الشارع المغاربي: ورد في الفصل الخامس من الدستور التونسي الصادر في 30 جوان 2022 ما يلي: “وعلى الدّولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض، والمال، والدّين، والحرية”. وفي 30 أوت نُشرت إصلاحات للأخطاء التي تسربت فيه حيث أضاف إليه المشرّع: “في ظلّ نظام ديمقراطي” شرطا لتحقيق مقاصد الإسلام، وبيّنٌ أن هذه الإضافة فاسدة من الناحيتين العلميّة والدينيّة على حدّ سواء لأن مقاصد الإسلام يحدّدها الوحي قرآنا وسنّة وكل خروج عنهما خروج عن الدين، في حين نجد أنه لا ضوابط للديمقراطية باعتبار انه لا تحدّها سوى المصلحة العامّة وافقت الوحي أو خالفته.
واللافت للنظر أن حكم 25 جويلية لم يتوقّف عن خرق هذا الفصل دون أن يتفطّن إلى ذلك والسبب يعود إلى أن الفصل في تركيبتيْه الأولى والثانية غير قابل للتطبيق ويتعارض تعارضا تاما مع ما وصل إليه المجتمع التونسي من تطوّر وما راكم من تجارب تاريخيّة أكسبته مناعة وحصانة تمنعان عنه كلّ محاولة لجرّه إلى مربعات تجاوزها منذ قرون.
ويعلم الجميع أن الحركة الإسلامية حاولت طوال العشر سنوات الماضية أن يتضمن الدستور الذي وضعته والذي شاركت في وضعه فصلا يخصّ تطبيق الشريعة ولو بصورة مجزّأة وتحت عناوين أخرى ولكنها ووجهت بردّ ماحق من القوى المدنيّة الأمر الذي جعلها تتراجع عمّا خططت له ولم يصدر دستور 2014 مثلما كانت تشتهي.
أما حكم 25 جويلية فإنه صمّ أذنيه عن كلّ رأي مخالف خصوصا بعد صدور النسخة الأولى من دستوره وأصرّ على الإبقاء على المقاصد الإسلاميّة لاعتقاده أنه يمكن لحاكم تغيير المجتمعات بجرّة قلم وهو واهم في ما ذهب إليه لأن التجربة التاريخيّة تثبت عكس ما يتصوّر ويبغي. فمجلة الأحوال الشخصيّة وإن كان الزعيم الحبيب بورقيبة وراء إصدارها فإنها كانت من نتائج المدرسة الإصلاحية التونسية التي ظهرت منذ منتصف القرن التاسع عشر.
لم يكن تحرير المرأة من قيد الفقهاء إلا الحصيلة لتراكمات نضجت على مهل إلى أن وصلنا إلى الاستقلال الذي قطفنا فيه ثمار ما ترك السلف الصالح من نيّر الفكر وصالح العمل.
واللافت للنظر أن حكم 25 جويلية لم يتفطن بتسرّعه إلى أنه يستحيل تطبيق هذا الفصل وأنه سيكون أوّل من سيخرقه لأنه اعتقد أن المصلحة
أو المقاصد مطلقة وحرّة لا تنضبط لأي قيد والحال أنه لا مصلحة ولا مقصد يناقض الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس. يقول البوطي: “إن المصلحة في حدّ ذاتها ليست دليلا مستقلا عن الأدلة الشرعيّة شأنها كالكتاب والسنة والإجماع والقياس حتى يصحّ بناء الأحكام الجزئيّة عليها وحدها… فقد كان لا بد لاعتبار حقيقة المصلحة في أمر ما من أن يدعمه دليل من الأدلة الشرعيّة التفصيليّة… فإذا توهّم مفكّر أن مصلحة الناس تقضي بحرية تعاملهم بالربا فالتعارض ليس إلا بين وهمه وكلام الله تعالى. أما حقيقة المصلحة فهي ما قضى به كتاب الله من ضرورة إغلاق باب الربا… وإذا توهّم باحث أن المصلحة داعية إلى منع تعدّد الزوجات فالتعارض إنما هو بين كلام الله تعالى ومجرد ما توهّم هو. أما المصلحة التي
