الشارع المغاربي: لم يفلح حكّام اليوم، كما حكام الأمس القريب، في إنهاضِ تونس من كَبوتِها المالية والإقتصادية، وإنما أفلحوا في التّداين وفي التداين على التداين وفي سؤال الهِبة تلو الأخرى، وصولا إلى الهبة المعاشية الوافدة من ليبيا، مُمَثَّلةً في السكر والزيت والأرز والدقيق. هي هِبةُ مواد غذائية موجهة إلى بلد هو في الأصل مَطمُورُها. وقد صاحب الهبةَ، صورةً وخطابا وفحوى، انحراف بها إلى”الصدقة الجارية” في الطريق العام الرابط بين تونس وليبيا
1 / فحوى الصدقة
الصدقة هي من المقتدر إلى المحتاج. ومعيار الحاجة هو الجوع. فقد تلبس بالصدقة “الإطعام””. وتلبّس بها إطعام “المساكين وذوي القربى”في حال التكفير عن ذنب “الطعام” بدل الصوم. والهبة التي جاءتنا على عجل من ليبيا هي إطعام لنا لأننا من “المساكين ومن ذوي القربى”. ألسنا أشقاء!. فهي أجرى على”الصدقة”.
ليست هذه الهبة هي الأولى. فتونس”الثورية الديمقراطية” وتونس”البناء الشاهق” أضحت رسميا دولة السؤال لِمَن وهَبَ. وآخر الهبات تلك التي أتتنا من الجزائر. هبة الجزائر، مشكورةً، مالية. هي طِبق الأعراف في المألوف من الأحوال. لكن هبة ليبيا بخلافها. فَلِمَحمُول تلك الشاحنات قيمة نقدية كان يمكن تقديمها لتونس فَتُنفقَها في توريد المواد الغذائية. لكن تحويل”الهبة”إلى صدقة معاشية جارية على الشاحنات يبعث على ما لا تبعث عليه الهبة النقدية.”الهبة الإطعامية” التي لا تكون”صدقة” هي التي تقتضيها بين الدولِ الحالاتُ الطارئة الكاسحة للأوضاع المالوفة نحو الحروب أو التقاتل الداخلي أو الفيضانات أو الزلازل أو الأعاصير الخ… فهذه الظروف وأشباهها تتطلب أن تمتد إلى البلد المنكوب يدُ العونَ الغذائي المستعجل، لأنها ظروف يُوضَع في خانتها تلفُ المحاصيل أو المدّخراتِ وانقطاعُ السبل ونفاذُ الوقت الذي يُوجِبُهُ عملُ سلاسل التوريد والتوفير.
لا نعلم أنّ أيّا من هذه الكوارث قد أصابت تونس فاقتضت الإسراع بإطعام شعبها بالغذاء المطلوب على وجهِ الهبة والفضل. إنما الأكيد أنّ الكوارث السياسية الحاكمة هي التي أفضى تدبيرُها الفاشل إلى أن تخلوَ البلاد من المدخرات الغذائية ومن شروط إنتاجها، وإلى أن تنقطع سلاسل استيرادها بسبب الإفتقار إلى مالية ذلك. والحصيلةُ شُحٌّ عذائي حادّ استوجب”صدقةً” معاشية عاجلة، لا هبةً مالية يجري بها الإستيراد في الأفق القريب.
إن في ذلك لصفعة.و ليست الصفعة باليد الليبية على الخد التونسي. وإنما هي باليدين التونسيتين على الخدين التونسيين. لقد صفعَنا ساستُنا صفعا مبرّحا مهينا إذ صيّرونا نعتاش، تصدّقا، من الشاحنات الجوالة في زمن الديمقراطية الإخوانية وعهد”البناء الشاهق السعيد
”/ 2 الجهة المتصدقة:”
قال أحد ساسة تونس غير الرسميين: لا إهانة لتونس في تلقّي تلك المساعدة من ليبيا”. وهذا الرأي غير وجيه. فإذْ لا نودّ أن نرتديَ جبّة المحتاج الكَنُودِ، فإنّ الأصل أن يكون اتجاهُ الهبة المعاشية عكسيا. ففي ليبيا حرب أهلية متصلة منذ اثنتي عشرة سنة، وانقسام بين شرق وغرب وجنوب، وقبلية متنافرة مشدودة إلى تقاليد من التقاتل، وازدواج حكومي وعسكري وجغرافي، وإنتاج معطل، وتصدير للنفط متقطع، وشركات هناك ناهبة، وتطاحن خارجي على أشده. فما مِن حرج ولا مهانة لسكان ليبيا في أن تأتِيَهم المواد المعاشية من تونس التي” أذهل شعبُها العالم” و”غيّر مجرى التاريخ”بقيادة رئيس قادم مِمّا قبل التاريخ. لكن حصول العكس عجَبٌ ساخطٌ.
