الشارع المغاربي: لقد طرقنا أبوابا كثيرة وأبلغنا صوتَنا إلى آذان عديدة، ولم نجد الا أبوابا موصدة وآذانا صمّاء.
1-لنبدأ بذلك الباب الأكثر صيتا والأعظم وزنا والأشد عقلانية وصرامة وشفافية في تعامله مع من يقصد بابه ويلتمس سخاءه: نعني “صندوق النقد الدولي”. في كنف تلك النواميس، يشهد الجميع بأن هذه المؤسسة العالمية تجتهد بكل جدية في دراسة ملفات الدول المقترضة بل وتساعد البعض منها بالمفاوضات والزيارات المحلية والتشاورات اليومية حول تقديم ملفاتها على الوجه الأفضل مثلما دلّت على ذلك ملفات قروض قدّمتها حديثا دول على يمين بلادنا وعلى يسارها.
فما السرّ في تعطّل الملف التونسي؟ – هل المسؤول فيه الصندوق “الدائن” ام… الدولة ‘المدينة’؟ – الحقيقة القاهرة هي ان لـ”الصندوق” ضوابط وشروط يطبقها في تعامله مع كل الدول على قدم المساواة بينها ويحترم في كل واحد منها كونه كلّية سياسية ذات سيادة واحترامية. وهذا ما يملي عليه الامتناع “المطلق” عن اختراق تلك النواميس لخوفه من أن تنهار مصداقيته وثقة الجميع فيه في صفقة واحدة؛ لهذا، فإن سبب الافتراض الوحيد للرفض أو للتسويف هو “المدين” طالب القرض، بنفسه، وذلك لسببين متكاملين وواضحين: السبب الأول هو أن هذا “المدين” كان قد تحصّل على قروض سابقة من “الصندوق” وأنه أساء استعمالها بتحويلها لغير مقاصدها. وهذه، لوَحدها، غلطة لا تغتفر. أما السبب الثاني فقد يكون أشنع من الأول: العنصر الأول منه هو أن لكل دائن الحق في طلب ضمانات موثقة لتأمين القرض، و”الصندوق” كمثله من سائر الدائنين، طلب من البلاد التونسية ما يراه صالحا وضروريا من شروط وتعهدات، وأمهل الحكومة التونسية مرات عديدة لاستكمال تلك الشروط؛ فحصل ما لم يكن من المتوقع، وهو الذي تمثل في أن “المدين” رفض تلك الشروط بتعلة انها لا تحترم السيادة الوطنية التي لا نقاش فيها “على الاطلاق”. والعنصر الثاني، وهو اغرب من السابق، يتمثل في التناقض الفادح بين موقف رئيس الدولة الرافض، من جهة، وبين موقف حكومة الرئيس نفسه في مواصلة المفاوضات مع “الصندوق” على أساس شروطه، من جهة اخرى.
وإن من سوء طالع هذا البلد وسياساته المتذبذبة والمتناقضة هو انه، مهما كان المآل النهائي لهذا القرض، فإن الزمن يجري ضد مصالح البلاد بحكم أن خنَاق الديون والاستحقاقات المالية العالقة ببلادنا في السنة الحالية والسنة القادمة، سيزداد ضغطا على المالية التونسية يوما بعد يوم وانه، إذا استمر هذا الأمر على هذه الشاكلة، فإن تونس ستخسر فرصة ثمينة في علاقاتها مع “الصندوق” ومع من وراءه من المؤسسات المالية الدولية، وقد ينزلق بها هذا السلوك الى مواجهة بلادنا للمُرّ الذي أّكرهَت عليه في زمن غير بعيد، أي اللجوء الاجباري الى “نادي باريس للرهانات”، وما ادراك ما “نادي باريس للرهانات”. وليعلم الجميع أننا غير معصومين ولا بعيدين عن هذه الفرضية السوداء.
2-إذا تبين لنا ان هذا الباب مسدودا أو صعب فتحه، فهل سنجد مخرجا آخر يعتمد على مشاعر الأخوة والتضامن على أساس التشارك في الدين والتاريخ والقيم الحضارية ؟ – قد تكون الاجابة بدقة على هذا السؤال صعبة، ولكن حسب ما تم تداوله من اخبار وتسريبات وتكهنات صحفية متواترة، فإنه يبدو ان ساستنا حوّلوا اتجاههم من اقصى الغرب الى اقصى الشرق وذكروا أن بلدنا في حاجة ماسة الى اعانة استثنائية وعاجلة تساعد الدولة التونسية على حماية سيادتها وحرمتها وسمعتها بين الدول. لكن، فإنه ليس من المفاجئ إن كان الردّ إما بالتسويف واما بالاعتذار الدبلوماسي المعهودَين، وذلك بتعلّة وجوب الحصول المسبق على قرض من “الصندوق النقد الدولي”، وهذا هو ما يقارب “رد الراعي للراعية”، مثلما يقال؛ ولا تأمل كثيرا من الأقرب من الأقرباء، فإن ثمن مساعدته قد يكون كغيره اغلى بكثير كمّا وكيفا بحكم ان لكلّ مصالحه وحساباته.
