الشارع المغاربي: تعتبر قناة بنما شقيقة قناة السويس. وإذا كانت القناة المصرية توفّر طريقًا مثاليًّا يربط بين غرب الأرض وشرقها، وإذا كان تعطلها يعني تكبّدالشركات التجارية العالمية التي تسلك هذا الطريقخسائر بملايين الدولارات فإن نفس الشيء ينسحب على شقيقتها في الجزء الجنوبي من الكوكب، وتحديدًا في بنما، حيث قناة بنما التي تربط بين المحيطين الهادي والهندي، والتي توفّر على السفن القادمة أو الذاهبة من قارتي أمريكا الجنوبية والشمالية وإليهما قطع نحو 15 ألف كلم.
وقد عانى سكان بنما مثلهم مثل الشعب المصري وناضلوا كي يمتلكوا زمام إدارة القناة من دولة أجنبية. فبينما سيطرت فرنسا على قناة السويس على امتداد أكثر من 50 عامًا؛ استولت الولايات المتحدة الأمريكية على قناة بنما لفترة زمنية مشابهة بعدما عمدت الى طرق ملتوية لافتكاك القناة من فرنسا التي كانت قد باشرت حفرها حتى وضعت يدها عليها ومن ثمة بدأ قرن كامل من التدخل الأمريكي في الدولة اللاتينية.
تتكلم أغلب دول أمريكا اللاتينية – ومن بينها بنما – اللغة الإسبانية، وذلك بسبب الاستعمار الإسباني الذي وجه دفته نحو القارة الجنوبية؛ والتي بالأساس اكتشفها مستكشفون إسبان كانو يجوبون المحيطات بحثًا عن أرضٍ جديدةٍ.
في عام 1513، اكتشف المستكشف الإسباني فاسكو بالبوا (Vasco Balboa) أثناء رحلة له على السواحل البنمية؛ أن بنما عبارة عن برزخ أو حاجز مادي يفصل بينالمحيط الهادي والمحيط الأطلسي وأنها يمكن أن تصبح مركزًا للسفن التجارية الإسبانية لنقل البضائع بين المحيطين بسهولة وفي وقتٍ أقل.
لكن فكرة بالبوا كانت نظرية لم ينفذ منها أي شيء على أرض الواقع، حتى إنه مات بعد اكتشافه بست سنوات فقط، لكن الفكرة ظلت حلم أجيال متعاقبة، حتى نجح المعماري الفرنسي الشهير فرديناند ديليسبس في إنجاز قناة السويس مع نهاية العقد السابع في القرن التاسع عشر.
في عام 1881، فوضت الحكومة الفرنسية فرديناند ديليسبس لإدارة مشروع حفر قناة بنما، وكانت الحكومة الفرنسية وقتها تعتقد أن بامكانه أن يكرر النجاح الذي حققه قبل 12 عامًا عندما افتتح قناة السويس في مصر.
لكن الظروف ببنما كانت مختلفة عن الظروف بمصر. فأولًا هناك اختلاف في المناخ إذ انه بينما يكون طقس مصر حارا صيفًا ومعتدلا وممطرا شتاءً فإن طقس بنما يكون حارا ممطرا في كل شهور السنة باستثناء شهرين فقط؛ وهي المدة التي كان يزور فيها ديليسبس المشروع، بينما يقيم بقية العام في منزله بالعاصمة الفرنسية باريس.
أما العامل الثاني الذي يفرق بين مشروعي مصر وبنما فهو الطبيعة الجغرافية. فقناة السويس حُفرت في أرض صحراوية مسطحة في مستوى سطح البحر نفسه، أما الأرض البنمية فهي عالية جدًا عن سطح البحر؛ تقريبًا ترتفع عن سطح البحر بحوالي 85 قدمًا؛ لذلك كان حفر قناة بنما يتطلب وقتًا أطول بكثير من الوقت الذي تطلّبه حفر قناة السويس؛ وذلك على الرغم من أن طول قناة بنما يساوي فقط 40% من طول قناة السويس.
