الشارع المغاربي: عادت ازمة الخطوط الجوية التونسية مجددا الى واجهة الاحداث في علاقة بالحركات الاحتجاجية والإضرابات المعلن عنها من قبل موظفي الشركة على خلفية التجميد القضائي لحسابات الناقلة الوطنية لأسباب تتعلق بديون متخلدة بذمتها لفائدة شركة تركية مستثمرة بتونس في مجال ادارة المطارات والخدمات الجوية. وبقطع النظر عن الاتفاق الذي سمح بتعليق الاضراب، فانه سلط الأضواء مرة أخرى على مدى خطورة وهشاشة الأوضاع المالية والإدارية للشركة التي افقدتها القدرة على ضمان صيانة اسطولها واستمرارية نشاطها فضلا عن تغطية نفقات تسييرها.
وللتذكير لم تعد الخطوط التونسية قادرة على استغلال سوى أربع طائرات من اسطولها بسبب عجزها عن توفير الاعتمادات اللازمة لاستيراد قطع الغيار، كما أضحت تلجأ الى تأجير طواقمها المعطلة الى شركات الطيران الأخرى. هذا فضلا عن هبوط أسهمها وتنافسيتها بسبب تدني توعية خدماتها الى درجات غير المسبوقة.
هذا الوضع هو حصيلة تراكمات وخيارات خاطئة مرتبطة بإكراهات سياسية داخلية وخارجية فضلا عن عوامل ذاتية تتصل بسوء إدارة الرصيد المادي والمالي والبشري للناقلة التي تفاقم عجزها بعد الثورة نتيجة اثقال كاهلها بانتدابات عشوائية في ظرف تقلص فيه نشاطها بفعل ازمة عالمية متفاقمة يشهدها النقل الجوي الدولي والقطاعات الحيوية ذات الصلة ومنها التجارة والسياحة وغيرها. وقد تفاقمت هذه المعضلة في ظل جائحة كوفيد 19 نتيجة تدابير الاغلاق غير المسبوقة المرافقة لها وهي مرشحة للاستمرار وربما للاتساع الى امد غير منظور. ما يشد الانتباه في هذه القضية هو موقف الحكومة التي تبدو غير مكترثة بمصير هذه المؤسسة العمومية بسماحها لشركة اجنبية تعمل في إطار الامتيازات والحوافز الواردة بقانون الاستثمار ومنظومة «الشراكة» بين القطاعين العام والخاص، بتجميد ارصدة هذا الرمز من رموز تونس المستقلة الذي تختلط مسيرته في اذهان جيل الاستقلال بمسيرة بناء كيان الدولة الوطنية التونسية.
واللافت ان وزارة النقل تتجاهل ان الدائن التركي هو في ذات الوقت مطالب بتسديد ديون كبيرة متخلدة بذمته لصالح الخطوط التونسية تتجاوز اضعاف المبلغ المستحق لفائدته.
ويؤكد هذا الموقف تخلي الحكومة الحالية كسابقاتها عن المعاملة التفضيلية التي كانت تحظى بها المؤسسات العمومية ومنها الخطوط الجوية التونسية رغم ادراكها بمزيد تدهور الأوضاع الهشة التي كانت تعاني منها أصلا في ظل النظام السابق جراء تجريدها التدريجي من الحماية والدعم والأفضلية في اسناد الصفقات العمومية مما جعلها في منافسة غير متكافئة مع الشركات الاجنبية.
ولعل من أخطر ما تم اقراره في المجال المالي خلال السنوات الأخيرة هو ربط المؤسسات العمومية بالمنظومة المالية الدولية وتحديدا الأوروبية من خلال ارغامها على الاقتراض بالعملة الصعبة مع تحمل مخاطر الصرف في ظرفية دقيقة يمر بها الدينار التونسي المتراجع باستمرار إزاء العملات الرئيسية مما أدى الى انفجار مديونيتها الخارجية التي تناهز 20 مليار دينار وهي تضاف الى ديون عمومية تناهز المائة مليار دينار. وقد يؤدي ذلك الى سيطرة راس المال الأجنبي عليها في حالة العجز عن التسديد، ولا يستبعد ان تكون هذه السياسة مقصودة انسجاما مع الالتزامات التي اتخذتها حكومات ما بعد الثورة إزاء صندوق النقد الدولي ومنها تعهدها بخوصصة المنشآت والمرافق العمومية.
ولا بد من التذكير في هذا الصدد بان منظومة العولمة الخاضعة الى مجموعة السبع، ممثلة في صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي تسعى الى تكريس هيمنتها على تجارة السلع والخدمات السياحية الدولية من خلال تمكين شركاتها الضخمة المتعددة الأطراف باحتكار الأنشطة الرئيسية المربحة المتصلة بالتجارة الخارجية وتجارة الخدمات ومنها قطاع النقل بأشكاله المختلفة الجوية والبحرية والبرية باعتبار أهمية التحكم فيها لضمان ديمومة السيطرة على الأسواق وتوسيع دائرتها.
وتمتد هذه السياسة الى كافة الأنشطة الحيوية المتصلة بتلبية الحاجيات الأساسية للشعوب من الغذاء والحبوب والدواء والطاقة ووسائل النقل والتعليم وغيرها لا سيما وان الطاقات الإنتاجية للكتلة الغربية من هذه السلع تتجاوز حاجياتها الداخلية ولا يمكنها الاستمرار والتوسع بدون الهيمنة على الأسواق والقطاعات الانتاجية الخارجية.
