الشارع المغاربي-معز زيّود:هل كشف حجّ الغريبة بجزيرة جربة لهذا العام ما كان مستورًا بشأن التطبيع غير المعلن مع الكيان الصهيوني المحتلّ؟ ماذا إذن عن الخطاب المزمجر لقيس سعيّد وتوصيفه، قُبيل فوزه بكرسي الرئاسة، للتطبيع بأنّه “خيانة عظمى”؟ مؤشرات عديدة تُثبت أنّه خطاب مفرغ من أيّ مضمون، غير الخديعة والخذلان…
الغريبة مفتاح التطبيع
معلوم أنّ معبد الغريبة بجزيرة جربة -الذي يُؤكّد القائمون عليه أنّه شُيّد قبل نحو خمسة قرون قبل الميلاد- يستقبل أواسط شهر ماي من كلّ عام حجّاجا يهودا من مختلف أصقاع العالم. ولئن كان معظم الزائرين من أصول تونسيّة قبل أن يهاجروا هم أو أجدادهم إلى الخارج فإنّ من بين هؤلاء سيّاحا يهودا لا صلة تاريخيّة لهم بتونس، وإنّما استقدمتهم وكالات الأسفار كأيّ سيّاح آخرين. وكان معلومًا للمتبصّرين أيضا أنّه منذ عقود كثيرا ما يُشارك في هذا الحجّ سيّاح قادمون من دولة الاحتلال الإسرائيلي، ولكن دون أن يأتوا في رحلات مباشرة من تل أبيب. كما كان التقليد يقتضي ألّا يستخدموا جوزات سفر إسرائيليّة وإنّما جوازات أو وثائق سفر من دول أخرى غالبا ما تكون أوروبيّة المنشأ. هكذا كانت سلطات الحدود التونسيّة تغضّ البصر، بوعي، عن تفاصيل تُدرك أبعاد ما ورائها. ورغم أنّ عدد هؤلاء السيّاح اليهود كان ضئيلا جدّا بالمقارنة مع عدد السيّاح المتدفّقين على جزيرة جربة سنويّا، فإنّ مرور تلك المناسبة بسلام كان غالبا ما يُعدّ لاعتبارات أمنيّة مؤشرًا على انتظار موسم سياحي واعد. ودليل ذلك أنّ الاعتداء الإرهابي على معبد الغريبة عام 2002 شكّل آنذاك ضربة قاصمة للقطاع السياحي في البلاد لمواسم عديدة لاحقة.
وللعلم، فقد سبق لليهود التونسيّين المشرفين على هذه التظاهرة أن حاولوا ممارسة ضغوط على السلطات التونسيّة عبر المطالبة، ولو بنوع من الاحتشام، بالقبول بتأمين رحلات سياحيّة مباشرة بهذه المناسبة السنويّة من تلّ أبيب إلى تونس بما من شأنه أن يُتيح زيادة عدد الزائرين اليهود بأضعاف عديدة، كما هو الحال بالنسبة إلى المغرب، غير أنّ تلك المحاولات باءت بالفشل لاعتبارات معروفة، وتتعلّق بثوابت الدبلوماسيّة التونسيّة في هذا المضمار. أمّا اليوم، فيبدو أنّ ما بلغته الدولة التونسيّة من ضعف واستضعاف قد أدّى إلى انتهاك معلن لكلّ الثوابت.
وبلغ الأمر حدّ نشر وكالات أسفار إسرائيليّة إعلانات ترويجيّة عن اعتزامها تنظيم رحلات من إسرائيل إلى تونس لمواكبة موسم الحجّ إلى كنيس الغريبة بجزيرة جربة التونسيّة. أربع رحلات ذكرت إحدى وكالات الأسفار أنّها ستنطلق، أيّام 12 و13 و14 و19، من مطار بن غوريون بتل أبيب إلى مطار تونس قرطاج الدولي مرورا بمدينة أجنبيّة أخرى، تبيّن في ما بعد أنّه يتعلّق بمطار أسطنبول التركي. أثار ذلك طبعا استنكارا كبيرا لدى التونسيّين الذين تناقلوا إعلان وكالة الأسفار ذات الصلة على صفحتها بشبكة “فيسبوك”، ولاسيما أنّه جاء بعد يومين من اغتيال أحد قنّاصة جيش الاحتلال الصهيوني الصحفيّة الفلسطينيّة شيرين أبو عاقلة.
