الشارع المغاربي-حاورته : سيدة عشتار: هو شاعر وكاتب عرف بنمط مخصوص من الكتابة الشعرية إضافة إلى حضوره المتميّز بالتشويق والإدهاش إضافة إلى عذوبة صوته وآدائه المسرحي لقصيدته وتنغيمها الشيء الذي جعل منه شاعرا جماهيريا لافتا ومثيرا للجدل.. كلما ظهر في محفل من المحافل الشعرية الوطنية أو العربية.. إلاّ وترك في نفوس البعض مشاعر مختلفة من الدهشة والاستلطاف وأحيانا الرفض والاستهجان لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن لصوت قصيدته نبرة وملامح خاصة ومتفرّدة حتى أنّه يمكن فرزها من بين الآلاف من الأصوات . أصدر المزغنّي عدّة دواوين شعريّة منها “عناقيد الفرح الخاوي” و”عياش” و”حنظلة العلي” و”قوس الرياح” و”حبّات محبّات” و”مشاعر” وغيرها، إضافة الى إصداره عدة مسرحيات للأطفال… تقلّد عدّة مناصب ثقافيّة أهمّها إدارة بيت الشعر التونسي عام 1995 ونال العديد من الجوائز الشعرية من بينها وسام الاستحقاق في مناسبتين .. “الشارع المغاربي” التقى المنصف المزغني فكان هذا الحوار .
كيف أتى المنصف المزغني الى كتابة الشعر ؟
أمّي خديجة كانت الأصل في وصولي الى حالة الشعر، والإحساس بما حولي، وكان الشعر شكلا من الدفاع عن الذات في عالم صدامي ومشاكس، وتعبيرا عن حالة من عدم الانسجام مع القطيع والجماعة والرأي العام السائد ،، كان الشعر في البدء سؤالا، وأغنية، وفي المنتهى صار رؤية للوجود، كانت شيطانة الشعر تأتي لأمّي، وأمّي كانت أمّيّة، حين ماتت أمّي، ورثت انا ابن هذه الشيطانة .
أغلب نصوصك عبارة عن لحظة أو مشهد أو موقف أو إحساس شعريّ خاطف تستخدم فيه التشويق والادهاش مع الاقتصاد اللغوي، هل يمكن القول إنك من شعراء الومضة أو الهايكو؟
هي تجربة في محاولة اختزال التعبير، وقد مررت بتجربة القصائد الطويلة جدّا هي تجربة لم تتواصل، وعموما، فان الشعر بطبعه اختزال، وضرورة ان يذهب الشاعر احيانا الى كبد الحقيقة، في بعض الحالات، لا في كلّها .
ماذا عن الالهام ..هل تأتيك ربّة الالهام اليونانية وقد طوّحت بخمارها لتلقّنك الشّعر أم أن صاحبك شيطان عربيّ ذكر ؟
هذا الموضوع يشغلني الآن، ابحث فيه، وقرأت مفاهيم عنه، وتصوراته قديما، وحديثا، وهناك طرائف كثيرة، وأكاذيب، وحقائق، مما يؤكد ان المبدع هو إنسان استثنائي، وله ميزة خاصة، لا تكتسب حتى بالتدريب، والشعر والفن اجمالا هما روح خاصة، عصية التفسير علميا، وعموم الناس يقولون إنها موهبة إلهية، من يدري ،،، الموضوع غير علمي إطلاقا ،،،، ولا تفسير له، ،،، . وهناك تعبير شعبي يقول : ( مُعطي له) .
حين قلت قصيدتك الشهيرة “خروف دخل البرلمان” قوبلت بالاعجاب لكنك استفززت الاصوات لمهاجمتك حين قلت قصيدة “البقرة”… لماذا هلّلوا للخروف وغضبوا من البقرة؟
قلت (الخروف) أواخر حكم بورقيبة عام 1986/، وتحول الخروف الى (بقرة) أي أنثى الثور، أيام الثورة، والبقرة لم يرفضها الا فريق سياسي متلبّس بالحلب من ضرع البقرة.
هل تعتقد أن دعوتك للفصل بين الدّعوي والسياسي هي سبب تلك الحملة الشعواء عليك ؟
لا وجود لشعراء، في الاتجاه الإسلامي، في تونس أو لدى الإخوان، أعرف واحدا فقط، ويبدو ان الاتجاهات الإسلامية منسحبة من حكاية الأدب والثقافة والفنون من رسم وسينما، ولا تعير الفنون والآداب أهمية في البرنامج السياسي، وهي تحتقر الفنون والآداب في الصميم، وذلك لان الفنون والآداب تطرح أسئلة، وهم لا يطرحون شيئا آخر غير أجوبة من الماضي على أسئلة من الحاضر .
