الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: صرح وزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيّد يوم 26 ديسمبر الفارط بأن سنة 2023 ستكون سنة صعبة مؤكدا أنه لا بديل لتونس عن صندوق النقد الدولي مشددا على استعداد الدولة للتكفل بعدة إجراءات وعلى أن الإصلاحات ضرورية وعلى أنّه تم التأخر في إنجازها. في المقابل،أكّد رئيس الجمهورية قيس سعيّد، الخميس الفارط 6 افريل، رفضه “إملاءات” صندوق النقد الدولي الذي طلب من تونس تنفيذ إصلاحات اقتصادية هيكلية تشمل رفع الدعم عن مواد الاستهلاك مقابل منح البلاد قرضاً بـ1.9 مليار دولار.
وقال سعيّد على هامش موكب انتظم بالمنستير احياء للذكرى الثالثة والعشرين لوفاة الزعيم الحبيب بورقيبة، في ما يخصّ صندوق النقد الدولي “الإملاءات التي تأتي من الخارج وتؤدّي لمزيد من التفقير مرفوضة”.وأضاف ردّاً على سؤال بشأن المفاوضات مع المؤسسة المالية الدولية، أنّ البديل هو “أن نعوّل على أنفسنا”.
الملامح العامة للبدائل
فرضت المعطيات الجيو-اقتصادية المتسمة ببروز اقطاب مالية كبرى تموّل اقتصادات العالم كالصين التي اصبحت تستحوذ على 40 بالمائة من سوق الاقراض الدولي عدة بدائل لدور صندوق النقد الدولي كمقرض “الملاذ الاخير” لحرفائه الذين هم في الغالب من الدول ذات الدخل المتوسط او الضعيف مثل تونس. واثبتت التجارب المرة التي عاشتها دول عديدة في افريقيا وامريكا اللاتينية وحتى اوروبا ان قروض الملاذ الاخير لصندوق النقد هي في الواقع قروض تعطى لتأجيج ازمات الديون والمالية العمومية بما يتسبب في النهاية في انهيار الانظمة وتفكك الدول.
وامام تراجع دور الدولار الذي فرضته منظومة “بروتن وودز” بعد تفكيك غطاء الذهب سنة 1972 وصعود شركات التكنولوجيا المالية FINTECH وعمالقة التكنولوجيا GAFAM المدفوعة بتطور الذكاء الاصطناعي وتقنيات المعلومات والاتصال، بدأت العديد من دول العالم في مراجعة نماذج تعاونها مع المؤسسات المالية الدائنة وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدولي التي تسعى بدورها منذ مدة لإعادة صياغة منوال تدخلها في الاقتصاد العالمي الذي تحول الى اقتصاد متعدد الاقطاب مركزه الاساسي في اسيا والمحيط الهادي بعيدا جدا عن وول ستريت وساحات مضارباتها التي ما انفكت تتقهقر امام الصانعين الجدد للنجاح المالي في العالم.
اهمية الاصلاح من الداخل
أدركت، في ذات السياق، العديد من الدول ان الاصلاح الداخلي والتقليل من التعويل على التداين يشكلان مفاتيح الحلول الحقيقية للتخلص من التبعية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي.
ونجحت عدة بلدان في التخفيف من مديونيتها سيما في جنوب شرق اسيا واصلاح توازنات ماليتها العمومية عبر تبني مخططات ذات منهجية واضحة ترتكز اساسا على إعادة النظر في الإنفاق الحكومي غير الضروري مثل تمتيع المسؤولين بامتيازات مالية وعينية كبرى كالسيارات والاسفار والاستقبالات وترتيب الاولويات في مجال انجاز المشاريع وحل مشاكل تعطيلها.
وعوضا عن ضريبة القيمة المضافة، اعتمدت عدة دول نظام الضريبة التصاعدية على الدخل والضريبة على الأرباح المالية والثروات وذلك بالتوازي مع وضع سقف معلن للدين العمومي لا يمكن تجاوزه لحماية المقدرات الاقتصادية الدولة الى جانب تدعيم منظومات العفو الجبائي والصرفي. ويشكل مشروع الصلح الجزائي في تونس مشروعا واعدا، في هذا الإطار، سيما ان الديون الجبائية المتخلدة بذمة المتهربين ضريبيا تبلغ حسب تقارير محكمة المحاسبات 10 مليارات دينار ويمكن استخلاصها على مراحل وعبر اليات حددها القانون دون تعسف وذلك الى جانب وجود قروض غير مستخلصة على مستوى بنوك الدولة، بشكل خاص، تناهز قيمتها 4800 مليون دينار ولم يقم مسؤولو هذه البنوك الى اليوم بأي إجراء أو تنسيق مع الجهات الرسمية وعلى رأسها لجنة الصلح الجزائي للشروع في استرجاعها وذلك لأسباب تبقى غير مفهومة ومبهمة.
