات داخليّة، وبنزوع شديد إلى “القطاعيّة”؟ وهل قُدّر علينا أن نبقى في الدوائر المفرغة نفسها: “منّا تكوي… منّا تشوي”؟
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 9 نوفمبر 2021