الشارع المغاربي: منذ النهاية المأساوية لسياسة التعاضد في ستينيات القرن الماضي، التي حاولت خلالها النخبة السياسية التونسية إدخال تغييرات راديكالية على البنية الفلاحية، قررت هذه النخبة أن تنآى بنفسها عن التدخل المباشر والقوي في الأرياف لإحداث تحولات سريعة وكبيرة قد تهدد سلطتها وشرعية قيادتها في الأرياف. وبذلك اختارت الحفاظ على فئة الفلاحين الصغار والمتوسطين حليفا أو “محايدا” لها، توزع عليه الإعانات، وتسكن مطالبه الحياتية هنا وهناك ب”التدخلات العاجلة” و”الزيارات الفجئية”، آملة في أن ما تبذله من جهد بمشاريع “التنمية الريفية” أو ب “التنمية المندمجة” سيوفر بعض مستلزمات البنية التحتية الضرورية لجلب الاستثمار في الفلاحة (الطرقات والسدود وغيره)، تاركة للمدرسة والديمغرافيا والسوق عهدة إحداث تحول نوعي فارق في بنية الفلاحة التونسية. لكن حساب البيدر لم يكن دقيقا، فالبرامج التنموية ليست مجرد تحديثات تقنية وقانونية بل مضمخة بالسياسة وبالمصالح والمنافع، وكيفما توجهها تنتج عنها تحولات اجتماعية تعبر عن نفسها في المنعطفات التاريخية بلغة سياسية. وفي سنة 2010-2011 انفجرت في وجه النظام القائم كل سياسات-حسابات التنمية الريفية والتنمية المندمجة والديمغرافيا والمدرسة والبنية الفلاحية بأكملها: 48% من الذين خرجوا في مظاهرات سيدي بوزيد والقصرين يسكنون خارج المدينة، وقسم كبيرمن ال 52% الآخرين لهم علاقة مباشرة بالفلاحة.
والآن ظهر ثمن سكوت هذه النخبة عن الترهل الكبير الذي تعرفه الفلاحة التونسية كقطاع إقتصادي حيوي، وعن الأزمة العميقة التي يعرفها مجتمع الفلاحين الصغار والمتوسطين، الذين أصبحوا يشترون من الأسواق كل غذاءهم. وقد أنتجت هذه الأزمة الإقتصادية-البيروقراطية تضخما لا مثيل له لوزارة الفلاحة (ربما تفوق كلفة عدد موظفيها بأساطيلهم من السيارات والإدارات ما يكفي حاجة القطاع من موارد)، وارتباكا في بلورة مشروع إصلاحي عميق للإزمة، وجبن سياسي-بيروقراطي في مواجهة المسألة علنا، بوضوح ومسؤولية.
وهاكم التضاريس القاسية للأزمة العميقة والخطيرة المسكوت عنها: في سنة 1962 كان عدد المالكين المستغلين في تونس 326 ألفا، واليوم وعوض أن يتقلص عددهم لفائدة عدد أقل مع مستغلات أكبر يسهل تطويرها، أصبح عددهم أكثر من 516 ألفا! وفي الأثناء أصبحت نسبة الذين يملكون منهم أقل من 5 هك 54% مع تذرر للملكيات على أكثر من قطعة صغيرة (سنة 1962 كانت النسبة 41%). ومن مجموع هؤلاء المالكين هناك قرابة 300 ألف ، أي حوالي 60% ، لا يعيشون من فلاحتهم إلا جزئيا، أو أنهم لا يحصلون منها إلا على دخل صوري ضئيل جدا. وهكذا فإن نسبة كبيرة منهم تعيش من أعمال جانبية أخرى، أو من مساعدة أبنائها الذين غادروا المجال الفلاحي وأصبحوا موظفين أو عمالا أو هاجروا للعمل خارج البلاد، مع محافظتها على أملاكها دون استغلال مكثف. ومن ناحية أخرى 95% من جميع المالكين (كل الفئات مجتمعة) يستغلون أراضيهم (عندما يستغلونها) بشكل مباشر، ولا يؤجرونها ولا يسلمونها لغيرهم وفق عقود مزارعة، وهم بنسبة 80% لم يشتروها بل ورثوها عن أهلهم، أي وصلت إليهم من خارج السوق العقارية، وهذه النسبة لا تختلف أينما كنا في شمال البلاد أو وسطها أو جنوبها. وإضافة إلى كل هذه الخصائص فإن أكثر من 87% من مجموع المالكين لا يتعاملون مع البنوك. وإذا أضفنا لهذه المسائل حالة قطاع أراضي الدولة وسوء استغلالها والفساد الذي صاحب عمليات التفريط فيها ندرك أن الحالة مستعصية فعلا.