اليات مستحدثة
الى جابت الاليات التقليدية لإصلاح توازنات المالية العمومية، تتاح اليوم بدائل اصلاح عديدة لمجابهة التضخم وتعديل توازنات الساحة المالية وذلك اساسا من خلال وضع حد أقصى لزيادة كمية النقود بمعدل يساوى زيادة الإنتاج لضمان الاستقرار النقدي، ووضع قيود على الواردات بالاعتماد على حقوق العضوية في منظمة التجارة العالمية وذلك بالأساس طبقًا للمواد الحمائية من اتفاق الـ”غات” فضلا عن تغيير انظمة سعر الصرف المعوم المعتمد على سبيل المثال في تونس منذ سنة 2016 تبعا لاملاءات صندوق النقد.
كما يساهم فرض الضرائب التصاعدية وقطع الطريق على المزيد من التهرب الضريبي، حلان واقعيان لاستعادة الميزان التجاري عافيته وذلك بالتزامن مع منع استيراد بعض السلع ذات البديل المحلي والبعض الآخر الذي يمكن الاستغناء عنه لمدة معينة حتى يتعافى الاحتياطي من النقد الأجنبي.
الدرس الماليزي
قد يختلف الساسة والاقتصاديون حول تقييم دور صندوق النقد الدولي، ولكن تظهر الآثار الاقتصادية التي ظهرت على أغلب الدول المقترضة، دورًا خفيًا يلعبه صندوق النقد الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الصعيد المحلي فإن بلدا كتونس ومنذ شروعه سنة 2012 في توقيع ثلاث اتفاقات مشروطة مع صندوق النقد الدولي، اصبح يعاني من أزمات معيشية ومالية واجتماعية متواترة بما يجعلها غير بعيدة عن نظرية الصدمة التي يتبناها الصندوق وهو ما يجبر التونسيين باستمرار على الرضوخ لخيارات صندوق النقد الدولي، إلا في حالة واحدة وهي معرفة إدارة الأزمة مثلما حدث في العديد من الدول التي استطاعت تسديد كامل قروضها لصندوق النقد الدولي ككوريا الجنوبية والبرازيل ووروسيا والأرجنتين والأوروغواي، وتركيا ولاتفيا والمجر ومقدونيا ورومانيا وايزلندا، حيث استطاعت هذه الدول إدارة القروض التي استعانت بها من صندوق النقد دون الانغماس في هاوية الديون.
من هذه الدول التي استطاعت فك أزماتها وحل مشاكلها الاقتصادية دون اللجوء لصندوق النقد الدولي، ماليزيا. فقد قام مهاتير محمد بتوجيه سؤال للقائمين على صندوق النقد الدولي بعد عرضهم للمساعدة لماليزيا: هل ستكونون مسؤولين معنا إذا ما وقعت تداعيات سلبية من القرض والمعالجات المقترحة؟ فأجابوه: طبعا لا.. لسنا مسؤولين معك، إننا نمنح القرض ونقدم الاقتراحات، وأنتم المسؤولون بعد ذلك عن كل أمر، ولا شأن لنا بالتداعيات، فرد عليهم “مهاتير” سريعا: إذن لا نريد منكم قرضًا ولا اقتراحات، ونحن أدرى بشؤوننا، وبسواعد وعقول أبنائنا، وسوف أعتمد على بلدي وشعبي.
وبالفعل اعتمدت ماليزيا على نفسها وذلك عبر اجراءات اقتصادية عديدة، منها خطتها الخاصة لمواجهة الأزمة، وتضمّنت فرض ضوابط العملة على حساب رأس المال (وليس على حساب رأس المال الجاري)، وإلغاء التداول على العملة المحلية خارج ماليزيا، وتجميد تحويل الأجانب أرباح استثماراتهم (قيمتها حوالي 18 مليار دولار) لمدة 12 شهرًا، واعطت سياسة ماليزيا الحاسمة وغير التقليدية في إدارة الأزمة، والمتمثلة في التحكم في العملة الوطنية، الحكومة مزيدًا من السيطرة على سياستها الاقتصادية وقلصت المضاربات على العملة.
وفي نفس الوقت نجحت ماليزيا في تجنب خطر أن تصبح قيمة عملتها مبالغ فيها مع مرور الوقت، ثم أجرت ماليزيا عملية إعادة هيكلة، لنظامها المالي. وشملت عملية تحقيق الاستقرار المالي، إنشاء مؤسسات لشراء القروض المتعثرة وإعادة رسملة المؤسسات المالية، ودمج بعضها، وتطوير سوق السندات المحلية.
وتبقى الاسئلة قائمة حول السياسات التي يجب على الدول المقترضة اتباعها، وهل يحتاج صندوق النقد الدولي إلى إصلاح إداري أو إعادة هيكلة ليصبح أكثر إنسانية وعدالة وهل تعيد الدول المستغلة حساباتها بخصوص اعتمادها على الاقتراض من الصندوق خاصة في حال استمرار الشروط التي تعود بالسلب على اقتصاداتها. أسئلة سيحمل المستقبل إجابات عنها ومن يدري ربما المستقبل القريب جدًا.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 افريل 2023