الشارع المغاربي: سيكون الأمر أدخل في باب الادّعاء الزائف إذا ما رمنا هنا تعريف ما وسمناه “باللاّسياسة” بالخُلف، أي بما هو نقيض “السياسة” الّتي اعتبرت فنّا، وقد كُتب فيه ما يستعصي على الحصر. فهذا الادّعاء يحتّم علينا بيان “السياسة” لنكشف عن “عدمها” ممّا يجعلنا نطلب المستحيل. فلنبادر بالقول إذن أنّ “اللاسياسة” هي أيضا فنّ كما كانت السياسة أيضا فنّا بالمعنى الفلسفي المتوارث منذ نشأة الفكر الفلسفي حول شأن المدينة، غير أنّه لم يكتب فيها الكثير، وليكن كلامنا حولها من باب ما نشاهده ونسمعه في كلّ آن وحين على أرض تونس المحروسة.
ومن البديهيّ أنّ ترتبط “اللاّسياسة” في مظهرها الأوّل والبارز في الممارسة السياسيّة نفسها، تلك الممارسة الّتي تعني على سبيل الإجمال إدارة الشأن العام بأخذ قرارات ملزمة في إطار ما تضبطه الدساتير والقوانين والمعاهدات بغاية المنفعة الاجتماعيّة في كلّ ما يتعلّق بحياة الناس في معاشهم في إطار الأنظمة الّتي يقع اختيارها وبواسطة المؤسّسات الساهرة على تسيير الدولة، وذلك كلّه بقطع النظر عن شكل الدساتير والقوانين والمؤسّسات والأنظمة وطبيعتها، وبقطع النظر أيضا إن كان الممارس للسياسة في موقع قرار وسلطة ونفوذ أو كان معارضًا له يطرح بدائل أخرى لأنّه يرى فيما يقوم به من هو في السلطة غير محقّق للمنفعة العامّة. ولكن إذا ما دقّقنا النظر سنجد أنّ السياسة تتجاوز حدود “السياسة السياسيّة” الصرف لتشمل كلّ شؤون الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والإعلاميّة، وهو ما خوّل الحديث عن سياسة اقتصاديّة وأخرى اجتماعيّة أو صحّيّة أو بيئيّة أو تربويّة أو سياسة خارجيّة إلى غير ذلك، وكلّها مجتمعة في شبكة من العلاقات المركّبة والمعقّدة أحيانا ولكنّها في كلّ الأحوال مرتبطة بمن يأخذ القرار السياسي الصرف أو بمن يقدّم موقفا معارضا له تتعدّل وفقه أو تنسّب القرارات والقوانين والرؤى، وتتحدّد تبعا لذلك المخطّطات والاستراتيجيّات حسب ظروف الدولة ومحيطها ومجتمعها واحتياجاته استنادا إلى استشراف معقلن وواقعيّ واستقراء دقيق للمعطيات والتحوّلات الداخليّة والإقليميّة والعالميّة في كلّ المستويات، وهو ما يمكن تسميته “البرنامج السياسي”.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار مثل هذا التعريف المجمل الّذي قد يكون مخلاّ، جاز لنا التساؤل التالي: هل هناك سياسة في تونس بالمعنى المشار إليه؟ أو على الأقلّ في حدوده الدنيا؟
ولمحاولة طرق أبواب بعض إجابة عن هذا السؤال، وهي إجابة لا يمكن بحال إلاّ أن تكون جزئيّة جدّا، فإنّ الطريق الأوضح هو معاينة الواقع الّذي يعيشه التونسيّات والتونسيّون، بمعنى الانطلاق ممّا هو مجمع عليه من كلّ المتدخّلين في الشأن العام على كافّة الأصعدة ولا يحتاج إلى أيّ ضرب من ضروب التفصيل، وهو ما يمكن تلخيصه في القول من طرف الجميع وفي كلّ المواقع: الوضع سيّء جدّا ورديء إلى أقصى الحدود على كلّ المستويات. غير أنّ اللافت للنظر أنّ التنازع و”النقاش العام” (ونقول ذلك من باب التجاوز إذ ليس هناك نقاش)، يقوم على نقطتين رئيسيّتين تؤدّي أولاهما إلى الثانية. بالنسبة إلى النقطة الأولى فهي توصيف الوضع لدى كلّ المتدخّلين، وهو توصيف لا يرتبط بتقييم الحالة الّتي عليها البلاد بغاية الوقوف على مشاكلها الحقيقيّة لمعالجتها، بل توصيف “للكارثة” لتوجيه الاتّهام إلى الطرف المقابل واعتباره مسؤولا ومذنبا وهو ما يمثّل النقطة الثانية الّتي غدت الهدف الرئيسيّ والنهائيّ لكل خطاب سياسيّ بالمعنى العام، ولا يتعدّى هذا “النقاش” تلك الغاية إلى طرح سياسيّ في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافيّة والبيئيّة والتربويّة والصحّية والديبلوماسيّة وغيرها. وهذا الوضع يجعل من ممارسة السياسة في تونس منذ سنوات أشبه ما تكون بـ “عرك الحوِمْ” الّتي لا قانون فيها ولا ضابط لها وليس لها من هدف سوى هزم الخصم بكلّ التكاليف وإن أدّى الأمر إلى هدم “الحومة” فهي ليست بالنسبة إلى المتخاصمين سوى حلبة صراع لا هدف له إلاّ الصراع في حدّ ذاته، ودون حَكم يعلن نهاية العراك، ذلك الحَكم الّذي قد يكون في نهاية المطاف حلولَ كارثة تعمّ الجميع دون استثناء.