وتتشعب هذه القضايا أكثر عندما نعرف أن قوة العمل الفلاحية أصبحت تنحو أكثر فأكثر نحو تشغيل المرأة، وأن جزء كبيرا من الظاهرة غير مرئي، خاصة عندما تعمل المرأة في الحقل وفي تربية الماشية المنزلية معينة فلاحية للزوج أو الإبن، دون حصولها على أجر خاص، ودون تغطية صحية أو أمل في منحة تقاعد، ودون الوصول إلى المورد الأساسي في الفلاحة وهو ملكية الأرض (حوالي 7% فقط من النساء يملكن) .
وهناك خصائص أخرى لهؤلاء الفلاحين أخطر وأبعد تأثيرا في تعقيد الأزمة، وفي تكثيف ما تولده من قضايا اجتماعية وسياسية مسكوت عنها: في سنة 1962 كان عمر 33 % من جميع المالكين أقل من 40 سنة، أما سنة 2005 (والأمر زاد استفحالا منذ ذلك الوقت) فهم لا يتجاوزون نسبة 13% من المجموع. وفي المقابل تعيش بين الفلاحين، بما يتطلبه عملهم من مشقة وعناء، كتلة من 43 % من المالكين زاد عمرهم عن الستين سنة وضعفت همتهم وأدائهم. بل أكثر من ذلك، إذ أن 87% من المالكين المستغلين إما لا يكتبون ولا يقرؤون، أو أنهم لم يتجاوزوا مرحلة الدراسة الابتدائية.
كل هذا يحدث في مجال الفلاحة التونسية الذي من المفترض أنه قادر على تحصين البلاد غذائيا في هذه الفترة الحرجة من تاريخ العالم، ليس السياسي فحسب بل المناخي أيضا. ونحن اليوم نحصد ثمن الإهمال واللامهنية، وتقديم المنفعة الخاصة أو الفئوية على مصلحة الوطن، والجبن السياسي-البيروقراطي الذي شعاره “إذا أردت النجاح في منصبك فلا تفعل شيئا يغير من التوازنات ومن روتين العمل”. وبهذا المنطق فإن أهم مخرجات الإدارة هو اتفاق الجميع في الدفاع عن الرداءة.
إن مشاكل الإنتاج والغذاء وتصدير المواد الفلاحية لا يمكن أن تختزل في معارك القط والفأر السياسية المعروفة للجميع، والتي يربحها دائما الشاطر بموارده الخفية وتجربته العريقة في إدارة معارك الباب الدوار. إنها مشاكل هيكلية لا تتزحزح إلا بالكشف عنها، وبتشخيصها، وبالتخطيط الدقيق لتفكيكها، وبجمع التوافق الشجاع حول العزم على حلها، فتكون سياسة طويلة النفس تتجاوز التداول على السلطة، وتلزم الدولة باتباعها حتى وإن تضمنت توجهات مؤلمة، قد تنتهي بتفكيك الارتباط بين مفهوم الملكية ومفهوم الشرف على المستوى الفردي، في سبيل تحقيق كرامة الوطن والمواطنين.
في الوقت الحاضر تسير الدولة التونسية بصعوبة في طريق وعر، حاملة بين ذراعيها كتلة من الفلاحين المزعومين الفقراء، الذين يعيشون من موارد أبنائهم الموظفين أوالعاملين في الخارج، لا تدري ماذا تفعل بهم أو لهم، ولا تجرؤ على أن تتكلم بشأنهم، وتكتفي بإرضاعهم واستغلالهم في ذات الوقت، تارة بالعفو عن متخلداتهم أو بمنحهم تعويضات، وتارة بطحنهم من خلال تثبيت أسعار منتجاتهم بما لا يجزيهم حقهم، وفي هذا الوقت تحترف التيارات السياسية، بمختلف أصنافها، الكذب عليهم واستدرار أصواتهم بالمقرونا أو بالأيديولوجيا…تماما مثلما كان يفعل التجمع الدستوري الديمقراطي.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 5 سبتمبر 2023