أما ما ذكره سؤالك، ففيه نسبة من الصحّة، وأنا مؤمن بأن الدين لله وبأن الوطن للجميع، ولا أؤمن بمن عينوا أنفسهم سفراء أو قناصل رب العالمين، أنا مؤمن بأن آخر رسالة هي رسالة محمد عليه السلام، ولا اكفّ عن تأمّل القرآن الكريم وسماعه دون أن استنجد بغير كبار الفقهاء لشرح آية مستعصية أو فيها أكثر من شرح.
قصيدتك بسيطة وتستخدم فيها غالبا القليل من الألفاظ وهي صادمة أحيانا وأحيانا مخيبة لأفق الانتظار بعد التّشويق …لا أعتقد أن دافع هذا التّوجّه الميل الى الراحة أو الإفلاس الفكري او ضعف معجمك اللغوي ؟
سبق أن كتبت قصائد طويلة مثل (عناقيد الفرح الخاوي) و(عيّاش) و(يقظان بن يونس) و(قوس الرياح)، وكانت هذه القصائد وليمة متنوعة، وكتابة القصائد القصيرة كانت مثل اللمجة الخفيفة، او السندويتش الشعري الذي يحتوي على كل ما أريد قوله في سرعة البرق، وقد لاحظت ان لا وقت للناس لسماع قصيدة طويلة، وأغنية طويلة ذات نفس كلثومي (نسبة إلى أم كلثوم، لا إلى الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم).
وهذه القصائد الومضة، كانت تجربة،،، مستمرة،،، انا ابني بالشعر البيوت الصغيرة، والشقق الفاخرة، وابني أحيانا فندقا سياحيا على بحر الشعر، او قرية كاملة فيها مواطنون من ذوي الاحتياجات الشعرية.
أما المعجم اللغوي فهو من دم القصيدة، وكل قصيدة لها فصيلة دم لغوية خاصة بها دون غيرها.
من يقرأ مقالاتك النقدية يجد نفسه في حيرة من أمره لما فيها من عمق فكري وأدبي وسياسي اضافة الى متانة الاسلوب وقوّته …لماذا اختار المزغني هذا اللون الشعري الذي كثيرا ما يساء فهمه وأحيانا يسيء له كشاعر؟
النثر، من خصائصه الوضوح، هو البيان، والبلاغ، وان كان مخلوطا أحيانا بنفحة خفيفة جدا من نسيم الشعر “مثل التوابل” وفي النثر لا بد أن تحكي وتقول ما تريد وتبين بوضوح او بنسبة منه … أما الشعر فهو منطقة مشكلة و مريحة للشاعر، وغير مريحة ومربكة أبدا للقارئ الكسول الذي يحب ان يأكل المعنى بجلده ولحمه وعظمه دون أن يقشّر العلاقات بين الكلمات / السمكات ويتأمل في الروابط التي جمعتها في بحر نص واحد.
تحظى بمحبة الجماهير ولروحك المرحة ولبساطة كلماتك لكن في الوسط الثقافي هناك من لا يحبّونك ويعيبون عليك حبك المبالغ فيه للمال ؟
انا لا أحب المال، أحب ّ فقط مالي، ومالي هو أجرتي حين أؤدي عملا، ومثال هذا هو : انأ أقرا الشعر، في مكان أو انشره في صحيفة، وهذا عمل ناتج عن عمل سابق هو : جهد في كتابة الشعر، وإعادة كتابته مرات حتى يستقر على حال من القول يمكن بعده ان يقال له : شعر.
كتابة الشعر هو عمل، أنا أتكفل به، وادفع لنفسي مقابلا ( وهذا لا يعني الناس ) أما قراءة الشعر أمام الناس في مؤسسة ثقافية أو غيرها، فهذا جهد إنساني وأنا اكره ألاّ يدفع لي حقي، والشعراء في تونس (أعدائي قبل أصدقائي) لا ينكرون أبدا أني خلقت (الدينار الشعري) أي أنّ الشعراء كانوا قبل المزغنّي لا يقبضون شيئا، (باستثناء أهل المديح في قصرِ الزعيم الحبيب بورقيبة ) . إذن فضلي كبير والحمد لله على الشعراء (الفصحى، لا الشعبيين) من الناحية النقابية وهم يعرفون هذا، ولا يهمّني وان أنكروه في العلانية أو جحدوه، وهم لا يجحدون، وأنا غنيّ جدا عن اعتراف (البخلاء) بجميلي ودفاعي عن حق الشاعر في مقابل مادي من اجل حضوره أو مشاركته في ندوة أو مهرجان أو إذاعة أو تلفزيون، أو حتى في حفلة عرس . واحلم دوما بكتابة قصيدة توهم قارءها بأنه يستطيع أن ينجز مثلها، حتى إذا حاول، أخفق، وهذا عائد إلى أن الناس يحسبون البسيط بسيطا وغير مركّب، ولا يعرف كثيرون أن أصعب شعر هو الشعر السهل .