بعد ثلاث أو أربع سنوات، خاطب أحد كبار المهندسين في المشروع، ديليسبس، واقترح عليه تغيير طريقة العمل في القناة: فبدلًا من محاولة هدم الجبال البنمية ومساواتها بسطح البحر؛ الأفضل أن تزيد من مستوى سطح البحر حتى يصل إلى مستوى الجبال.
ورغم غرابة الفكرة فقد كانت في منتهى العبقرية، وجرى تنفيذها لاحقًا بشكلٍ خلَّاق جدًا. لكن ديليسبس لم يقتنع بها آنذاك وأمر بمباشرة حفر وهدم الجبال طبقًا لخطته الأصلية؛ حتى أمرت الحكومة الفرنسية بوقف المشروع عام 1889، بعد أن أعلنت شركة ديلسبس إفلاسها بسبب فشل المشروع.
بعد ثماني سنوات من العمل – الذي لم يكن ديليسبس يتابعه سوى مرتين في العام – مات خلالها حوالي 20 ألف عامل في حفر القناة بسبب الحوادث والإرهاق الشديد والأمراض التي كانت تنقلها الحشرات في الغابات البنمية؛ فضلًا عن هجوم الزواحف السامة والحيوانات البرية على هؤلاء الأبرياء، وجدت الحكومة الفرنسية أن ديليسبس أضاع ميزانية المشروع التي كلفت الحكومة الفرنسية مع مجموعة من المستثمرين حوالي 260 مليون دولار.
تمت محاكمة ديليسبس بعد ايقاف المشروع – ومعه ابنه وشريكه– بتهمة إهدار المال العمومي؛ وقررت المحكمة حبسه هو وابنه خمس سنوات لكن الحكم عليه ألغي في وقتٍ لاحقٍ فيما خُفف الحكم عن ابنه بالسجن لمدة عام.
سيطرة أمريكية بعرَّاب فرنسي
في بداية القرن العشرين كانت الولايات المتحدة بقيادة الرئيس تيدي روزفلت، تنفذ خطة تنمية نفوذها في القارة اللاتينية، وبرزت الحاجة لوجود رابط بين المحيط الأطلنطي والمحيط الهادئ، لإعطاء مساحة كافية للبحرية الأمريكية كي تؤثر عسكريًّا على أكبر عدد ممكن من الدول في الأمريكتين.
وكانت الأنظار الأمريكية في البداية غير موجهة نحو بنما بل إلى دولة لاتينية أخرى، هي نيكاراغوا، لانها كانت رغم أنها لا توفر اقصر طريق ممكنة تتميّز بطبيعة جيولوجية غير معقّدة لوجود عوامل مساعدة مثل بحيرة تشغل مساحة كبيرة توفر مساحة ووقت أثناء الحفر.
وصلت هذه الأخبار إلى فرنسا، وتحديدًا إلى مهندس ومستثمر سابق في مشروع قناة بنما الذي أفشله ديليسبس، وكان يدعى فيليبي فاريلا؛ الذي كان لا يزال مهووسًا بمشروع قناة بنما؛ وحينها قرر أن يحاول إقناع الحكومة الأمريكية بالعدول عن اختيار نيكاراغوا وتوجيه دفتها ناحية بنما.
ذهب فاريلا إلى عددٍ كبيرٍ من أعضاء الكونغرس الأمريكي، وتحدث معهم عن مميزات قناة بنما، وعن مساوئ نيكاراغوا، وادعى وجود براكين ناشطة سوف تنفجر بشكل مستمر وتدمر القناة الأمريكية.ومن سخريات وطرائف قصة بناء قناة بنما أن فيليبيفاريلا أقنع أعضاء الكونغرس بخطر البراكين بواسطة بعض الطوابع البريدية التي صنعها بنفسه،والتي كانت تحمل اسم نيكاراغوا ورسم عليها صورا لبراكين نشطة.وقد نجحت هذه الخدعة وأقنعت أعضاء الكونغرس بأمر غير موجود على أرض الواقع!
