الشارع المغاربي-منير الفلّاح: اعتدنا في السنوات وحتّى العشريّات الاخيرة ان يتزايد الاهتمام والحديث و”التّحاليل” في الشؤون التربويّة والتّعليميّة والثّقافيّة كلّما عاشت البلاد حدثا جللا امنيّا كان ام غيره…عندها تتصاعد الاصوات وتُرفع شعارات من قبيل “اصلاح المنظومة التربويّة بات ضرورة قصوى او “الثقافة” خير سلاح ضدّ الارهاب والتطرّف” الى غير ذلك من العناوين التي بات شبه معلوم انّها مجرّد “فواصل” الى حين حصول احداث اخرى اكثر “اثارة” وقدرة على ملء البلاتوهات التلفزيّة والاذاعيّة وصفحات فايسبوك. وعند كلّ عودة مدرسيّة نسمع مجدّدا احصائيّات “التسرّب المدرسي” وما تقوم به اجهزة الدّولة لتلافي الحاصل اصلا (كمدرسة الفرصة الثانية) ودون الخوض عميقا في اسباب هذا “التسرّب” وسبل الحدّ منه تدريجيّا على الاقل ! الكلّ يعلم انّ من اهمّ انجازات الدولة بعد 1956 تعميم التّعليم بمراحله فانتشرت المدارس الابتدائيّة والمعاهد الثانويّة وتأسّست نواة الجامعة التّونسيّة لتعمّ الكليّات والمدارس العليا جميع الاختصاصات والجهات وبقينا لمدّة طويلة لا نرى من الكأس سوى نصفه الملآن دون التفطّن الى انّ ذاك الجزء الملآن في طريقه للنضوب !
قد تتبادر للاذهان اسئلة عديدة منها المباشرة مثل :كيف وقع ذلك؟ او لماذا؟ او منذ متى بدأ ذلك؟ وطبعا من المسؤول عن هذا التدهور؟ الاكيد انّ كلّ الانظمة قبل الثورة وبعدها ساهمت في هذا الانحدار بدرجات مختلفة فلا يستوي، للامانة، من عمّم التعليم ووحّد مناهجه وجعله على رأس اولويّات الدّولة ورصد له الميزانيّات الهامّة ومن جعل الشّأن التعليمي والتّربوي يتراجع على سلّم الاولويّات ليصبح التّناول تقريبا منحصرا في “كلفة” التعليم بالحديث عن عدد أجراء القطاع والمبالغ المرصودة لخلاصهم تُردف احيانا بمبالغ صيانة المؤسّسات التّربويّة ويُقدّم بناء مدرسة او معهد جديد عنوانا في نشرات الاخبار وكأنه امر خارق وجب التّنويه به!
الاكيد ايضا انّ الدّولة التّونسيّة ومنذ انخراطها في برامج الاصلاحات الهيكليّة باتت تأتمر تقريبا بأوامر المؤسسات المالية الدولية في تحديد اولوياتها وفي وضع سياساتها التربويّة وضرورات الضّغط على المصاريف والفتح العشوائي لمشاريع التّعليم الخاصّ وحتّى محتويات البرامج والنزوع نحو حشو الادمغة على حساب التكوين…الى ان وجدنا انفسنا ازاء اجيال بأدمغة محشوّة بالكثير من المعلومات بغاية الحصول على أعداد مرتفعة وحتّى شهائد وإهمالٍ لتكوين الادمغة القادرة على التّفكير مع ما صاحب ذلك من تهميش للعلوم الانسانيّة وتصنيفها كذات قيمة اقلّ من العلوم الصّحيحة وهذا طبعا خطأ اصلي يُهمل تاريخ العلوم ودور الفلسفة تحديدا في تطوّر العقل البشري . في المقابل من الجائر الجزم بأنّ هذا الوضع لم يلق ايّ اهتمام لدى الجميع. فعلى العكس من ذلك تماما بقي التعليم ويظلّ الهمّ الاوّل لدى العائلات،التي لازالت ترى في معظمها أنه اهمّ مصعد اجتماعي لدى منظمات المجتمع المدني والهيئات ذات الاهتمام مثل “المعهد العربي لحقوق الانسان” و”المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة” الذي قام بدراسات قيّمة ونشر عدّة كراسات في الموضوع… واحدة من الدّراسات المنسوبة لليونسكو في موضوع المستوى