الشارع المغاربي: حين اطلقت الرصاصة الأولى في الحرب الاوكرانية في فيفري الفارط، اختلفت القراءات حول مساراتها ومآلاتها. اسهمت الآلة الإعلامية الغربية وعلى رأسها الثنائي الاستخباراتي – الدعائي البريطاني في الترويج لسيناريوهات تنبىء بانهيار الجيش الروسي وبغرقه في مستنقع كييف وباندلاع انتفاضات الجوع في شوارع موسكو جراء الأزمة الاقتصادية الحتمية التي ستعصف ببوتين وبآلته الانتاجية الضعيفة مقارنة بالمارد الأوروبي.
مرت اكثر من ستة اشهر وبدأ ضباب الپروپاغاندا ينقشع عن واقع اغفلته مراكز الاستشراف الغربية واكتشف الناس، عبر العالم، مدى ارتهان الاقتصاد الاوروبي للامدادات الطاقية القادمة من روسيا وتغير خارطة استجرار الغاز التي بينت نزوح مركز الثقل الصناعي من القارة العجوز نحو الصين. حيث اقتنت امبراطورية الوسط الجزء الأعظم من السيل الأزرق الموجه سابقا لاوروبا وحولته الى مصانعها ومدنها التي ادارت عجلة الانتاج بأسرع وتيرة لكسب اسواق ما بعد الجائحة.
لكن الشح الطاقي لم يكن سوى أداة تظهير الأزمة البنيوية ومتعددة الأبعاد التي اجتاحت أوروبا وجسدتها تحركات الشارع في عواصم القارة المطالبة بتحسين الظروف المعيشية والقدرة الشرائية التي طحنتها مستويات قياسية لمؤشرات التضخم والتداين.
في هذا المنعرج، تحدث الرئيس ماكرون في مناسبتين متقاربتين كانت الأولى في أواخر أوت والثانية في الأول من سبتمبر وصرح تباعا ان “علينا نسيان عصر الوفرة” وأكد امام المجمع الديبلوماسي للسفراء “ان العالم يعيش اليوم انقلابا جيوسياسيا (…) وان لا بديل امامنا الا بالتواصل مع موسكو”.
هل يمكن، بعد تواتر التصريحين، الحديث عن فرضية قبول الغرب، او على الأقل، احدى قاطراته السياسية في أوروبا، بواقع تعدد القطبية وأفول الهيمنة الأمريكية الحصرية على العالم؟
ان كان من المبكر جدا الاقرار بانتصار الارادة الروسية عبر انجاز عمليتها الامنية في الوضع الحالي، فانه من الممكن اعتبار اكرانيا بجغرافيتها السابقة وبدورها الجيوسياسي الذي البسته اياها الادارات الامريكية المتعاقبة تنفيذا لعقيدة بريزنسكي التي شرحها في مؤلفه “رقعة الشطرنج الكبرى” ومن قبله سپاكمان في تنظيره لمقولة “ارض الحلقة” (Rimland) قد اصبحا من مجال التاريخ والماضي.
لكن رقعة الانحسار الجيوستراتيجي الغربي والأطلسي تحديدا قد عرفت محططات متتالية في المدة الأخيرة ابتدأت من الانسحاب الفوضوي من كابول وتواصلت مع انهيار عملية “برخان” وتاكوبا” في شمال مالي وانتهت بالصراعات الداخلية ضمن الحلفاء كاحتدام التناقض بين تركيا واليونان او عدم المجر المعلن من اي مقاطعة اقتصادية او طاقية مع روسيا.
كانت عديد الكتابات الاستشرافية الجيدة والمستنيرة زمن الجائحة تدعو الى اعتماد مسار “اعادة التشغيل العظمى” (The great reset) بناءا على قيم العدل وانصاف الدول الافقر والطبقات المهمشة داخل مجتمعات الوفرة وبناء اقتصاد الاستدامة. ومن اهم المبادىء التي قدمها اصحاب هذا المشروع، اعتماد العدالة والسلم ونبذ الحرب باعتبارها شكلا اقصى من تفكيك اسس الحياة.