رغم موافقة الحكومة الأمريكية على انجاز المشروع فقد كانت هناك عقبة امام شروع الولايات المتحدة الفوري في انجاز المشروع وهي أن بنما في ذلك الوقت لم تكن دولة مستقلة وإنما جزءًا من دولة كولمبيا، وبسبب العلاقات المتردية آنذاك بين الولايات المتحدة وكولمبيا؛ رفضت الأخيرة اقتراح فيلبي بمنح إدارة مشروع بنما للولايات المتحدة.
الحل في الثورة
بعد رفض الحكومة الكولمبية يئست أمريكا من إنجاز القناة ؛ إلا أن فيليبي فاريلا لم يكن قد أظهر كل ما في جعبته بعد. فاقترح على الحكومة الأمريكية فكرة فصل بنما عن كولمبيا؛ وفي الواقع لم تكن هناك حركة شعبية ضخمة تطالب بالاستقلال البنمي عن كولمبيا في ذلك الوقت؛ لكن فاريلا قرر أن يشعلها.
قام فيليبيفاريلا بجولة في بنما واجتمع بالعديد من الأطراف والكيانات السياسية النشطة في البلاد لكي يقنعهم بتنظيم حركة للمطالبة بالاستقلال وإقامة دولة بنمية ذات سيادة، وأقنعهم فاريلابأنهم إذا نصبوه ممثلًا لهم؛ سوف يمكنهم من الحصول على الاعتراف الدولي والأمريكي لحركة الاستقلال.
بعد أن وافقت الأحزاب السياسية على اقتراح فاريلا بتمثيلها، عاد الرجل إلى الحكومة الأمريكية؛ طالبًا منها تحريك أسطول بحري بالقرب من السواحل البنمية؛ لمنع أي محاولة للجيش الكولمبي للوصول إلى بنما كي يقضي على الحركة السياسية أو المظاهرات التي تطالب بالاستقلال حال اشتعالها.
وبالفعل استجابت الحركات السياسية البنمية لطلب فاريلا بإشعال المظاهرات والإضرابات في بنما، فيما تحركت البحرية الأمريكية على السواحل البنمية. في البداية رفضت حكومة كولومبيا الأمر، وحاولت بالفعل التدخل عسكريًّا، لكنها تراجعت خشية الاشتباك مع البحرية الأمريكية التي كانت تفوقها في القدرة العسكرية وقتها.
بعد إعلان الاستقلال، وقعت الحكومة الأمريكية اتفاقية متابعة العمل في قناة بنما مع الفرنسي فيليبيفاريلا عام 1903، ولم يوقع أي شخص بنمي على الوثيقة، ولم يحضر أي مواطن بنمي مرحلة التفاوض على المشروع. وأدار المشروع فاريلا حتى إنهائه في عام 1914، وكان المشروع تحت إدارة الولايات المتحدة الأمريكية ومستثمريها الذين احتلوا بنما طيلة أكثر من 50 عامًا.
لكن عندما وصل الزعيم البنمي الشهير عمر توريخوس إلى الحكم؛ بدأت الأمور تتغير تدريجيًّا في علاقة الولايات المتحدة مع بنما بالقناة التي تجري على الأراضي البنمية وتُدِر الدخل لمصلحة الحكومة الأمريكية فقط. وبعد فترة طويلة من المفاوضات؛ نجح توريس في عقد اتفاقية مع الولايات المتحدة في أوت عام 1977، تنص علىنقل إدارة القناة تدريجيًّا من الولايات المتحدة إلى الحكومة البنمية حتى تتحول بنسبة 100% تحت الإدارة البنمية عام 2000، لكن ذلك حدث بعد أن حصدت الحكومة الأمريكية على امتداد نحو نصف قرن، مليارات الدولارات من القناة البنمية، وعانت بنما لقرنٍ كاملٍ من التدخلات الأمريكية في أراضيها.