الشارع المغاربي: رغم أن الشرع يمكّن الإنسان من فسحة واسعة للتصرف خصوصا في العبادات التي قد تُحمّل الإنسان ما فوق طاقته فإنه يذهب في ظن أصحاب الجهالة المنتشرة أن التشدّد في فهم الأوامر ورفض الرخص جميعها والالتزام الحرفي بالنصوص دون النظر إلى القرائن والحافات فيه زيادة في الأجر ودليل على حسن الإيمان، والحال أن حالهم كحال من ضيّق على نفسه فضيق الله عليه. فقد سبق أن بحثت موضوع الرخصة لأسباب قاهرة في مسألة الحج ودعوت إلى التوقف عن أدائه لِما يحدث من أضرار باقتصاد البلاد ممّا يُدخله في باب السفه ورغم ذلك فقد كانت صيحتنا صيحة في واد أو نفخة من رماد إن ذهبت اليوم بالريح فستذهب غدا بالأوتاد مثلما يقال. واليوم نعود إلى درس نفس الموضوع في باب الأضحية.
إن المتأمل في الظروف التي يعيشها الوطن من مختلف النواحي بدءا بالقدرة المالية إلى عجز الدولة عن توفير الأضاحي مرورا بضرورة المحافظة على ثروتنا الحيوانية التي يتم إهدار قسم كبير منها كل سنة تصل بنا إلى نتيجة واحدة وهي ضرورة التوقف عن الأضحية هذه السنة لأسباب شرعية لا نقاش فيها أجملها في ما يلي:
1)الأضحية سنّة مؤكدة وليست فرضا وكل ما يندرج تحت هذا الحكم يمكن الامتناع عن فعله إن دعت الحاجة اليه ولا إثم في ذلك.
2) الحكمة من أداء شعائر الإسلام إظهار الطاعة لله. أما الحركات والأفعال فغير مقصودة لذاتها بحيث يمكن أن تُعطّل إن أدّت إلى ضرر متحقّق أو متوقع الحدوث. فالصوم يصبح محرّما في حالات وينهى المشرّع عن استعمال الماء في الغسل أو الوضوء إن أسلم ذلك إلى المرض. فحفظ النفوس مقدّم على غيره لأنّها محل أداء العبادة ووسيلتها.
3) الأضحية تسقط في حق غير القادر وهو ما يعبّر عنه بالاستطاعة. وقد تناولها الفقهاء القدامى حال انطباقها على الفرد وهي اليوم غير متوفرة. فالارتفاع الفاحش في أسعار الأضاحي يسقط هذا الشرط عن الأغلبية الغالبة من التونسيين. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى شرط الاستطاعة مرتبط بالجماعة نظرا لتعقد مسالك الحياة ومؤسّساتها. فالأضحية اليوم تتكلف على ميزانية الدولة بكميات مهولة من الأموال عند الاستيراد أو عند ذبح المحلّي. والحال على ما هو عليه تقتضي الحكمة أن تتجه سياسة الدولة إلى حماية الثروة الحيوانية ودعوة المسلمين إلى الامتناع عن الأضحية هذا العام حتى لا تكون هذه الشعيرة مجلبة للمشقة ومدخلا للعنت. فقد عقد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه المقاصد فصلا كاملا عنوانه “ليست الشريعة بنكاية” علما بأن ملك المغرب منع إقامة هذه الشعيرة في عام من الأعوام حفاظا على الثروة الحيوانيّة.
4)سلامة الوطن وحمايته والعمل على توفير الضرورات هي أولى الأولويات بحيث نحتاج اليوم إلى التصرّف الحكيم الذي يمكننا من استغلال كلّ القدرات المتاحة أو التي ستتاح في ما ينفع الناس ويردّ عنهم غوائل الدهر من تآمر الأعداء والفقر والمرض والبطالة. قال العز بن عبد السلام في فصل عنوانه (في المشاق الموجبة للتخفيفات): “الضرب الثاني مشقّة تنفك عنها العبادة غالبا وهي أنواع: النوع الأوّل مشقّة عظيمة فادحة كمشقّة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأطراف، فهذه مشقّة موجبة للتخفيف والترخيص لأنّ حفظ المُهج والأطراف لإقامة مصالح الدارين أولى من تعريضها للفوات بعبادة أو عبادات ثم تفوت أمثالها”(1) وأيّ مشقّة أعظم من تعريض الوطن إلى المخاطر والمهالك بتفليس ميزانية الدولة ورهن القرار الوطني السيادي لمجرد إقامة شعيرة شرطها الأساسي الذي هو الاستطاعة غير متوفّر.
