الشارع المغاربي: أمسى المشهد السياسي التونسي اليوم عبارة عن مسرحيّة عبثيّة، غصّت بفرط التلوّث الذي تنفثه أفواه أبرز شخوصها التي تتصارخ دون أن تُصغي إلّا لنعيقها. احتدم صراع النُّخب بين الكلّ ضدّ الكلّ من أجل السطو على أيّ قدر من غنائم الحكم المتبقّية، دون أدنى اعتبار لخطورة كارثة الإفلاس الشامل التي تسير البلاد نحوها…
طريق عبثي منعدم الأفق مضى فيه رئيس الجمهوريّة أكّدته الانتخابات الأخيرة بمسارها ونتائجها. طريق مسدود عبّدته له نُخبٌ وأحزابٌ سبقته في الحكم، ولا تزال تُعيد إنتاج ممارساتها السياسيّة الانتهازيّة ذاتها. حديث الشرعيّات الموهومة بات بمثابة ثُغاء أغنامٍ ملّته الجموع التي اتّضح اليوم أنّها فقدت الثقة في كافّة السياسيّين على رأس الحكم والمعارضة. ففي ظلّ المخاطر التي تواجهها البلاد من القريب والبعيد، أظهر خصوم قيس سعيّد في مناسبات عديدة مطلق العجز في جمع بضعة آلاف من الأنصار خلال وقفاتهم الاحتجاجيّة. وفي المقابل،قوبلتالانتخابات التشريعيّة التي فرضها رئيس الجمهوريّة بلامبالاة الأغلبيّة العظمى للشعب التونسي، لا بسبب مقاطعة الأحزاب مثلما تدّعي بعضها بكلّ صفاقة، وإنّما جرّاء أزمة اقتصاديّة فاحشة وارتفاع صاروخي للأسعار وتحطّم القدرة الشرائيّة للتونسيّين… وفي المحصّلة، لم يبق من كلّ هذا البازار السياسي سوى فولكلور مذموم لا يبعث إلّا على السخرية أو ربّما التقيؤ…
لا أحد يمكنه اليوم تحديد زمن نهاية تفاقم هذا الواقع العبثي، في ظل انعدام الحدّ الأدنى من التواصل – أي التفاهم – بين “الإخوة الأعداء”. فلا أحد يُقدّم بدائل غير “غنائميّة” ولا أحد قادر على الإصغاء للآخر تمامًا مثل مسرح العبث. والحال أنّ قوى إقليميّة ودوليّة عدّة تحاول بأشكال مختلفة تحديد سيناريوهات جهنّميّة للتدخّل في شؤون البلاد وابتزاز مؤسّساتها والتلاعب بمصائر أبنائها… وها هي وكالة “موديز” أو “أمّك صنّافة”، وفق العبارة الرئاسيّة الشهيرة، قد خفّضت مجدّدًا الترقيم السيادي لتونس جرّاء غياب رؤية واضحة على الصعيدينالسياسي والاقتصادي وما خلّفته من اختلال على مستوى توازنات الماليّة العموميّة واستمرار الفشل في عقد اتّفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي،بكلّ ما قد يؤدّي إليه ذلك من هزّات وقلاقل…
ورغم عمق الأزمة، تغيب الأفق الدنيا للحلّ، حتّى أنّه لا يمكن توصيف تناقضات الخطاب السياسي السائد بين السلطة والمعارضة ولو بعبارة “حوار الطرشان” لأنّ أصحاب الصمم الصحّي يمكنهم أن يتحاوروا وأن يتواصلوا بأساليب ووسائل عديدة، على خلاف النّخب السياسيّة التونسيّة الموبوءة على مرّ سنوات العشريّة المنقضية إلى اليوم بوباء احتكار السلطة والغنيمة. فما الفرق مثلا في أن تُنصتَ هذه الأيّام إلى قيس سعيّد أو راشد الغنوشي أو نجيب الشابي أو عبير موسي أو حتّى المنصف المرزوقي وحمّه الهمّامي؟!… أكاد أجزم بأنّ لا أحد من بين هؤلاء يؤمن بالديمقراطيّة إيمانا فعليّا، لا مجرّد خطابٍ وهذرٍ مرَضيّ، بدليل أنّ جميعهم لا ينظر إلّا قبالة أنفه ولا يحتكم إلّا لمصالحه الشخصيّة والفئويّة…
لا حاجة طبعًا إلى الخوض في التفاصيل للتدليل على أنّ البرلمان المقبل لا وزن له، باعتباره نتاجَ دستور لا يُرضي سوى واضعه وأتباعه. ولا خلاف في أنّ مرحلة العبث قد تستمرّ إلى أجل غير محدّد، أي إلى حين هبوب رياح عاتية جديدة، كفيلة بإسقاط كلّ ما هو أحاديّ مُسقَط وكذلك تغيير كلّ من أبى التغيير خلال العشريّة الأخيرة…
حالة العبثالراهنة قد تطول وتتمطّط وتمتدّ إلى سنوات وسنوات، ولكن من المُحال أن تستمرّ دائما، مهما كانت قوّة من يحاول تأبيدها!… تقول القاعدة الموروثة: “اشتدّي أزمة تنفرجي”، ولكن بأيّ ثمن اجتماعي واقتصادي وسياسي ووطني؟! حقّا إنّها نُخبٌ آيلة للسقوط، ولم يبق للبلاد من منفذٍ إلّا أن يزورها عزرائيل،حتى تندثر – كما سبق أن حدث ذات 14 جانفي – سياسيّا ورمزيّا، وترحل نهائيّا عن هذا المشهد السياسي المأزوم، علّه ينصلح ولو بعد حين…
*نشر باسبوعية الشارع المغاربي الصادرة بتاريخ الثلاثاء 31 جانفي 2023