/ 3 بضاعتنا “صُدِّقَت علينا:
“ من الزاوية المتعلقة بمراقبة الحدود، كما من غيرها من الزوايا، يتأكد أنّ سلطة”البناء الشاهق” عاجزة ، كسابقاتها الحاكمات على أيام”الثورة المباركة”، عن تصريف الشأن العام ولو في حدود قرية أو حيّ. ذلك أنّ نفاذ المخزون الغذائي في تونس إلى الحدّ الجالب لأن تتصدق علينا ليبيا المنقسمة سلطةً وأرضا وأجهزةً، إنّما تُقابِله مُفارقةٌ لا تكون إلا في”الاستثناء التونسي”العارج بالتاريخ على صهوة البغال.
من مظاهر هذه المفارقة التي يشهدُ لَها كلُّ مَن رأى، أنّ المواد الغذائية التونسية المدعّمة وغير المدعمة والمستوردة تتكدس هضابا في محلات البيع الليبية، بواسطة حيتان التهريب والتجارة الموازية في تونس. والهضاب نفسها في محلات المناطق الحدودية على ذمة التهريب إلى التراب الليبي. والغريب أن سلطة “البناء البالغ عنان السماء” قد احترفت ملاحقة باعة التفصيل في الأحياء والقرى في عشرات من الكيلوغرامات التي لا تجري أبدا مجرى “الإحتكار”. لكن حيتان التهريب وقروش التجارة غير القانونية إنما هُم في مأمن من الملاحقة. فالقاصر لا يستقوي إلا على الضعاف.
إنّ الثغرات التي قضت أن نعتاش على الصدقة العجولة هي أولا الفشل الرسمي في القيامة على الشأن العام، وهي ثانيا سلاسل التهريب. وإذا كان الفشلُ داءً لا علاج له في قسم الإستعجالي، فإنّ علاجَ التهريب أيسرُ. لكن ذلك لا سبيل إليه على أيدي من لا يهجسون إلا بحكم البلاد ولو صارت حجرا على حجر. فلعل ما حملت تلك الشاحنات الوافدة من ليبيا يوازي ما يُهرَّب إليها أسبوعيا، ولا يقارن بأموال المصحات التونسية التي تتلكّأ السلطة الليبية في تسديدها. فتلك الصدقة هي إلى حد كبير بضاعتنا وقد صُدِّقَت علينا صدَقةً تحف بها أبعاد سياسية أكيدة.
4 / أبعاد الصدقة السياسية:
عَرَضَ الخطاب الرسمي الليبي لتلك الصدقة بنوع من المَنِّ الخفيّ. وهو مَنّ غير عفوي. فهو ضمن تدابير مدروسة لجرّ تونس الجائعة إلى المحور الذي تمثله في الصراع الليبي الداخلي حكومةُ الغرب برئاسة “الدبيبة”. فقبل هذه الصدقة، زار الدبيبة تونس. وحُظي باستقبال وترحاب رسميين مذهلين. وبعد الزيارة انتظم بتونس معرض تجاري تونسي ليبي مشترك.
إن حكومة الدبيبة المسنودة من ميليشيات إخوانية في الداخل الليبي، ومن تركيا وقطر الحاضرين في الغرب اللببي بقوة، ومن بعض الدول الغربية التي تحتاج إلى جهة مخاطبة، قد وجدت في تونس المنهكة منفذا إلى التمدد الإقليمي وفك العزلة عنها. فحكومة الدبيبة معزولة داخل التراب الليبي نفسه”بالخط الأحمر” الذي رسمته السلطةُ المصرية، وبسلطة بنغازي، وبرلمان طبرق، فضلا على الحاجز المصري نفسه.
وتبدو سلطة البناء الشاهق امتدادا”لسلطة الغنوشي”. فبالأمس الغنوشي والسراج الإخوانيان، واليوم الدبيبة وسعيد الإخوانيان. الحاصل هنيئا لنا بشاحنات الدبيبة التي وصلت والتي ستصل. فنحن نهنّئ أنفسنا على تهنئة رئيسنا لنا بها. ونرجو أن نستقبل الشاحنات التي ستفد بأهزوجة “أقبل الخبزُ علينا”.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 جانفي 2023