5) المصلحة العامة مقدّمة على غيرها شرعا وعقلا، والتضحية بالمصلحة الخاصة حفاظا على العامة أمر واجب عند الضرورة. قال الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور في تعريفه للمصلحة العامة بأنّها:”ما فيه صلاح عموم الأمّة أو الجمهور ولا التفات منه إلى أحوال الأفراد إلا من حيث أنهم أجزاء من مجموع الأمة”(2). وقال كذلك: “فلو فرض أنّ الصلاح الفردي قد يحصل منه عند الاجتماع فساد فإنّ ذلك الصلاح يذهب أدراجا ويكون كما لو هبّت الرياح فأطفأت سراجا”(3). أما ابن نجيم فقد لخّص المسألة كلها بتفريعاتها في قوله:”يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام”(4) الأمر الذي يعني أنه على المؤمنين أن يرجئوا شعيرة الأضحية دفعا لِما يمكن أن تتعرّض له الأمة من مشقة بدأت تظهر بوادرها.
6) حقّ العبد مقدّم على حقّ الشرع مثلما يقول الفقهاء، إذ كلّما تعارضت الأحكام الشرعيّة مع مصالح المكلفين إلا وقدّمت هذه الأخيرة لأنّ المقصود من الشرع هو حفظ الجماعة وتمكينها ممّا ينظم حالها ويؤدي بها إلى القوّة والمناعة. فقد عقد العزّ بن عبد السلام فصلا في المسألة عنوانه (في ما يُقدّم من حقوق العباد على حق الربّ رفقا بهم في دنياهم)، جاء فيه: “ومنها ترك الصلاة والصيام وكلّ حق يجب لله على الفور بالإلجاء أو الإكراه”(5). وقال ابن عابدين (ت1836م): “قوله لتقدّم حق العبد أي على حقّ الشرع لا تهاونا بحقّ الشرع بل لحاجة العبد وعدم حاجة الشرع ألا ترى أنّه إذا اجتمعت الحدود وفيها حقّ العبد يبدأ بحقّ العبد لِما قلنا ولأنّه ما من شيء إلا ولله تعالى فيه حقّ فلو تقدم حقّ الشرع عند الاجتماع لبطلت حقوق العباد… وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام فدين الله أحقّ فالظاهر أنه أحقّ من جهة التعظيم لا من جهة التقديم”(6).
7)في الحالات غير العادية لضرورة عامة مؤقّتة يجوز التصرّف في الأحكام الشرعية بالتقديم أو بالتأخير أو بالمنع المؤقّت حسب ما تقتضي الحال. قال الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور في شرحه للمسألة:”وذلك أن يعرض الاضطرار للأمّة أو طائفة عظيمة منها تستدعي إباحة الفعل الممنوع شرعا لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمة وإبقاء قوّتها أو نحو ذلك….. ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة وإنها تقتضي تغييرا للأحكام الشرعية المقرّرة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة”(7).
8) نصّ الأصوليون على قاعدة فقهية هي درء المفاسد أولى من جلب المصالح وهي قاعدة يتم الاستئناس بها عند تعارض المصالح والمفاسد. يقول ابن نجيم: “فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة قُدِّم دفع المفسدة غالبا لأنّ اعتناء الشرع بالمنهيات أشدّ من اعتنائه بالمأمورات… ومن ثمّ جاز ترك الواجب دفعا للمشقّة ولم يسامح في الإقدام على المنهيّات خصوصا الكبائر”(8). وفي الموضوع المبحوث نلحظ أن إقامة شعيرة الأضحية يؤدّي حتما إلى الإضرار بالاقتصاد وإفساد خطط التنمية وإهدار الثروة العمومية. لذا أباح الشرع أن يتم تأجيل القيام بهذه الشعيرة اتساقا مع القاعدة الأصولية سالفة الذكر.
لكل ما ذكر أعلاه، من حسن إسلام المرء التوقف عن أداء هذه الشعيرة حفاظا على مصالح الأمة ولا التفات لمن يقول خلاف هذا كأن يشترط لتمامه منع استيراد الخمور أو تنظيم الحفلات وغيرهما، فالأصل أن فعل ما ينفع البلاد والعباد لا يكون مشروطا بغيره.
الهوامش
1) “القواعد الكبرى الموسوم بقواعد الأحكام في إصلاح الأنام” للعز بن عبد السلام، تحقيق نزيه كمال حمّاد وعثمان جمعة ضميرية، دار القلم، دمشق 2000، ط1، 2/13 و14.
2) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص65 و66.
3) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص139.
4) “الأشباه والنظائر” لابن نجيم، تحقيق محمد مطيع الحافظ، دار الفكر، سوريا 1983، ص96.
5) قواعد الأحكام 1/255.
6) “ردّ المحتار على الدرّ المختار”، 2/144.
7) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص125.
8) الأشباه والنظائر، ص99 و100.
+نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 جوان 2024