الشارع المغاربي: ملزومة نتناقلها، قيل إنّها لبيرم التونسي وإن لم أتأكّد من ذلك إلا أنّها واصفة ومعبّرة جاء فيها:
يا سعد من باع داره ومن المال حصّل نصيبه
وفي البحر ركب صغاره واسكندرية قريبه
ولا قعادك في برّ تونس كلّ يوم تسمع غريبه
وفعلا تونس بلد الغرائب والعجائب حُكما ومعارضة، وسوف أتناول هذه المرّة ما يتعلّق بإضراب الجوع الذي أعلن عنه الغنوشي.
إضراب الجوع وسيلة من الوسائل التي ابتُدعت لإجبار الحاكم على الرضوخ لبعض المطالب السياسيّة أساسا. إلا أنّ الجوع ارتبط في المخيال الشعبي لدينا بصيام شهر رمضان مع ما يصحبه من مظاهرالفرح طوال شهر كامل. فهو عبادة تكسوها عادات وتقاليد لا تكاد تنفصم عنه كالسهر للانبساط والإسراف في الطبخ والأكل وغير ذلك. فهو بهذا المعنى الديني الحضاري لا يكتسب أيّ معنى نضالي لأنّ أقصى ما يتصوّر المرء لدينا عند الحديث عن الصيام أنّه وسيلة يشعر فيها الغني بما يحسّ الفقير عند الجوع، ولهذا السبب لم يكن له أيّ تأثير لدى العموم ولا كان وسيلة لتهييج العامة وتحفيزها للتظاهر كما حدث مع حارق نفسه في سيدي بوزيد سنة 2010.
عرفنا منذ بداية القرن الحالي إضراب جوع حدث سنة 2005 إثر تجمّع ثمانية أنفار من النهضويّين وتُبّعهملمّا أعلنوا دخولهم في إضراب جوع يوم 18 أكتوبر قبيل القمة العالميّة لمجتمع المعلومات حتى يلفتوا أنظار الداخل والخارج إلى ما اعتبروه استبداد السلطة، واللافت للنظر أنّ بداية هذا الإضراب وافقت يوم الثلاثاء 15 رمضان 1426ه، ولا يهمّنا الخوض في تفاصيل الإضراب وأسبابه فذلك من مهامّ المؤرّخين ولكن اهتمامنا ينصبّ على البحث عن مدى تأثير هذا الفعل في الساحة السياسيّة الداخليّة، في كلمة واحدة مرّ هذا الإضراب دون أن يكون له أي ردّ فعل لا من العموم ولا من السلطة التي لغباء فيها لم تستغلّ إضراب جوع في رمضان لسحب البساط من تحت أقدام دعاته ومنفذيه قائلة بأن التوقف عن الطعام في رمضان عبادة وليس سياسة.
