الشارع المغاربي: بعد أن تمّ افتتاح مدينة الثقافة، وشرعت بعض مكوّناتها في الاشتغال عبر تأثيث الفضاءات بمعارض تستحق فعلا الزيارة والمتابعة أوعبر إقامة أيام قرطاج الشعرية التي كانت الإطلالة الأولى ل“قرطاج” قبل أن تحلّ الأيام المخصّصة للسينما والمسرح والموسيقى والفن التشكيلي، وجب الشروع في التفكير في أيام من نوع خاص، يحتفى خلالها بالعلم والمعرفة والفلسفة في مدينة الثقافة حتى تكون جامعة للفنون والآداب فعليا ومركزا مشعّا ومنتجا للأفكار.
أيام قرطاج الفلسفية…لم لا؟ سؤال يطرح على أهل القلم والفكر والإبداع كي يدفعوا بنقاش المقترح إلى أقصاه، أي التجسّد والتحقّق الفعلي. وهو السؤال ذاته الذي نرمي به على طاولة أصحاب القرار، ولا نرى موانع أو معطلات تحول دون أن يترجم “المقترح الحلم” إلى منجز واقع على الأرض، ويصبح لقرطاج أيامها الفلسفية. إنّ الاحتفاء بالفلسفة في مدينة الثقافة وتخصيص أياما لها على شاكلة أيام قرطاج المعروفة في السينما والمسرح والشعر هو رسالة مضمونة الوصول للعالم بأسره أنّ تونس هي الأخرى نابتة من نوابت التنوير والحداثة والعقلانية وأنّها تربة نابذة ومقاومة للتطرّف ولكلّ أشكال الخطابات المنتجة للعنف والإرهاب والمروّجة للكراهية والحقد المقدّس.
فلاسفة قرطاج وحكماؤها
قرت ـ حدشت أو قرطاج أمّة البحر المسيطرة في العصر القديم على غرب المتوسّط لقرون عدة، سليلة الحضارة الفينيقية العظيمة التي أهدت للإنسانية “الأبجدية” عبر اختراع الحروف الهجائية (22 حرفا) بديلا عن الكتابة المسمارية، ليأخذها الإغريق ثم الرومان من بعدهم. لقد كان لتجّار قرطاج ورحّالتها ( هملكون، ماغون، حانون وروتان) الفضل في نشر الأبجدية الفينيقية التي كانت وعاءا حاملا للوعي والثقافة والحضارة في مدن العالم القديم. شكّلت قرطاج ـ الامبراطورية الوسيط ـ بين حضارات الشرق القديم ( البابلية والأشورية والأكادية والأرامية والفينيقية..) وغرب المتوسّط، لتتحوّل في عصرها الذهبي إلى مركز للعالم ناشر لخلاصة ما أبدعه الشرق القديم في بلاد الرافدين خاصّة في الفكر والعلم والاقتصاد والسياسة، كالزراعة والكتابة والديانة والحكمة والطب والقانون والفلك والحساب. قرطاج هذه الساكنة في مخيالنا، تستحقّ أن نستعيدها اليوم بطرق مستحدثة، ربّما كما استعاد الغرب في ما بين نهايات العصر الوسيط و بدايات نهضته الإرث اليوناني واعتبر أنّ عصره ـ الوسيط ـ قد حجب عنه كنوز الإغريق في الفلسفة والشعر والملحمة.
لقد كان لقرطاج فلاسفتها ككليتوماكس القرطاجنّي الذي كان يحمل اسم عزربعل بلغة بلاده، وتحت هذا الإسم تفلسف في وطنه، قدم إلى أثينا في سنّ الأربعين ودرس عند قرنياد. كتب عزربعل أكثر من أربع مائة مجلّد وكان له الشرف أن يخلف معلّمه لقيادة الأكاديمية وشرح حكمته، وعرف عنه دراية دقيقة واطلاع على فلسفات المشائين والرواقيين. وقد ذكره ديوجين وبلوتارك
(Les vies des plus illustres philosophes de l antiquite/ Tome premier Amesterdam/M DCC LXI)
Plutarque (Œuvres morales. Traduite du Grec Par Richard Sur la fortune Paris 1844)
هذا إضافة إلى هيريل القرطاجنّي المذكور أيضا في الجزء الثاني من كتاب ديوجين، وكتّاب وحكماء آخرين ضاعت مؤلفاتهم إمّا حرقا أو هي متناثرة بين كتب الرواقي زينون السيشومي وتلامذته، ومؤلفات أبيقور وأتباعه، ونصوص أنتيستينس مؤسس الفلسفة الكلبية في القرن الرابع قبل الميلاد و“مريديه” المتعاقبين جيلا بعد جيل في العصر الهيلينستي.
