الشارع المغاربي: سيدي الرئيس المجاهد الأكبر باني تونس ومحرر المرأة
أعلم أنك تسمع في روضتك ما أقول ولكنك لا تقدر أن تجيب كما رُوي عن النبي يوم بدر … ولذلك أقول لك أن تونس التي أحببت ليست بخير.. أنت لا تعرفني وإن التقيتك ابن أربع سنين زغب الحاصلة كما يقولون فاحتضنتني كما حدثني والدي في مدينة بني مطير حيث كان رحمه الله وطيب ثراه معلما يتنقل بين أرياف البلاد.
أنا سيدي الرئيس من جيل لم يعرف الاستعمار. سمعت عنه من والدي وليس من رأى كمن سمع. تعلمت في مدرستك ثم في جامعتك. درست في مدارس ريفية من جبال خمير إلى عين دراهم وغيرهما. كنت آكل لمجتي من الهريسة والسردين والجبنة أحيانا في المدرسة الريفية التي بنيت وانتظرها بفارغ صبر مع كل رنة جرس. لم أشعر بالجوع ولا بالبرد ثم كبرت ودخلت المعهد الثانوي وكنت أنجذب إلى توجيهاتك وأنصت إلى خطاباتك … وبدأت أدرك أنك زعيم حقا ولكنى أدركت مبكرا أنك عربي أيضا فيك من عيوب العرب ما لم تستطع التخلص منه وتلك قصة أخرى. في الجامعة «اكتشفت» في المعلقات الحائطية أنك عميل للإمبريالية مثلما كان يصفك الكثير من أترابي. كانوا يعددون اخطاءك ويضخمون مثالبك ويتتبعون عوراتك ولم يكونوا ليروا فيك إلا ما هو سيء. كانوا يصفونك بالرجعية ويشنعون عليك معاداتك عبد الناصر وأمين القومية معمر القذافي ويلعنونك في السر والعلن ويحاربونك بسهام الليل حينما لا يقدرون عليك بغيرها. كانوا يلعنون معاداتك القومية والشيوعية وكرهك الأعراب الذين كنت تقول عنهم «عريان مع عريان ما يتلاقاو كان في الحمام «… ويستكثرون عليك الحديث عن « الأمة التونسية « في حين كانت قلوبهم تهفو إلى «تيرانا» أنور خوجة وصين ماو تسي تونغ وبيونغ يانغ الرفيق كيم جونغ ايل وريث فكر زوتشيه العظيم.. ثم جاء الإخوان فلعنوك في المساجد بعد أن بارت تجارتهم على يديك وكفّروك كما كفّرك ابن باز والشيخ كشك ولم يمر يوم من السنوات التي قضيتها في الجامعة إلا وكان لك فيها نصيب من الكراهية والشتيمة …التقى عليك اليسار الغبي واليمين الحاقد ووكزك فقضى عليك المتملقون من حزبك الذي صنعته بنفسك ولنفسك.… ولأنك عربي وفيك من العرب عيب «الإمارة ولو على حجارة « أبيت إلا أن تتحدى الزمن وتنكر سننه فبلغت أرذل العمر وكدت أن ترى ما رآه ابن المعتز فى آخر ايامه حينما كان يتجول في بغداد وقد سملت عيناه يستجدي الناس قائلا أنا من قد عرفتم ولكن ماضيك غفر لك… وانتفض عليك أحد الانكشارية فحملك على التنازل ثم انشغل بعد سنوات قليلة بعمارة قصور تركها عما قريب وجمع أموالا كانت عونا لأعدائه عليه... كنت زعيما ما في ذلك شك ولكنك كنت بشرا لم يحسن قراءة لامية لابن الوردي وكثير ا ما كنت تستشهد ببيته الشهير :
أن نصفَ الناسِ أعداءٌ لمنْ
ولـيَ الأحكامَ هذا أن عَدَلْ
وكنت تضرب بعصاك الأرض وتقول نعم هذا أن عدل.. هذا أن عدل.
سيدي الرئيس المجاهد الأكبر باني تونس ومحرر المرأة
استسمحك وأنت في منامك الطويل أن أقول لك أن تونس ليست بخير وسأقص عليك بعض ما لم تُحط به خبرا.
فدستور 56 الذي جعلته مدخل النظام الجمهوري ومدفن الملكية ضاع في الزحام واستعاض عنه من جاء بعدك بدستورين واحد كان كسفينة نوح جمع من كل زوجين اثنين وجعله عيينة بن حصن ترسه الذي يحميه وجنّته التي يدخلها وجماعته وهو ظالم لنفسه قائلا ما أظن أن تبيد هذه أبدا ثم جاء الدستور الثاني فجعل الأول حصيدا كأن لم يغن بالأمس ليزيد في الشطرنج بغلا كما يقول بن حزم الاندلسي وجعل من دين الدولة الذي أجملت موضوع فتنة وشر مستطير. فيه فصول مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الدستور وأخر متشابهات وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في علم الدساتير.