ومن اهم الأساليب المتبعة لتحقيق خضوع الدول الى هذه السياسات، السعي الى السيطرة على منظومتها المالية واغراقها في تبعية مالية خانقة من خلال سلاح المديونية والتجارة المختلة مع السيطرة، بفضل قوانين الاستثمار المجحفة، على قطاعاتها الإنتاجية والخدمية الحيوية من صناعة وفلاحة وطاقة ومياه وغيرها.
وهذا هو الإطار الذي تتنزل فيه السياسات المتبعة إزاء تونس بعد الثورة من قبل مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية وهي تهدف بالأساس الى تكريس تبعيتها الأبدية للكتلة الغربية ودفعها للتفريط في قطاعاتها الاستراتيجية ومرافقها الأساسية ومنها قطاعات انتاج وتوزيع الماء والكهرباء والطاقات المتجددة والإنتاج الفلاحي الموجه للسوق الداخلية وغير ذلك من المجالات الحيوية.
وهكذا يتضح ان ازمة الخطوط الجوية التونسية وغيرها من المؤسسات العمومية ليست ظرفية ولا يمكن حلها ببعض الإجراءات الترقيعية بل بمعالجة أسبابها العميقة التي تعود الى انخراط تونس منتصف التسعينات في عولمة قطاعاتها الانتاجية والتجارية والخدمية وفتح المجال لخوصصة نشاطها وملكيتها جزئيا او كليا من خلال السماح للقطاع الخاص المحلي والأجنبي بدخول مجال النشاط الجوي وغيره من القطاعات الاستراتيجية التي كانت محتكرة من قبل الدولة. وقد كرست حكومات ما بعد الثورة هذا الخيار الكارثي وتوسعت فيه بقبول الانخراط في اتفاقية السماوات المفتوحة مع الإشارة الى ان هذا التوجه يندرج في إطار الادماج الناعم لاتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق في التشريعات التونسية وهو ما حصل بالفعل عبر تبني عدة قوانين مثيرة للجدل من بينها القوانين المنظمة للبنوك وللبنك المركزي وقانون الاستثمار وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وصولا الى القوانين المكبلة للفلاحة والصناعة التونسية بالمواصفات الأوروبية. هذه هي في تقديري، الأسباب العميقة لازمات تونس المتفاقمة والمتعددة التي لا يمكن معالجتها جذريا الا بمراجعة الخيارات والسياسات والاقتصادية والمالية وكذلك الاتفاقيات التجارية غير العادلة التي تبناها النظام السابق وتم تكريسها والتوسع فيها بعد الثورة.
وهذا ما يقتضي ادراج هذه القضايا الاستراتيجية ضمن أولويات الحوار الوطني المطروح من عدة جهات والذي لا يجوز ان يقتصر على حل الازمة الدستورية والسياسية المتفاقمة التي تعصف بتونس. وعلى صعيد متصل لا بد ان يتناول الحوار إعادة النظر أيضا في عديد اتفاقيات التبادل الحر غير المتكافئة الثنائية والمتعددة الأطراف المبرمة بين تونس وبعض الدول الأوروبية و غير الأوروبية ومن ضمنها تركيا التي تثبت الأرقام انها من أكبر المستفيدين، الى جانب فرنسا وبلدان مجموعة السبع، من المبادلات التجارية والمالية والخدمية المختلة مع تونس.
واعتبارا لأهمية هذه القضايا واتصالها المباشر باختصاصات رئيس الجمهورية في مجال السياسة الخارجية والامن القومي، ان تبادر تونس بفتح حوار استراتيجي ثنائي ومتعدد الأطراف مع شركائنا الاستراتيجيين الأعضاء بمجموعة السبع والاتحاد الأوروبي اخذا بعين الاعتبار سيطرتهم الفعلية على صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية المتعاملة مع تونس.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى تصريحات وزير الشؤون الخارجية ووزير المالية وسفير الاتحاد الأوروبي بتونس بمناسبة الانطلاق الرسمي المعلن عنه مؤخرا للمشاورات بين تونس والاتحاد الأوروبي بخصوص «الأولويات الاستراتيجية للشراكة والبرمجة المالية للفترة 2020 – 2027».
وقد كشف السفير الأوروبي عن مبادرة أوروبية جديدة تم اعتمادها مؤخرا كإطار تنظيمي للعلاقات بين ضفتي المتوسط وهي بعنوان «وثيقة الشراكة المتجددة بين الاتحاد الأوروبي ودول الجوار الجنوبي». ويبدو ان الجانب الأوروبي الغربي اضحى مقتنعا بضرورة تجاوز المقاربات السابقة المقتصرة على مزيد التوسع في التبادل التجاري الحر المختل من خلال الآليكا وهو ما يتيح لتونس الفرصة لطرح تصوراتها ورؤاها لمستقبل العلاقات التونسية الأوروبية استنادا الى حصيلة هذا التعاون وانعكاساته السلبية على اوضاعنا السياسية وعلى التوازنات المالية والتجارية المختلة لتونس.
أحمد بن مصطفى – خبير في الشوون الدولية وسفير سابق
نُشر بعدد أسبوعية الشارع المغاربي الصادر بتاريخ 23 فيفري 2021