يمكن لأيام قرطاج الفلسفية إن تحقّق حلم إقامتها أن تنفض الغبار عن حكمائها وفلاسفتها، وتعدّل من الصورة النمطية التي رسخت في الأذهان كقوّة بحرية فحسب، دمّرها الرومان بعد حروب بونيقية ثلاث ورشوا الملح على أراضيها لكي لا ينمو فيها نبات ولا يسكنها أحد كما تروي الحكايات، ودمروها تدميرا، كما وصّف ووثّقت نخب روما المنتصرة. قرطاج هي شيء من ذلك وأزيد، هي النظام الجمهوري أو الملكيّة الانتخابية (مجلس الشيوخ ومجلس الحكماء ومجلس الشعب)، وهي الجمعيات السياسية والدينية وهي الفضول لمعرفة الآخر: ذكر المؤرخ الإغريقي ديودورس عام 100 ق.م أنّ القرطاجيين كانوا يعرفون جزيرة هائلة بعيدة جدا في المحيط الأطلسي، توجد فيها جبال كثيرة وأنهار عريضة، كانت مصدر ثرواتهم لذلك كانوا يخفون سرّها، وعثروا عليها صدفة عندما خرجت أحد سفنهم التي كانت تبحر أسفل الأطلسي الإفريقي عن مسارها بسبب عاصفة. ربّما يكون ما كتبه ديودورس أقرب منه إلى الأسطورة والخيال، ولكنّ يجب البحث علميا في هذه المسألة بعيدا عن التعصّب لقرطاج خاصّة لمّا نرصد خارطة اكتشفت على قطعة نقود ذهبية فينيقية اكتشفت في قرطاج تعود لأعوام 320 ـ 350 قبل الميلاد حيث توجد خارطة أسفل القطعة الذهبية حيث يظهر العالم القديم والبحر المتوسط وأوروبا وآسيا وجزيرتين كبيرتين أكّد العالم الأمريكي مارك مامينامن أنّهما الأمريكيتين.
النوابت في قرطاج من جديد
سوف لن نغوص في التاريخ أكثر، ولكن حاولنا أن ندافع عن إمكان منظورية مبتكرة لقرطاج بعيدا عن “الأسطرة” تجلي بعضا من حكمتها وفلسفتها أو على الأقل تدفع بالتدبّر في شروط إمكان ذلك، حتى لانغرق ولا ننزلق في مصيدة “تأبين الماضي دون قدرة حقيقية على الحداد” كما نبّهنا الفيلسوف فتحي المسكيني موصّفا حال المثقّفين العرب.
نحن نرنو الاحتفاء بفلاسفتنا أوّلا على أرضهم في أيام تنشر للعالم منجزهم، وهم كثر نذكر بعضهم عدّا لا حصرا: محمد محجوب المختصّ في أفلاطون وفق منظور هيدجري والباحث في المتن الفارابي والمترجم لروسو وهيوم ومرلو بونتي، حمادي بن جاب الله صاحب الأطروحة الهامة حول ديكارت وغاليلي ونيوتن والمترجم لهنري بوانكاري والعارف المختص في فلسفة كانط، فتحي التريكي ومقاربته الفلسفية لظاهرة الحرب وكتاباته المعروفة حول فوكو ودريدا، عمر الشارني الذي اهتم بالفلسفة الحديثة وكتب حول بوفون وترجم ديكارت، أبو يعرب المرزوقي المدرّس لفلسفة أرسطو وصاحب المؤلّفات حول ابن تيمية وابن خلدون والمترجم لكواين وبيار دوهايم، محمد بن ساسي الناقل لكتب كانغيلام إلى اللّغة العربية، فتحي المسكيني الذي أنجز عملا ضخما بترجمته الوجود والزمان لهيدجر وإسهاماته المنتشرة والمعروفة لدى النخب العربية في التأليف الفلسفي وجداله العميق مع ابن باجة وابن رشد وابن خلدون، ناجي العونلي الذي قدّم للعرب “فينومينولوجيا الروح” لهيجل في لسان عربي، الطاهر بن قيزة كأحد أهم المختصين في العالم في فلسفة لايبنز، عبد الرزاق بنور الناقل هو الآخر فلسفة فتغتشتاين وقضاياها إلى اللّغة العربية… وصالح مصباح وجلال الدين سعيّد وأم الزين بن شيخة ويوسف الصديق ومنيرة بن مصطفى وسليم دولة وزهير الخويلدي وخميس بوعلي ومقداد منسية وعلي الشنوفي.. وغيرهم كثّر من الدكاترة والباحثين في الفلسفة في مختلف فروعها وأقسامها….
سوف لن تكون هذه “الأيام” احتفاءا بفلاسفتنا فحسب، بل يمكن أن نحوّلها إلى مؤتمر عالمي للفلسفة يشرف عليه بيت الحكمة ويقام سنويا في مدينة الثقافة يتّخذ له بعدا كونيا عبر التطرّق إلى قضايا ومشاغل فلسفية راهنية يشارك فيه مفكّرون وفلاسفة كبار من قارات العالم أجمع، وقاعدة نظر فلسفي عميق في إشكالات يعيشها الجنس البشري في مناخ كوكبي تجتاحه العدمية والكراهية والعنف والإقصاء والتدمير المتصاعد للبيئة بالتزامن مع بروز معضلات مستجدة كمستقبل الذكاء الاصطناعي وقضايا الجينوم وأسئلة البيوإيتيقا المحرجة.
نعتقد بمقترحنا هذا، أنّنا أمام فرصة تحويل فعلي لتونس إلى “عاصمة للعقل” الفلسفي العالمي، كما هو حادث في عواصم ومدن دول أخرى تأخّرنا كثيرا في اللّحاق بركبها الحضاري حتى نشارك فعليا في نقاشات كونية حول مستقبل الجنس البشري، وحتى نخرج من مأزق “لَوْك“ ومضغ قضايا هووية عتيقة سجنتنا منذ عقود في مربّعات التيه والضياع الحضاري.