سيدي الرئيس المجاهد الأكبر باني تونس ومحرّر المرأة
لن احدثك عن الاقتصاد وقيادة البلاد ويأس الناس وضياع البوصلة وافتقاد المشروع فذلك كله « سخط» كما كنت تقول. ولن اوجع دماغك بالحديث فيه وانما سأحدثك عن مكمن مقتل النظام الجمهوري الذي أردته خلاص التونسيين. أولئك الذين قال فيهم أعداؤك انهم «غبار من البشر «.
لقد سعيت إلى توحيد التعليم ووضعت حدا للجامع الأعظم وعوضته بجامعة زيتونية كنت تظنها علاجا لهذا الإسلام المتهالك الذي اتعبته القرون ولكنك أخطأت فهذا الذي صنعت تحول إلى عبء على الجمهورية فلا هو تشرّب قيمها ولا هو ساهم في اخراج المسلم الحزين من مأزقه التاريخي بل صار يجمع اشتاتا من خريجي السودان وسوريا ومصر بل وحتى من البوسنة والهرسك مع ولاء شبه تام لفكر الاخوان الذي طالما حذرت منه. لقد انتقمت هذه المؤسسة منك ومن جمهوريتك وحداثتك ومشروعك وقعدت لك بالوصيد بل زادت ففرخت لك هيكلا جديدا هو مشيخة الجامع تشبها وتيمنا بسالف الايام الخوالى وبثت لها فروعا في البلاد امعانا في تشتيت التعليم وخلق كيانات موازية على عادة من تشبع بالموازي في كل شيء نصرة للجماعة ضد الدولة.
سيدي الرئيس المجاهد الأكبر باني تونس ومحرر المرأة
صنعت في آخر ايامك مجلسا اسلاميا أعلى أردته أن يكون حزاما للجمهورية من هذا الاسلام السياسي الذي بدأ يأتي على الأخضر واليابس في بلاد المسلمين ولم يستثن بلدك الذي احببت ولكن هذا المجلس صار من بعدك عونا لأعدائك عليك وعشش فيه من ناصب جمهوريتك العداء بل زين لهذه المجلس حينا من الدهر أن يعطي لنفسه من الصلاحيات ما به يراقب برامح التعليم. ومن يريد أن يتثبت في بعض صلاحياته فلينظر في مشمولاته وتركيبته وبعض مواقفه المنكرة في رسالته الشهيرة ذات يوم إلى مؤسسة الإذاعة والتلفزة وكيف نصب نفسه محكمة للتفتيش «من أجل الحفاظ على مشاعر المسلمين وحقوقهم في حماية عقيدتهم، من البرامج الهدمية للأمن الثقافي والعقدي» في نحت لمفهوم ما سمعنا به قط في كتب الأولين ولا الآخرين.
سيدي الرئيس المجاهد الأكبر باني تونس ومحرر المرأة
لقد أوكلت تعليم الدين إلى المؤسسة التي خلت أنها استجابت إلى حلمك في دولة حداثية اردتها أن تكون وريثة حركة الإصلاح الممتدة منذ القرن التاسع عشر ولكنها ما فعلت. فلقد اربكت برامجها ونوعية خريجيها تعليم الناشئة وافسدت أحيانا كثيرة ما يتلقى أبناء الجمهورية في دروس الفلسفة والعلوم الصحيحة. بل فكّر بعضهم ذات يوم في تدريس ناشئة العلوم أفانين من هلوسات الاعجاز العلمي التي لا تدرسها أي مؤسسة علمية محترمة في أي مكان من العالم. هذه الهلوسات التي ينادي بها أمثال زغلول النجار والمتحيل موريس بوكاي لتلاميذ يدرسون المنهج التجريبي وفلسفة الانوار… لقد فاتك أن تفهم انك لن تستطيع أن تبني الجديد برسكلة القديم وفاتك أن تخلق مؤسسات النظام الجمهورية نفسه وتصنعها صنعا من العدم وفات ذلك من جاء بعدك فبدت مدرستك في هذا الشأن بالذات هزيلة لا تستبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
سيدي الرئيس المجاهد الأكبر باني تونس ومحرر المرأة
لن ازعجك أكثر بوصف حال مؤسسة الإفتاء وهل تحتاج الجمهورية إلى مفت؟ ولن احدثك عن مركز الدراسات الإسلامية في عاصمة الأغالبة ولا بحال مركز حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة فهي مراكز اختطفت النظام الجمهوري وقيمه ولا تعرف للجمهورية لها مزية في الدفع بهذا الإسلام لمواجهة العالم الحديث ومشاكله خاوية على عروشها الا من بعض ما لا يسمن ولا يغنى من جوع.
