الشارع المغاربي: بنشر قيس سعيد لمشروع دستوره الجديد مساء 30 جوان الجاري، دخلت البلاد طورا جديدا من أزمتها السياسية المتواصلة والتي يصر الحكام المتعاقبون على مزيد تعميقها. لقد انبرى جزء من الرأي العام الشعبي والمسيس إلى انتظار مشروع الدستور علّه ” يحمل الشفاء أو بعض الشفاء” لعلات تونس وندوبها العميقة، هكذا استمات بعض أصدقائنا من اللذين ساندوا “لحظة 25 جويلية 2021”. لكم يبدو أن لفيفا واسعا من “أصحاب النية الطيبة” استفاقوا على لطمة كبرى، فمشروع الدستور لم يأتي لحلّ المعضلات بما فيها التي كرسها أو عمقها دستور 2014، بل لقد جاء كسوة جاهزة على قياس سيدنا الرئيس، هذا الذي صورته الدعاية الفجة لأنصاره أنه متزهد في السلطة وفي كرسيها ومغانمها، لكن هاهي الحياة تؤكد عكس ذلك، وها هي وثيقة الدستور الجديد التي خطها بيده راميا كل الأفكار التي طلبها من مسانديه ومؤيديه في سلة المهملات، تؤكد بالدليل والبرهان والحجة القطعية أن سيدنا طالب سلطة ومريد كرسي، وأنه خاط وفصّل الدستور بما يجسد ذلك وبما يجعله ينتصب حاكما فرديا لا رادّ لحكمه ولا رقابة عليه ولا مساءلة لأدائه اليوم وغدا وبعد غد وحتى الممات.
إن مشروع دستور 30 جوان ليس سوى دستور الحاكم المستبد، دستور صاغه فرد هو اليوم على رأس السلطة بلغته المعلومة وأفكاره التي لا يشاركه فيها إلا صيادي الفرص من الانتهازيين ومسدي الخدمات(les arrivistes) ، أفكار عكستها ديباجة مشروعه التي اعتبر فيها أن تاريخ تونس بدأ معه، إذ بعد الإرث الدستوري للقرن التاسع عشر بما فيه “الزمام الأحمر” في القرن السابع عشر، قفز إلى “الصعود الشاهق” (لفظ كان موسليني يستعمله كثيرا؟؟؟) ل17 ديسمبر 2010 ثم وبسرعة قياسية إلى 25 جويلية2021 التي اعتبرها ليست لحظة تصحيح مسار الثورة فحسب، بل لحظة تصحيح التاريخ والدخول إلى مرحلة جديدة، فهل بعد هذا الكلام يمكن أن يجد سعيد عاقلا واحدا في برّ تونس يمكن أن يوافقه هذه المقاربة. لقد فسخ بجرة قلم تاريخ تونس المعاصر ونضال شعبها أثناء حركة التحرر الوطني ثم النضال ضد الاستبداد والدكتاتورية وصولا إلى لحظة 14 جانفي كلحظة انتصار على الدكتاتورية. إن سعيد المهووس بالفردانية والزعامتية يعيد صياغة تاريخ البلاد بشكل تآمري لإلغاء نضالات الشعب وقواه التقدمية، ولو كان سعيد من أصحاب الرأي والنضال قبل الثورة لكان تفصيل التاريخ على مقاسه أفظع .