يعيبون عليك أيضا أنك حين تتقلّد المناصب تستغلها لخدمة المقرّبين منك ومن لديك معهم مصالح وتقصي الآخرين …ماذا تقول لمن يقولون عنك هذه الأقاويل ؟
أقول لهم : اعملوا عكس ما فعلت، يا أيها الأنقياء الأوفياء الطّهورين، يا أولياء الله الصّالحين لإدارة بيت الشعر، وانصحهم، حين يتقلدون مناصب إدارية، أن (استنجدوا بأعدائكم واتركوا أصدقاءكم)، يا للتّهم الفارغة التي لا تدل إلا على كآبة في الروح وعقم في الحجة وغياب المنطق.
صوتك وحضورك المسرحي إضافة الى الصّدمة التي تخلّفها اثر كلّ ظهور وقول شعري جعل منك شخصية كاريزماتية …هل هي كاريزما أصلية أم تدرّبت عليها لإبهار الجماهير ؟
أنا هو أنا، كل ما في الأمر أني أتزوّج صوتي حين اكتب، وحين ألقي شعري، وأنا معروف عربيا بطريقة خاصة في أداء الشعر أمام الجمهور، فيظهر صوتي معي حين ألقي قصيدتي. والكاريزما لا تصنعها إلاّ الرّوح، والرّوح من أمر ربّي، كما يصنع الكاريزما العمل الدؤوب على القصيدة.
كثيرون حاولوا تقليد المزغنّي لكنهم لم يحظوا بالقبول الذي حظيت به ..ما السبب ..بماذا تنصحهم ؟
انصحهم بالزواج، حتى ان كانوا متزوجين، او متزوجات، ،،، انصحهم وانصحهن بان يتزوّجوا أصواتهم الخاصة، وأقول لهم: إنّ التّقليد شبيه بالتّقريد، فلا تقرّدوا أنفسكم بتقليدي، وابحثوا عن أنفسكم، وسوف تجدون أن في ذواتكم جمالا مخبوءا، فاكتشفوا الجمال الّذي في نفوسكم، أو ابحثوا عن شغل آخر غير الشعر.
أسلوبك في تنغيم القصيدة طريف لكن في الوسط الثقافي هناك عدة شعراء يرون أنك تعتمد أسلوبك لتسويق نصّك بما أنه حسب رأيهم غير مقنع …بماذا تردّ على هؤلاء ؟
التنغيم كان ضروريّا في قصيدة (أغنية امرأة عائدة من الحرب ) وهي متوفرة على المواقع الالكترونية نصا وإلقاء، وعملية إلقاء الشعر هي إبداع لا يستطيعه كل الشعراء في الماضي كما في الحاضر، ( بشار بن برد وأبو تمّام واحمد شوقي لم يكونوا يحسنون قراءة أشعارهم أمام الناس )، وهو أسلوب للتسويق يراه أعدائي الأعزاء غير مقنع، وأنا احتقر رأيهم هذا لأنه لا يدل على أيّ فهم للشّعر كفنّ يمكن أن يصل إلى النّاس مباشرة بصوت الشاعر، والشعر كان مضمارا للغناء، وهذا كلام قاله القدامى، بل إن هؤلاء الأعداء الأعزّاء يعانون من حبال صوتية تصلح للأحقاد ولا تصلح للإنشاد، كما يعرفون عقدة اسمها ببساطة (عقدة المزغنّي).
في عدّة تدوينات على صفحتك الفايسبوكيّة ذكرت أنّك كثيرا ما تشعر بالاستياء بسبب الحسد والحساد في الوسط الثقافي ؟
قال عمر بن أبي ربيعة (وقديما كان في الناس الحسد) وبعده قال المتنبي (إني وان لم ألّم حاسديّ فما أنكِرُ أنّي عقوبةٌ لهُمّ
أحيانا مجرد وجودك في الحياة هو عقوبة لغيرك.