أمّا إضراب الجوع الثاني فهو الذي أُعلن عنه هذه الأيام واللافت للنظر أنّه يصدر عمّن يرأس حزبا إسلاميّا كان من المفروض أن يلتزم بأحكام الشرع لا أن يدعو إلى الشيء ويفعل نقيضه، فقد تعوّدنا من راشد الغنوشي مخالفة الشرع والدّوس على أحكامه رغم أنّه يدّعي لنفسه المشيخيّة والعلم بالدين من ذلك أنّه كان يصلّي بالمسجونين صلاة الجمعة وفيما بعد جمع خطبه ونشرها في كتاب(1) مخالفا بذلك ما استقرّت عليه الفتوى من أنّ صلاة الجمعة لا تقام في السجون، قال الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور: “لا تقام صلاة الجمعة بالسجن لأنّ شرط الجمعة المسجد الجامع المبني على عادة مساجد الجمعة كما لا تقام في دار ولا في فندق ولا في ساحة”(2)، ولا ننسى أنّه حرّض على إبطال الصلاة في جامع سيدي اللخمي بصفاقس لمدّة شهرين كاملين بعد عزل إمامه وهو تصرّف يمنعه الشرع ويدينه وفاعله فاسق فاجر لأنه عمل على ترك الشعائر دون دفع المفاسد، كما نشرت الأستاذة نائلة السليني مقالا تتبّعت فيه أخطاء الغنوشي في إمامته للمؤمنين في الجمعة وهي أخطاء متنوّعة منها ما يطال القرآن وتلاوته ومنها ما يلامس الخطبة ذاتها(3)، أمّا بالنسبة لإضراب الجوع الذي أعلن عنه فهو محرّم تحريما مغلّظا أفتى بذلك شيخ الشيوخ الإمام محمد العزيز جعيط، جاء في جواب له عن سؤال مواطن قال: “وبعد فجوابا على السؤال الموجّه في الكتاب المفتوح المنشور بعدد 1288 من جريدة الصباح المؤرخ في 18 رجب وفي 1 مارس 1375-1956، أقول الإمساك عن الأكل المعبّر عنه باعتصاب الجوع إن أفضى إلى هلاك النفس أو عضو من الأعضاء كان محرّما تحريما غليظا لأنّ الله أوجب صيانة الأنفس والأطراف ولا يبيح قطع الأطراف إلا لخوف هلاك النفس،فأمّا تعريض النفس للهلاك في غير الجهاد أو الدفاع عن النفس أو المال أو العرض فمحرّم بنصّ الكتاب والسنة، أمّا الكتاب فقول الله تعالى: [وَلَا تَقتُلُوٓاْ أَنفُسَكُم إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُم رَحِيمٗا]، وقد استشهد عمر ابن العاص بالآية في الاعتذار عن التيمّم وترك الطهر بالماء في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشهاد بها أمامه، وأمّا السنّة فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل نفسه بحديدة فحديدته يتوجّأ بها -أي يطعن- بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا ومن شرب سمّا فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا] وأخرج عن ثابت الضحاك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذّب به يوم القيامة]، وذكر الفقهاء أنّ صوم رمضان إذا أفضى بالمرء إلى هلاك نفسه أو فساد عضو من أعضائه يحرم ويجب الفطر وتردّدوا في صحّة الصوم في هذه الحالة.
هذا حكم الله في المسالة جلوناه وإنّ الهدي هدي الله والسلام، حرّره الفقير إلى ربه محمد العزيز جعيط شيخ الإسلام المالكي في 22 رجب وفي 5 مارس عام 1375-1956.](4).
والمستفاد ممّا ذكر أنّ الغنوشي وجماعته بإعلانهم إضراب الجوع يرتكبون محرّما وهو ما دأبوا عليه ممّا يثبت أنهم يستعملون الدين لتحقيق أغراض سياسيّة حتى وإن كانت محرّمة ومنهي عنها شرعا.
وعلى حكم 25 جويلية أن لا يستجيب إلى مطالبهم ولا يُلقي بالا لضغوطهم وإن وصلت إلى منتهاها لأنّه إن فعل عُدَّ مشاركا لهم في الإثم ومشجّعا لهم على ارتكاب ما حرّم الشارع ومخلّد في النار مثلهم من ناحية وعليه من ناحية أخرى أن يكون وفيّالِما ورد في الفصل الخامس من دستوره الذي ينصّ على المحافظة على مقاصد الإسلام وأوّلها الدين أي أحكامه كالتي أوضحها شيخ الشيوخ محمد العزيز جعيط في فتواه.
الهوامش
1) “حقوق المواطنة، وضعية غير المسلم في المجتمع الإسلامي”، مطبعة تونس قرطاج 1989.
2)مجلة جوهر الإسلام السنة 2 العدد 5 ذو القعدة 1389ه/1970م.
3)جريدة المغرب بتاريخ 6 جانفي 2013.
4) جريدة الصباح بتاريخ 8 مارس 1956.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 3 اكتوبر 2023