دستور استبدادي وظلامي
ولما كان سعيد يمينيا ومحافظا بل وموغلا في الرجعية وهو ما أكدته مواقفه وخطبه قبل وصوله إلى قصر قرطاج وبعده، فقد أكد مرة أخرى رفضه وعدم احتكامه إلى المبادئ والقيم الكونية لحقوق الإنسان، بل وعدائه للدولة المدنية من خلال رمي لغم في مشروعه من خلال الفصل الخامس الذي ينص على كون تونس جزء من الأمة الإسلامية (وليس الأمة العربية باعتبارها الكيان القومي الذي تعتبر تونس جزء منه)، وأن الدولة مطالبة باحتكار تطبيق مقاصد الإسلام، نقول لغم لأن الفصل الخامس هو فصل ذي صبغة عامة (article générique ) وهو من الباب الأول (باب الأحكام العامة)، أي أنه سيجد صداه وحضوره ومرجعيته في تأويل نصوص الدستور، وأيضا وأساسا في صياغة الترسانة القانونية سواء المعتمدة اليوم أو التي ستسن في المستقبل. أن هذا الفصل سيفتح على الشعب والمجتمع باب جهنم، والإسلام في سياق الفصل ليس مقصودا به العقيدة بل هو الشريعة، ونحن نعلم أن مقاصد الشريعة من الناحية الفقهية هي مسألة فضفاضة تتنوع فيها الأحكام وتتناقض، والقراءة المقاصدية هي ذاتها محكومة بنفس قانون التعدد والتناقض، فمقاصدية الطاهر الحداد ومحمد الطالبي ويوسف الصديق هي غير مقاصدية القرضاوي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن حنبل التي تنهل منها اليوم التيارات الأكثر ظلامية وفضاعة مثل الوهابية ومجمل الحركات الاخوانية. لقد رمى قيس سعيد لغما من شأنه تدمير تونس ذات التقاليد العقلانية والتنويرية، فهل كتب علينا اليوم أن نعود القهقرى ونناقش أي مقاصدية ستطبقها تونس في العقد الثالث من الألفية الثالثة؟ هل يجب أن نجادل وأن نختار بين مقاصدية طالبان أم العربية السعودية، بين المقاصدية التقليدية للملك سلمان أم المقاصدية العصرانية لابنه الأمير محمد بن سلمان والرئيس محمد بن زايد والشيخ تميم بن خليفة كنماذج ل “الشريعة لايت ” التي صاغتها مخابر القرار الامريكو-صهيوني ضمن مقارنة “الشرق الأوسط الجديد” والتي قدمت راشد الغنوشي رمزا للاعتدال والحداثة. إن هذا الفصل لم يتجرأ حتى غلاة النهضة في المجلس التأسيسي على التمسك به لا اقتناعا بل انهزاما أم التحركات الشعبية الكبرى وفي مقدمتها النساء ضد مشروع دستور 1 جوان 2013 لحركة النهضة الظلامية. لقد فرض الحراك المدني التقدمي على النهضة رغم أغلبيتها في المجلس التأسيسي أن تقبل بالفصل الثاني الذي يقر بمدنية الدولة وسيادة الشعب كمصدر للشرعية وفرض أن لا يقبل هذا الفصل التحوير. إن دستور سعيد يحمل انتكاسة كبرى ويحمل بذور حرب أهلية وعودة للنضال الديمقراطي إلى مربعاته الأولى رفضا للدولة الدينية وانتصارا لدولة القانون والحريات التي ناضلت من أجلها الأجيال في تونس. إن دستور سعيد هو تأسيس لدولة الاستبداد الديني وليس الاستبداد المدني أو الاستبداد المستنير الذي يطالب به جزء من النخب المنهزمة أمام فشل تجربة ديمقراطية الفساد. إن قناعتنا عميقة حتى من خلال الفصل الخامس لوحده أن دستور 30 جوان 2022 هو استعادة وإحياء لدستور 1 جوان 2013 الظلامي. وهذا يعزز قناعتنا أن الصراع بين سعيد وحركة النهضة لم يكن في يوم صراع خيارات وبرامج بل هو صراع كراسي ومواقع لا غير.
وهل يمكن لعاقل أن يدافع عن دستور لا ينصص على الانتخاب العام المباشر والسري لمجلس النواب ومجلس الجهات والأقاليم؟ أليست هذه مخاتلة، لكنها مخاتلة معلومة من الجميع لاعتماد الانتخاب غير المباشر وتكريس الفكرة الفوضوية الشعبوية المدمرة المسماة “البناء القاعدي” التي تستعيد كل علاقات الزبونية والولاء الاقتصادي والقبلي في أفق إنتاج هياكل السلطة/الوظيفة التشريعية اعتمادا على القرعة؟ ألهذه الدرجة وصلت السذاجة بالبعض كي ينتصب مدافعا عن أفكار موغلة في الطوباوية؟ الخوف كل الخوف أن يكون التفطن لهذه السذاجة بعد أن يكون “فاتنا القطار” و”كل يد شدت أختها” ليخسر علينا “أصدقائنا” وقتها “غلطتونا، نعم غلطونا” وتكون البلاد والشعب قد خسرا وقتا آخر وراء دروشة وجنون ومغامرة اعتقد العديد منا أننا بمنأى عنها.