والآن، صرت أمرضُ حين لا ألاقي حسّادي، كثّر الله خيرهم، فهم يخدمونني ب (بلاش)مجانا، وتطوّعا خالصا لوجه الغيرة والحقد، والنميمة، وهي ضرورية للحياة النفسية، ولا يخلو منها أي وسط من أوساط النشاط الإنساني .
لقصائدك ملامح خاصة بها وصوت يمكن فرزه من بين الالاف من الأصوات ومنذ مجموعتك “عناقيد الفرح الخاوي” سنة 1981 الى ديوان “مشاعر” باقسامه حبات محبات وغيرها من الأقسام لم يتغير أسلوبك وصوتك الشعري يمكن القول أنك حافظت على ثوابتك الفنّية رغم مرور أكثر من خمس وثلاثين سنة على انطلاق تجربتك الشّعريّة … هل تعتقد ان هذا ميزة أم عيب ؟
الشخصية الشعرية ضرورة لكل شاعر، وانعدامها يعني أنّ السّاحة الشّعرية تشابهت وتشوّهت، وتشاكلت، و( تشلّكت ) والشّخصية هي البصمة الخاصة والاستثنائية، والبصمة عِلمٌ ساعد شرطة الجريمة على كشف الكثير من مرتكبي الجرائم، فكل قصيدة اكتبها أو مقال، او حوار كهذا، هو دالّ على قائله إذا كان ذا شخصية ذاتية وذا خصوصية مميزة له عن بقية القطيع، ولذلك ترى اغلب السياسيين أو النقابيين لا يتكلمون بأسمائهم، بل بأسماء الجهات أو المنظمات التي كلفتهم بالتعبير وبالخطاب.
في مرثيّتك للشاعر الراحل محمّد الصغير أولاد أحمد قلت :
“محمد
ما بيننا لا يقيم القيامة
لقد خندقوك يسارا
وفندقوني يمينا
سدى في سدى يا محمد “
هل لهذا القول علاقة بما قيل أنك يوما أخذت منصب مدير بيت الشعر من صديقك بعد ان تمّ عزله بطريقة يمكن القول إنها مهينة ؟
لا دخل لي في طريقة عزل أولاد احمد عن إدارة بيت الشعر، وبيني وبينه ما لا يستطيع احد غيرنا، وقلة نادرة، ان يعرفوه عن علاقة جميلة، صادقة، ودافئة. أنا وأولاد احمد متفقان على تعاريف الشعر الكثيرة ومختلفان في كتابته، وبيننا حب لا يقدره إلّا قلّة من أصدقائنا المشتركين، وقد ترجمت كل ما شعرت به إزاءه عبر قصيدتي الرثائية الوجيزة والوحيدة التي كتبتها بعد رحيله، ونشرت في تونس، في التلفزيون وفي الصحافة، وفي مجلة ( نزوى / سلطنة عمان) لمن يريد أن يقرأ . وعنوانها (أولاد أحمد) وهي موجودة على النت.
_16_ما أخبار حقل النّفط الذي وقع اكتشافه في أرض آل المزغنّي بصفاقس ؟
المسألة الآن متوقفة، ولا نعرف ما قصة محاولات التنقيب، ومن هي هذه الشركات الأجنبية، وما علاقتها بالوزارة المختصة، وهل هناك نفط ام شيء آخر، لا اعرف ولست مهندسا جيولوجيا، اسألي أهل العلم ؟ وقد يكون الأمر مجرد جس نبض لبطن الأرض وما أنا إلا واحد من مجموعة المالكين.. ولكل حادث حديث كما يقال.
اللحظة السّياسيّة التي عاشتها تونس منذ ليلة 25 جويلية والتي اعتبرها الاسلاميون انقلابا كتبت قصيدتك “انقلاب” والتي قلت فيها وان غابت التسميات وعم الضّباب ..ولم تلق بين القواميس أي جواب سوى الطرح والضرب عند الحساب …فلا تتردد وقل للسّحاب ..أهذا انقلاب ..سيمطر منه الجواب …وهذا انقلاب على الانقلاب….هل انت متفائل بمستقبل افضل لتونس اثر هذا الانقلاب على الانقلاب؟
أنا متفائل بمستقبل تونس، بلادي الصغيرة العملاقة، أما الرئيس قيس سعيّد، فلا مناص من التذكير بأنه منتخب انتخابا حرّا، لا لبس فيه ولا تزييف أصوات، وهو رجل صادق في نواياه الوطنية، ولا ينقصنا غير أمثاله، وكل من موقعه، واختصاصه، للتعاون من اجل مصلحة الوطن، لقد انتخبته، وأنا مقتنع بأنه الأفضل لحدّ كتابة هذه الكلمة .
نشر بأسيوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 مارس 2022