التعليمي العام للشّعب التونسي سنة 2021 تظهر انّ قرابة رُبُع (26%) بالنّسبة للفئة العُمُريّة من 25 سنة فما فوق لم يتمدرسوا اطلاقا وأن لدى قرابة 29 % مستوى تعليم ابتدائي و16 % بلغوا التعليم الاعدادي و14 % لديهم مستوى تعليم ثانوي في حين لم يبلغ المستوى الجامعي سوى 15% أي انّه ليس لدى 85% من السكان النشطين اقتصاديّا تكوين جامعي وانّ لدى 55% من هذه الشريحة العمريّة التي يفترض انّها نشيطة ومنتجة مستوى تعليم ابتدائي او دون ايّ مستوى تعليمي ! وانّ لدى 71% ممّن هم في سنّ 25 سنة فما فوق مستوى تعليمي دون الثّانوي ! وفي سبتمبر الماضي(2022) بلغ عدد الاميّات والاميّين قرابة المليونين أي ان خُمُس التونسيّين والتونسيّات غير متعلّمين! زد على ذلك أنّ 70% منهم هم من فئتي الاطفال والشّباب… قد يكون هنا من السّهل تفسير هذه الكارثة الحقيقيّة بفترة ما بعد الثّورة وحكم النّهضة… وللأمانة لا يمكن تجاهل هذه العوامل لكن لا يمكن ايضا تفسير كل المآسي بـ”عشريّة الخراب” مثلما يحلو للبعض تصنيف ما بين 14/1/2011 و25/7/2021! فعدد وخاصّة نِسب مغادرات ومغادري مقاعد الدّراسة سنويّا ليست بالمستجدّة وكذلك اسباب الانقطاع ليست وليدة العشر سنوات الاخيرة وانما هي نتيجة تراكمات السّياسات العامّة والتربويّة المتّبعة منذ ثمانينات القرن الماضي…
فمنذ تراجع اهميّة التعليم لدى الماسكين بزمام الحكم وتبخيس دور العلم مقابل جعل النّجاح الاجتماعي رديف للرصيد المالي الاكبر ومظاهر الثّراء الأوضح مع اغفال طرق هذا الاثراء وشرعيّتها من عدمه وتولّي بعض وسائل الاعلام التسويق لشخصيّات بلغت درجة “النجوميّة”بالرغم من جهلها المدقع تراجع اهتمام الدّولة بالتعليم، بكلّ مراحله ودرجاته، وتُرك مجالا للتجارب التي تحظى بتمويلات الصّناديق الدّوليّة وانتشار ظواهر تثمين التعليم الخاصّ وتحقير التعليم العمومي واستسهال الحطّ من مكانة المربيات والمربّين بعدم تثمين مكانتهم الاجتماعيّة والاعتراف الفعلي بفضلهم على المجتمع بالتقدير والتّحفيز… زد على ذلك جحافل الحاصلات والحاصلين على شهائد عليا ومنهم دكاترة يعانون من البطالة او البطالة المقنّعة باشكال التشغيل الهشّ. كلّها عوامل تجعل التّعليم والبحث العلمي غير “ذي جدوى” لدى عامّة الشّعب ويصبح الطّريق الاقصر لـ”النّجاح” هو ما نطلق عليه تسمية “تدبير الرّاس” وبالتّالي عدم الذّهاب للمدرسة منذ البداية وتجنّب مواجهة المصاعب، العديدة ليس اقلّها الماديّة، او الاكتفاء بحدّ ادني (فكّ الخطّ اي شيء من القراءة والكتابة) وفي مرحلة “اعلى” الرضا بمستوى ثانوي للبحث عن عمل لا يتطلّب كفاءة عالية والاستغناء عن مصاريف التعليم العالي. وهكذا نجد انفسنا ازاء وضع عام مخيف على عدّة أصعدة: سكان في سن العمل والانتاح دون تحصيل علمي يضمن الجودة ويحقق القيمة المضافة وأعداد متزايدة من اناس منعدمي التكوين العلمي والمهني وذوي زاد ثقافي جدّ متواضع يصبحون معه خزّانا لكلّ المآسي بدءا بالانحراف وصولا للتطرّف مرورا بالحرقة، ويسهل التلاعب بعقولهم والتحكم في مصائرهم… صحيح ان كلفة التربية والتعليم مرتفعة ماليّا لكنّ كلفة الجهل والاميّة ارفع بكثير
- نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 جانفي 2023