لقد أصبحت مشاكل تونس المتراكمة منذ أكثر من أربعة عقود، أي منذ مطلع الثمانينات، وهو ما لم يعه الكثيرون بسبب الخصومات الآنيّة الّتي تطمح إلى الحلّ بل إلى “الانتصار على العدوّ”، أداة في هذا العراك، وحتّى توصيفها الّذي أصبح مملاّ في خطابات الجميع، هو من باب “البروباغندا” والتحشيد وتحصيل “الشوكة” كما يقول القدامى ممّا يؤدّي حتما إلى تحويل المجتمع، هدف السياسة المفترض، حطب معركة لا ناقة له فيها ولا جمل، ولنا في الأحداث الجسام الأخيرة الّتي مرّت بها تونس دلائل على ذلك وغيرها كثير جدّا.
نقف في حيرة كبيرة إزاء اختيار الأمثلة، فهل نذكر مثلا الكارثة الّتي حلّت بجرجيس، أي بتونس برمّتها، من غرق المهاجرين في البداية وطريقة التفاعل معها من أصحاب القرار ومعارضيهم، وقد اكتفوا جميعا بمحاولة عصر أعينهم لعلّهم ينزلون دمعة أو دمعتين حتّى يمرّ الغضب هنا، أو تتأجّج المشاعر وتضطرب المدينة هناك فيتمّ استثمارها؟ أم نقدّم أوّلا مصيبة مئات الآلاف من تلاميذ المدارس الّذين لم يدرسوا ساعة واحدة ونحن على مشارف نهاية ثلاثيّ أوّل من سنة دراسيّة تأتي بعد سنتين مضطربتين بسبب الكورونا ممّا أدّى إلى انهيار المستوى التعليميّ المنهار أصلا، وليكون لنا جيل من التلاميذ يعاني الأمّية الفعليّة وبنسب مرتفعة ومخيفة وفق تصريحات وزير التربية، فتتحمّل الحكومات السابقة المسؤوليّة لتبرئة النفس عند هؤلاء، وتستثار مشاعر الخوف على مستقبل البنات والأبناء عند أولئك فتزيد النقمة على من يحكم عند أولئك، ويصبح التلاميذ الضحايا في هذه “العركة” أعدادا وأرقاما متنازعا عليها، فهذا يقول إنّهم 150 ألفا، والآخر 400 ألفا، ويقول ثالث بل هم مليونا ونصفا، وفي الأخير يرجع كلّ طفل وطفلة أدراجه في مسلك جبليّ لا ينتهي تحرسه الذئاب والكلاب السائبة وبعض الأفاعي والسحالي حاملا ما استطاع والداه توفيره على ظهره، وما استطاع “التوزيع العادل للثروة وحقّ التعليم وتكافؤ الفرص” من دموع وعبرات مخنوقة ونظرات تائهة في أفق غائم لا يطلّ منه غير البحر/ المقبرة يدعوه للالتحاق بمن قضى نحبه في سواحل جرجيسوقرقنةوالهواريّة والشابّة وغيرها؟ أم نتّجه نحو الحديث عن انهيار المنظومة الصحّية وفقدان العشرات من الأدوية الحيويّة، فيأتي أحدهم ليخطب على أصحاب الأمراض المزمنة والخطيرة “لتفنيد الإشاعات المغرضة” في الوقت الّذي يسمعهم آخر قولا يجعلهم يكتبون وصاياهم ويجهّزون أكفنتهم ويبحثون لهم عن قبور، فيعود المرضى إلى الديار وقد رافقتهم أمراضهم الّتي ألفتهم وألفوها وقد غدا الوجع جزءًا منهم ويسلّمون بأنّه ابتلاء ومحنة سيثابون عليها في عالم أفضل، ويصبح المرض نعمة، و”الحمد لله على كلّ حال، سنعود غدا أو بعد غد كما قيل لعلّ الدواء يكون متوفّرا؟” أو من الأفضل ربّما البداية بعراك الجوع والعطش ليتخاصم المتخاصمون حول القوت والبقاء على قيد الحياة فنسمع خطيبا هناك يحذّر الناس من “ثورة الجياع” معرّجا على ظمأ آت لا محالة ومحمّلا من يحكم اليوم جوع الناس وعطشهم، ليردّ عليه خطيب آخر بأنّ الخير عميم وتونس جنّة تجري من تحتها الأنهار لولا بعض من في قلوبهم مرض ممّن خزّنوا قوت الناس وعلّبوا الماء في قوارير وأخفوها ولم يتركوا الماء يجري في أنابيب “الصوناد” فكانوا “كالصخرة الواقعة على فم النهر، لا تشرب ولا تترك الماء يخلص إلى الزرع”، فيسمع الظمآن والجائع كلام هذا وذاك ويعود إلى بيته المتهالك بكلام لا يسمن ولا يغني من جوع ولا عطش.
واصلوا إن شئتم الأمثلة ستجمعون نصّا لا نهاية له من عراك أهل السلطة ومن عارضهم وهم يمارسون أدوارا مسرحيّة أمام جمهور البؤساء، ويتخاصمون حول من ستكون صورته أكبر واسمه الأوّل في معلّقة المسرحيّة، ومن سيحظى منهم بدور البطولة المطلقة في فنّ اللاّسياسة، ذلك الفنّ الوحيد الّذي ينحر جمهوره نحرا ليقدّمه قربانا لأبطال مزيّفين.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 1 نوفمبر 2022