في جمهوريتك انتشرت الكتاتيب من كل نوع بعضها مما يقال أن للدولة عليه رقابة وبعضه مما لا سيطرة لها عليه بل هو تحت امرة جمعيات لا يعرف لها نسب بالضبط بل وانتشرت ذات ثورة حدثت عشرات بل مئات من الجامعات الوهمية في ربوع البلاد تدرس العلوم الشرعية على ايدي بعض ممن جاء من السودان وموريتانيا وسوريا وغيرها من البلاد وتعطي اجازات وشهائد في غياب تام للدولة وأجهزة رقابتها وانتشرت في مساجدك خطب عجيبة واستسهل المنبر كثير ممن افلت من رقابة الدولة. كل يغنى على ليلاه ولم تنتبه الى انه كان عليك أن تأخذ هذا الامر على عاتقك بكيفية صارمة تكوينا ورقابة حتى لا ينفلت حال المجتمع من بعدك وقد انفلت وذاقت منه البلاد الويلات وان تصون المنبر الذي اعتليته اكثر من مرة من العبث فلا تستودعه كثيرا ممن لا صلة لهم بمشروعك وجمهوريتك.
سيدي الرئيس المجاهد الأكبر باني تونس ومحرر المرأة
نحن ندفع اليوم بعضا من سوء تقديرك وتقديرنا من بعدك لخطر المسألة الدينية التي تمادى فيها خلفك قبل أن يمسك بالبلاد من اقض مضاجع دولتك لأربعين سنة ولا يزال. لقد فشلت وما كنت تريد أن تفشل وفشل كل من جاء بعدك لانهم لم يفهموا أن الجمهورية لا تستقسم وهي تحمل في أحشائها أسباب مقتلها. واعلم أن دار لقمان لا تزال على حالها بعد أن استيقظ ذلك المارد البربري الذي طالما حذرت منه بعد سبات طويل فدمر كل شيء والآن فقط أدركنا متأخرين أن إعادة السفينة الجانحة إلى مسارها أمر عسير المنال وادركنا للمرة الأخيرة أننا اخطأنا ربما في حقك بعض الخطأ وعذرنا أن خير الخطائين التوابون. ولقد علمنا التاريخ والاحداث رغم كل هفواتك أنك في السياسة من قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم ***ومن يسوِّي بأنف الناقة الذنبا
لقد كنت كثيرا مما ترد لامية الشنفري وتعجب بقوله «أقيموا بني أمّي صدور مطييّكم فإني إلى قوم سواكم لأمْيل» وها قد رحلت وانت تعلم علم اليقين أن مشروعك لم يكتمل رغم أنك شربت من أجل هذا الشعب كثيرا من المرار على القذى* **وظمئت وأي الناس تصفو مشاربه؟
سيدي الرئيس المجاهد الأكبر باني تونس ومحرر المرأة
رحلت وكان لا بد أن ترحل وجاء من بعدك « القوي الامين» ثم رحل غير مأسوف عليه ثم جاءنا مجنون بني عجل مدمر سوريا وخادم من علمه كيف يصافح ذاك الذي كان يُصرع في كل يوم مرة بعد أن اقبل البدر علينا من قبله من ثنيات المطار حفيد عيينة بن حصن الأحمق المطاع فظل يأتينا منه في كل يوم ما تضيق به الصدور وها نحن اليوم عطشى يترائى في كل مرة لنا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جئناه لم نجده شيئا.
أعلم أنك حزين على بلدك تونس التي أحببت ولا شك أنك لو كنت حيا اليوم لما ترددت في أن تقول مع الطغرائي شاعرك المفضل …. «ما كنت أحسب أن يمتدّ بي زمني… حتى أرى دولة الأوغاد والسفل»
رحمك الله سيدي الرئيس لقد أحببت تونس كما لم يحبها أحد صباح مساءا ويوم الأحد واغفر لنا فقد ضيعنا الأمانة.
(صدرت هذه الافتتاحية في العدد 324 بتاريخ 30 أوت 2022 نظرا لتناغمها مع الذكرى 23 لوفاة الزعيم بورقيبة ارتأينا من المفيد إعادة نشرها.)
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 افريل 2023