يفتش عنها ذلك الباحث فهي كامنة في حكم الله تعالى بإباحة التعدد”(1) هذا المعنى الذي يقيّد المصلحة بالنص نجده في الرؤية الفكريّة لحركة النهضة التي جاء فيها: “المقاصد ليست بمعان خارجة عن نصوص الوحي حتى نطلب إدراكها من جهة غير جهة تلك النصوص”(2) وهو ما شرحه عبد المجيد النجار في قوله: “أما إذا عُيِّن مقصد من خارج محتوى النصّ ثم أجري عليه فهم ذلك النص فإن الفهم سيكون حتما حائدا عن المراد الإلهي”(3) الأمر الذي يعني أن الفصل الخامس من دستور 2022 ليس في حقيقته إلا صياغة مخاتلة من الدعوة الإخوانية إلى تطبيق الشريعة بعد أن لبّسوا على خلق الله بالحديث عن المقاصد باعتبارها اجتهادا وتنويرا وغير ذلك من ساقط القول. لهذا السبب ولغيره عارضت القوى المدنيّة
بشدّة هذا الفصل لأنه فصل تراثي غادر الزمان منذ مئات السنين ولم يعد قابلا للتطبيق إلا في ظل نظام استبداد ديني مثلما حصل في السودان أيام الترابي وإيران في حكم الملالي وأفغانستان الطالبانيّة. ولأن حكم 25 جويلية مبني على الشعارات وليس على المعاني والكلمات ولا مضمونها فإنه لم يتمكّن من احترام دستور صاغه وفق رغباته إذ لم يتوقف عن خرقه والأمثلة تندّ عن الحصر من بينها:
البنك الدولي
يلهث حكم 25 جويلية للحصول على القروض من البنك الدولي في محاولة منه لمعالجة الإفلاس الذي عليه الماليّة العموميّة. ومن المعلوم أن هذا البنك وغيره يقرضون بفوائد متفاوتة. هذه الفوائد تسمّى في الشرع الإسلامي ربا وهو محرّم بصريح القرآن والحديث والإجماع. قال تعالى في سورة البقرة الآية 275: “وأحلّ الله البيع وحرّم الربا”. على هذا الأساس فإن المشاورات التي تجريها الحكومة مع البنك الدولي غير دستورية ومناقضة للفصل الخامس من الدستور الذي هو أعلى القواعد القانونية التي يجب أن تهيمن على كل القوانين والسياسات وكل مخالفة له تعتبر غير شرعية وتحكم المحكمة الدستورية العليا بإلغائها.
البيرة
تعطّبت شاحنة تحمل قوارير البيرة في جهة لاكانيا فهجم عليها المواطنون واستولوا على كل ما فيها. وقد نقلت وسائل التواصل الاجتماعي ما حدث، غير أن اللافت للنظر أن السلطة الحاكمة سارعت بإلقاء القبض على بعض المشاركين في هذه الغزوة وأذاعت ذلك بين الناس معتقدة أنها صنعت ما تُحمد عليه، والحال أنها خرقت الفصل الخامس من دستورها بشكل فظيع وغليظ ولم تضع في اعتبارها أن فعلها هذا سيُجَرِّئ معارضيها على خرق دستورها ويُدخل البلاد في فوضى يعلم الله وحده نتائجها. وبيان ذلك أن المواطنين الذين اتّهموا بسرقة الخمر لم يرتكبوا من الناحية الشرعيّة أي حسب منطوق الفصل الخامس جُرما يساءلون عليه لأن الخمر مال غير متقوّم أي لا قيمة شرعيّة له مثله مثل لحم الخنزير. قال عبد القادر عودة: “لا قطع في سرقة محرّم كالخمر والخنزير والميتة ونحوها سواء كان السارق مسلما أو ذمّيا”(4). واختلف الفقهاء في سرقة الصلبان والأصنام والأحذية من الجوامع وغيرها، ويذهب بعض الفقهاء للمزيد من التفصيل إلى القول بأن سارق الخمر قد يؤوّل ذلك بأنه أخذها ليسكبها حتى لا تقع في أيدي المسلمين كما يؤوّل سارق الأصنام والصلبان ذلك بأنه “يأخذها لكسرها”(5). هكذا تضع السلطة نفسها في حيص بيص فهي من ناحية تضع في دستورها فصلا يخصّ المقاصد الإسلاميّة ولكنها في الواقع تطبق الأحكام المدنيّة وهو ما يفسر في جزء منه حالة الارتباك التي يمرّ بها حكم 25 جويلية.