كل هذه القيم انهارت حين استنفرت القوى الغربية آلتها الحربية والاعلامية لتقف الى جانب اكرانيا في حرب لم يكشف عن اهم تبريراتها ومغازيها، فقط للحفاظ عن تفوق استراتيجي تآكل بفعل حروب مستمرة وتحولات عميقة في موازين القوى.
لكن عمق الأزمة الاجتماعية والمعيشية واقرار زعماء المانيا، اقوى اقتصاد في اوروبا، بحتمية التقنين الطاقي وبضرورة التوصل الى اتفاق لانهاء الصراع في اكرانيا قبل موجات الشتاء، تؤشر لقناعة القيادات الغربية بعدم قدرة مجتمعاتهم على تحمل اثمان “نهاية الوفرة” ولخطورة الانفجارات المطلبية في الدول المجاورة لاوروبا.
قد تنجح الدول الاوروبية في تحمل عبء النقص في الامدادات الطاقية وانفلات التضخم وانخرام الاوضاع المعيشية لأطياف مجتمعية بالإعتماد على التداين والضغط على تكاليف الخدمات لكنها، في ظل العولمة وهشاشة السيطرة على الحدود وكثافة العلاقات مع الجوار المغاربي والشرق اوسطي، قد تعجز عن تأمين امنها داخليا من موجات هجرة كبرى وخارجيا من استهداف لمصالحها.
لذا، كل المقاربات التي لا تعتمد محددات ومصالح شعوب الاقليم، كل الاقليم، اي اوروبا وجوارها وما بعدهما في العمقين الافريقي والآسيوي ولا تخطط لحلول متكاملة تنبذ منطق التمييز بين الأمم وتحميل شعوب بعينها عبأ الأزمة، فإن القادم لن يحيد عن مسار الكارثة والحروب وفوضى السلاح.
بالمقابل، ليس الزاما على شعوبنا في المغرب العربي انتظار تبلور القناعة لدى الشركاء الاوروبيين بضرورة تقاسم اثمان الأزمة وتأثيراتها، بل علينا السعي لرسم سياساتنا وتصوراتنا لافضل السبل للتعامل مع استحقاقات المرحلة الدقيقة الحالية والقادمة.
ان اهم دروس الجائحة كانت انهيار وهم الحدود والقدرة على بناء واقع صحي ومجتمعي خارج الحالة المعولمة، فلا وجود لأرخبيل السلامة والصحة في عالم تتقاذفه موجات متعاقبة للمتحورات القاتلة. الانهيارات الاقتصادية تحمل في طبيعتها وبنيتها سمات الفيروس ولا تعترف بالحدود في ظل تشبيك المجتمعات.
بناءا على ذلك، فان أوكد المهام اليوم الدعوة لتنسيق اقليمي للاستراتيجيات الطاقية والتموينية والمالية لتفادي اي انفجار او ظهور بؤر توتر في المنطقة قد تهدد السلم الجهوي والأهلي.
من ضمن المطالب التي يمكن ادراجها في المفاوضات المتعددة الأطراف التي يستحسن ان تدعو اليها بلداننا المغاربية وبالتوازي مع رفع وتيرة الدفق الغازي نحو اوروبا وتحسين اداء الآلة الصناعية المحلية لتزويد السوق الاستهلاكية في الشمال، اعادة جدولة الديون بشكل توافقي لتخفيف وطأة السداد على الميزانية واعتماد اتفاقيات تبادل استثنائية لتغطية الحاجيات لدى كلا الطرفين ولو بالمرجعية السلعية واعداد استراتيجية شاملة للأمن الغذائي والتمويني باسعار تفاضلية توقيا من ثورة جياع.
من الممكن ان تتحول لحظة “الانقلاب الاستراتيجي” التي بشر بها الرئيس ماكرون الى اعادة صياغة العلاقات الدولية في الاقليم على اساس اكثر توازنا وابعد ما امكن عن منطق الهيمنة انقاذا للقادم من السيناريوهات الكارثية، لكن اذا تأخرنا عن فرض اسهامنا في رسم التصور الأدق للمستقبل القريب واستسلمنا للعبة الكراسي الفارغة، فان فاعلين آخرين، من شرق اوروبا وآسيا وحتى دول ابعد، قد تعمل على مقاسمة اوروبا قدرات الانقاذ وتدفع شعوب منطقتنا اثمان تهميشها.
افتتاحية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 6 سبتمبر 2022