تناقض شعبوية سعيد وظلامية النهضة وهمي
إن الدليل الفاقع على وحدة الجوهر بين سعيد وحركة النهضة ليس في القناعات الإيديولوجية العامة التي تنهل من الإرث الرجعي والظلامي السني والشيعي فحسب، بل وأيضا من خلال وحدة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والارتباطات الإقليمية والدولية، فكلاهما رغم شعاراته الدعائية، يكرس نفس الخيارات القائمة على التبعية والخضوع لدوائر القرار المالي والاقتصادي العالمي، وهاهي حكومة سيادته تشرع اليوم في التفاوض مع صندوق النقد الدولة خاضعة وقابلة بكل الاملاءات والوصفات من مراجعة لكتلة الأجور وتجميد للانتدابات وإلغاء لصندوق الدعم وخوصصة لما بقي من المؤسسات العمومية، حكومة سعيد (و ليست الا حكومة سعيد) تفاوض وتخضع وتنصاع مثل أي حكومة تابعة وغير محتكمة لخيارات وطنية وشعبية، مثلها مثل حكومة المشيشي والشاهد والصيد والعريض والجبالي وبن علي وبورقيبة، كلهم يحملون نفس الجوهر الطبقي اللاوطني واللاشعبي. وهذا يحيلنا إلى دفاع بعض “الرفاق” عن سعيد وانخراطهم في مساندته (حتى لا نقول مبايعته). فعلى أي أساس تمت صياغة هذا الموقف؟ فاليسار عموما وفي مجمل العالم يصوغ مواقفه على خلفية الخيارات الطبقية الاقتصادية والاجتماعية إن كانت منحازة للفقراء والكادحين أم منحازة للأثرياء واللصوص (بلغتنا نحن اليساريين)؟ فما هو المنوال المطبق اليوم في بلادنا؟ أو ليس هو نفس منوال ذات الطبقات التي تنهب وتسيطر وتحكم تونس فعليا؟ هل انزاح الكمبرادور والوكلاء ومافيات الريع والتهرب والتهريب والاستغلال والفساد أم مازالوا يحكمون قبضتهم ؟
قد يجادلنا البعض بما ورد في الفصل 16 من كون ثروات البلاد ملك للشعب والدولة توزع عائداتها بالعدل وأن الاتفاقيات الاقتصادية يجب أن تعرض على مجلسي النواب والجهات والأقاليم. أولا مثل هذا الفصل وبهذه الصياغة تقريبا موجود في أغلب دساتير الدول الليبرالية المتوحشة، ثانيا المشكل ليس في إقرار ملكية الشعب لمقدراته، المشكل في دور الدولة وأجهزتها التي ليست سوى أجهزة طبقية تكرس الخيارات السائدة، ألم يتحول البرلمان منذ 2011 إلى مكتب ضبط لتمرير كل الاتفاقيات المهينة لتونس وشعبها وشعارات ثورتها؟ ألا يتحول الرائد الرسمي في أغلب أعداده إن لم نقل كلها إلى نشرة لسن أو تجديد وتمديد الاتفاقيات الاستعمارية الجديدة التي ظلت تحكم تونس منذ عقود، وهي قوانين مذيلة بإمضاء سيادته رغم خطاباته الشعبوية.
ان بلادنا فرض عليها اليوم دخول طور جديد من الازمة العامة والعميقة والشاملة، وان عودة الوعي والتقاط اللحظة التاريخية لتفويت الفرصة عن مزيد الولوج إلى المجهول، تظل ممكنة بل وضرورية، إن نساء تونس وسبابها ومثقفيها ومبدعيها، سياسييها التقدميين ونقابييها ومجمل نشطائها قادرات وقادرون على قلب السحر على الساحر. ان قدر تونس ليس 25 جويلية الشعبوي ولا 24 منه الظلامي ولا 13 جانفي الدكتاتوري، إن تونس ديمقراطية تقدمية عادلة وحرة ومستقلة أكثر من ضرورية اليوم، وهذا الحد الجامع يمكن أن يكون أساسا لقطب وطني شعبي ديمقراطي يناقض الشعبوية والظلامية والدساترة سليلي الدكتاتورية، غير هذا سيضيع وقت ثمين وثمين جدا.
*نُشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 5 جويلية 2022.