القذف
من ضمن القضاة الذين تم عزلهم في شهر جوان الماضي قاضية اتهمت بالزنا وقيل إنها ضُبطت في حالة تلبّس. وقد ظهرت هذه القاضية بوجه مكشوف مدافعة عن نفسها في وسائل الإعلام، وبعد النظر في القضية قرّرت المحكمة عدم سماع الدعوى في حقها وهو ما يعني تبرئتها ممّا اتهمت به. والغريب في الأمر أن الاتهام يأتي من الرئيس نفسه وإن لم يذكر اسم القاضية إلا أنها أفصحت عن هويتها في دفاعها عن نفسها علنا. وبالرجوع إلى الفصل الخامس نجد أن القذف نوعان: “قذف يحدّ عليه القاذف وقذف يعاقب عليه بالتعزير. فأما ما يحدّ عليه القاذف فهو رمي المحصن بالزنا أو نفي نسبه. أما ما فيه التعزير فهو الرمي بغير الزنا ونفي النسب … ويلحق بهذا النوع السبّ والشتم”(6) ومن مظاهر تشدّد الشرع في عقوبة جريمة القذف من النوع الذي حدث مع القاضية أنها لا تشترط العلن فيه. قال عودة: “لا تشترط الشريعة الإسلامية العلانية في القذف كما تشترطها القوانين
الوضعيّة ومن ثم تعاقب الشريعة القاذف سواء قذف المجني عليه في محلّ عام أو محلّ خاص على مشهد من الناس أو في ما بينهما فقط”(7). أمّا العقوبة فقد حددها الله تعالى في قوله” وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”(8) . أي أنه تجب معاقبة القاذف حسب الفصل الخامس عقوبة أصلية هي الجلد ثمانين جلدة وعقوبة تكميلية هي ألا تقبل شهادته مستقبلا مع خلاف بسيط بين الفقهاء، ذاك ما يجب فعله احتراما لدستور 25 جويلية.
ومن غرائب حكم 25 جويلية أنه لم يحترم الفصل الخامس إلا في نهب المال العام حيث لم نسمع الى حد الآن أن متورّطا في ما ذكر حوكم أو صدرت عقوبة في حق متّهم بالفساد. وتفسير ذلك أن لدى سارق المال العام شبهة ملك في المسروق وهو ما يمنع إقامة الحدّ عليه لأن الحدود تدرأ بالشبهات. قال عودة: “ولا يقطع السارق إذا كانت له شبهة ملك في الشيء المسروق وإنما عليه التعزير فقط كسرقة الوالد من ولده… وسرقة المال العام حكمها حكم المال المشترك… لأن للسارق حقا في هذا المال وقيام هذا الحق يعتبر شبهة تدرأ عنه الحدّ”(9).
لمّا تلجأ الدولة إلى استعمال الدين في خطابها وسياساتها فإنها تثبت بذلك عجزها عن القيام بدورها. لذا تلجأ إلى العواطف والمشاعر التي يسهل تحريكها عن طريق الخطاب الديني متوسّلة بذلك رضا الناس، والحال أن الحكم لا مدخل فيه للعواطف إلا لإثارة الحميّة في معركة وطنيّة أو ردّا لغائلة أو فساد. قال الأفغاني: “أَنِ الحكم إلا للعقل والعلم”(10).
الهوامش
1) “ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية” محمد سعيد رمضان البوطي، مؤسسة الرسالة ببيروت والدار المتحدة للطباعة والنشر بسوريا، الطبعة الخامسة سنة 1990، ص107 و109.
2) “الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة النهضة التونسيّة” سلسلة قطوف النهضة عدد 2، الطبعة الثانية جوان 2012، ص20 و21.
3) “خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، بحث في جدلية النص والعقل والواقع” عبد المجيد النجار، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1987، ص84، هذا الكتاب شرح للرؤية الفكرية لحركة النهضة التي كتبها لهم النجار وأجازها القرضاوي وما زالت معتمدة لحد الساعة وهي موجودة على موقع الحزب الالكتروني.
4) “التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي” عبد القادر عودة، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الرابعة بيروت 1985، ج2 ص552.
5) التشريع الجنائي لعودة ج2 ص546.
6) التشريع الجنائي لعودة، ج2 ص455 و462، و”جرائم القذف والسب العلني وشرب الخمر بين الشريعة والقانون” عبد الخالق النواوي، منشورات المكتبة العصرية بيروت 1985، الطبعة الثالثة ص39 وما بعدها.
7) التشريع الجنائي لعودة ج2 ص478، جرائم القذف للنواوي ص46.
8) سورة النور الآية 4.
9) التشريع الجنائي ج2 ص592 و593.
10) “خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني” تحرير محمد باشا المخزومي، دار الحقيقة بيروت 1980، الطبعة الثانية، ص83.
*نشر باسبوعية الشارع المغاربي الصادرة الثلاثاء 31 جانفي 2023