استضعاف الدولة التونسيّة
ممّا زاد حالة الامتعاض أنّ وكالة الأسفار الأوروبيّة/الإسرائيليّة بيّنت أنّ تلك الرحلات ستتضمّن زيارة العديد من المدن والمعالم التاريخيّة والسياحيّة في تونس. وبصرف النظر عن دلالات هذا “التطبيع السياحي” فإنّ ذلك يعني أنّ السلطات التونسيّة على علم تامّ بهذه البرمجة، بل ومن المؤكّد أنّها أعطت موافقتها القبليّة عليها منذ فترة، باعتبار أنّها ستقوم بالتأمين والمرافقة الأمنيّة لكلّ تحرّكات تلك الوفود الإسرائيليّة في تونس طيلة الأيّام العشرة للزيارة. وهو ما لا يخفى طبعًا عن شركة أسفار وزير السياحة الأسبق وابن جزيرة جربة اليهود التونسي روني الطرابلسي المقيم بفرنسا، لاسيما أنّه تعوّد منذ سنوات طويلة على تأمين رحلات موسم الحجّ إلى كنيس “الغريبة”. كما أنّه يُعدّ الشخصيّة اليهوديّة الأكثر إدراكا للمكامن التي تُؤكل منها الكتف، باعتباره على علم بأدقّ التفاصيل المتعلّقة -لا فقط بالسياحة التونسيّة- وإنّما بأوضاع البلاد على كافّة الأصعدة. ولا شكّ أنّ له صلة مباشرة بمختلف التفاهمات التي جرت بشأن هذه الرحلات. وبما أنّه رجل ميدان ومقاول سياسة لا يهتمّ إلّا بتحقيق الربح، فإنّه يدرك قبل غيره أنّ خطاب الرئيس قيس سعيّد بشأن تخوين التطبيع ليس سوى عبارات للاستهلاك الداخلي من دون أدنى مضمون، وخاصّة في ظلّ الظروف الدقيقة التي تمرّ بها الدولة التونسيّة والضغوط الكبرى الممارسة على رأس السلطة.
ولا أدلّ على ذلك من أنّ فعاليات الزيارة السنويّة لكنيس الغريبة بجزيرة جربة اتّسمت هذا العام بطابع رسمي غير مسبوق بل غير مبرّر، تجسّد في مشاركة رئيسة الحكومة نجلاء بودن في الاحتفالات المذكورة على رأس وفد حكومي ضمّ أيضا وزيري السياحة والشؤون الدينية، في حين كان سابقا يقتصر على حضور وزير السياحة.
اتّضح اليوم إذن، وأكثر من أيّ وقت سابق، أنّ الرئيس قيس سعيّد لا يختلف عن سابقيه في ما يتعلّق بقضيّة التطبيع. فلو كان متمسّكا بموقفه المعلن خلال الحملة الانتخابيّة لسارع بإصدار مرسوم يُجرّمه، وهو الذي يجمع بين يديه كلّ الصلاحيّات التشريعيّة والتنفيذيّة. ألم يصدر الرئيس سعيّد على سبيل الذكر مرسومًا جرّم بمقتضاه الاحتكار والمضاربة وشدّد العقوبات في هذا المضمار بشكل غير مسبوق. إذن ما الذي يمنعه من تفعيل المضمون المعلن لخطابه بشأن تخوين التطبيع، كالقانون المجرّم للتطبيع الذي أقرّته السلطات العراقيّة مثلا منذ أسابيع؟!. يكشف ذلك طبعا مدى ازدواجيّة خطاب رئيس الجمهوريّة بهذا الشأن.
ومن الواضح أنّ الحسابات السياسيّة للربح والخسارة تمنعه من الإيفاء بأحد اهمّ تعهّداته، فهو القائل إنّ “التطبيع خيانة عظمى”، وهو من يمتلك كلّ الصلاحيات اليوم لإصدار أي مرسوم يريد. ولا يخفى في الحقيقة أنّ إصدار مرسوم يُجرّم التطبيع اليوم من شأنه أن يُنهي آمال الحكومة في إبرام اتّفاق تمويل مع صندوق النقد الدولي. فلا ينبغي أن ننسى بأنّ اللوبي الصهيوني متغلغل في المؤسّسات الماليّة العالميّة، وخاصّة في الإدارة الأمريكيّة المتحكّمة قبل أيّ جهة أخرى في قرار صندوق النقد الدولي والعديد من المؤسّسات الماليّة الكبرى الأخرى.