3-إذا انقطع الأمل في الفوز بالقروض او بالإعانات من الخارج، فما هي حظوظنا في الاستنجاد بالمجهود الداخلي؟ – هنا، جاء رئيس الدولة بما لا يشفي الغليل حين قال: “لم يبق لنا الا الاتكال على أنفسنا وعلى قدراتنا الوطنية؛ لكن هذا الجواب لا يفي بالمطلوب على الاطلاق ” لأسباب عديدة: أولا، إذا كان في الموارد الداخلية ما هو كاف لسد الحاجة، فلماذا توجهنا الى المعونة الخارجية والى التعرض الى أجوبة ومعاملات لا تليق بسيادتنا وبحرمتنا الدولية؟ – ثانيا: ألا يعلم ساستنا ان عجزنا المالي يعد بآلاف المليارات وان إمكانات البلاد الداخلية غير قادرة “على الاطلاق” على تحمّل مثل ذلك العبء؟ ثالثا: لقد لجأت الدولة الى الاقتراض من البنوك الوطنية وبالخصوص، الى رصيد العملة الصعبة المودعة لديها (ما يناهز ما بين 5 و7 ملايين دولار). لكن في هذه الحال، ربما سيكون الدواء أخطر من الداء باعتبار أن تلك الأموال هي بمثابة ‘الوديعة’ المؤمّنة من طرف أصحابها لدى البنوك التونسية يتصرفون فيها حسب ارادتهم حصرا، وفي كل لحظة ودون سابق انذار .رابعا: من المعلوم عند الجميع أن الدولة مكبّلة بقروض أخرى ثقيلة جدا، منها “سندات الخزينة” والقروض على حسابات الخواص وان مجموع كل هذه القروض والالتزامات لا يمثل فقط عبئا ثقيلا على الدولة يرجع أساسها الى سوء التصرف في المال العام من طرف الحكومات المتتالية وإنما يمثل أيضا إضعَافا للادخار الخاص وبالتالي إضعافا للاستثمار الداخلي وللاقتصاد الوطني، بصفة اعم. فهذه التصرفات البهلوانية هي بمثابة التدابير التلفيقية اليائسة ولا أمل في الاعتماد عليها لحل هذا المشكل المالي الشائك. وبذلك، فإن الادعاء الذي جاء به رئيس الدولة والداعي الى “الاعتماد على النفس” ما هو الا ضربة سيف في البحر وهو مجرد استخفاف بالمواطنين.
4-ومن سوء الطالع ان رئيس الدولة فكّر من جهة أخرى في تكريس ما اعتبرها أموالا طائلة تُعدّ بالمليارات من الدنانير وهي أموال شبه جاهزة للاستعمال الآني والسريع مما يعني ان الخطة التي تفضّل بها رئيس الدولة في سبيل النهوض بالاقتصاد الوطني وإنقاذ البلاد من الورطة التي طال مداها ستحصل عن طريق ما هي في الحقيقة سوى أموال فاسدة ومسروقة كدّست بفعل من ارتكب الجرائم في حق وطنه وخانه بلا مبالاة وبلا حساب ولا عقاب. خامسا: زد على ذلك أنه، مهما يكن من أمر، فإنه لا شك ان هذه الأموال الفاسدة هي في الحقيقة صعبة المنال مثلما تبيّن ذلك من المحاولات الرئاسية اليائسة القريبة العهد. فكل هذه التخمينات هي مجرد أضغاث أحلام لا يأمل من ورائها السقيم المشرف على الهلاك أي خير ولا أية جدوى ملموسة.
5- ولقائل ان يسأل: “من المسؤول عن كل هذه التعثرات والإخفاقات” ؟ – قد يجيب البعض “إنما ترجع المسؤولية في هذا الى عجز المؤسسات الدستورية والسياسية الحالية وقصورها في ترتيب الشؤون الوطنية، والى انعدام تجربتهم الحكمية في هذا المجال المصيري، فكما قيل سابقا، ‘ليس كل من يركب الخَيل فارسا”. ربما يوجد في هذا الرد بعض الصواب؛ لكن نسبة الصواب فيه ضئيلة لسبب بديهي ولا هروب منه: “من الذي عيّن تلك السلط وانتدب أصحابها” ؟ – فنقول ردا على هذا السؤال: على التونسيين الاقتداء بتلك التجربة الفاشلة وان يأخذوا “الديمقراطية”- التي يقال إنهم اختاروها أساسا لإدارة شؤونهم -، على محمل الجد وان يستبصروا أمرهم بكل وعي ومسؤولية وان يستفيقوا من غفوتهم ويستيقظوا من سباتهم. فلا نجاة ولا خلاص الا بالمبادرات الصادرة من صميم الضمير الوطني ومن حكمة هذا الشعب الأبي
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 6 جوان 2023