إحراج وتوزيع أدوار
كان منتظرا طبعا أن تحاول السلطات التونسيّة امتصاص الغضب الشعبي بشأن الأنشطة التطبيعيّة التي وجدت نفسها مضطرّة للسكوت عنها. وممّا عمّق حالة الإحراج المقصود التي مارسها عدد من المشاركين في الوفود الإسرائيليّة وفي مقدّمتهم الناشط الصهيوني إيدي كوهين الذي وجّه رسالة شكر مسمومة إلى الرئيس قيس سعيد، معربًا عن شكره “لسماحه لمئات الإسرائيليّين بدخول تونس والمشاركة في زيارة الغريبة”. وخلال الأيّام القليلة الماضية تحرّك العديد من أعضاء الحكومة للتأكيد على مواقف تونس الثابتة من رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني. وفي هذا السياق، علّق وزير الشؤون الدينية إبراهيم الشايبي على الإتهامات الموجّهة إلى رئيس الجمهوريّة والجكومة بشأن التطبيع المتزامن مع الزيارة السنوية للغريبة في جزيرة جربة، معتبرا أن تلك “الإتهامات تعدّ مزايدات ومتاجرة بهدف تسجيل نقاط سياسية”. كما شدّد على أنّ “الإتهامات بالتطبيع تضرب صورة تونس وتمسّ من جزيرة جربة”. وعلى الأرجح أنّ الوزير يقصد اتّهامات حركة النهضة التي قالت حرفيّا في بيان مكتبها التنفيذي، الصادر منذ أيّام، “إنها ترفض استغلال موسم الغريبة لتمرير أشكال من التطبيع”. والحال أنّ حركة النهضة هي أساسا التي حالت سابقا دون تمرير مشروع تجريم التطبيع بمجلس نوّاب الشعب حين كانت تُهيمن على الأغلبية، بحكم علاقاتها المحكومة بمهادنة الإدارة الأمريكيّة. وفي اواقع ما يضرب صورة تونس في العمق هو ما تمارسه السلطة والمعارضة من استخفاف بالخطاب وبعقول التونسيّين قبل كلّ شيء، لأنّه تبيّن بالمكشوف حجم الخديعة المتعلّقة بقضيّة بتجريم التطبيع من قبل كاّفة الحكومات المتعاقبة بعد الثورة…
ولا ريب أنّ هذه المواقف الرسميّة إنّما تندرج ضمن محاولة توزيع الأدوار. وهو ما يدخل ضمن مناورات سياسيّة تحاول التغطية على ازدواجيّة الخطاب والفعل السياسيّين. ويعني ذلك أنّه تُرك لهؤلاء الوزراء هامش من التحرّك السياسي، لكنّه لن يُغيّر شيئا من واقع الحال. ومع ذلك قد يكون هؤلاء الوزراء في وضع أفضل من رئيسة الحكومة نجلاء بودن التي بقيت تحرّكاتها محسوبة بالخطوة من أصحاب القصر الرئاسي الذين دفعوا بها للمشاركة في احتفالات الغريبة على غير العادة.
وهل يخفى أنّها ليست هذه المرّة الأولى التي يُدير فيها رئيس الدولة ظهره للفلسطينيّين. فقد سبق له، باعتباره المسؤول الأوّل عن السياسة الخارجيّة التونسيّة، أن أقدم على إقالة سفير تونس لدى الأمم المتحدة بنيويورك المنصف البعتي، بعد ضغوط أمريكيّة في عهد الرئيس دونالد ترامب، لأنّه شارك باسم تونس في صياغة مشروع قرار دولي يُدين ما سُمّي بـ”صفقة القرن” الأمريكيّة المنتهكة للقانون الدولي والهادفة إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة. فالذنب الوحيد لسفير تونس لدى الأمم المتحدة آنذاك أنّه تمسّك بثوابت الدبلوماسيّة التونسيّة في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة، كما ذهب في ظنّه إلى أنّ حراكه ذاك يتناغم مع توجّهات رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد بخصوص القضيّة الفلسطينيّة ورفض التطبيع المجّاني مع الكيان الصهيوني وفضيحة “صفقة القرن”. ورغم خبرته الدبلوماسيّة الطويلة لم يستوعب آنذاك أنّ خطاب رئيس الدولة لم يكن سوى خطاب انفعالي زمن الحملة الانتخابيّة لا صلة له كليّا بواقع سياسته الخارجيّة.
وعموما لا ندري إن كان الرئيس سعيّد يُدرك فعلا أنّ خطابه بشأن الرفض القاطع للتطبيع وتخوينه قد بات من قبيل الهذيان المكشوف. فالسياسة ليست مجرّد تهديد ووعيد وخطاب مزبد بلا مضمون، وإنّما هي فعل لم نعد نرى له مكانا في أولويات صاحب السلطة…
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 31 ماي 2022