الشارع المغاربي: ”تفرز التجارب الإنسانية السابقة حقيقة مفادها ان الانسان الذي جمع كل السلطات يميل الى إساءة استعمالها وسيواصل في هذه الإساءة حتى يلاقي حدودا” (Montesquieu)
يعتبر مونتسكيو أحد اهم مؤسسي الثورة الفكرية التي ستكون المنارة والرافعة الأساسية للثورة الفرنسية سنة 1789. كما الهمت دراساته الفلسفية والسياسية دستور الولايات المتحدة الامريكية، إضافة الى انه استطاع ان يتحدى فكريا وسياسيا المنحى الاستبدادي الذي كان يجسده لويس الرابع عشر، ويبيّن مخاطره وارتداداته ويؤسس لتوجه سياسي مستنير عبر دراسات معمّقة قال عنها ريمون ارون، انها “دعوة الى الحرية والتسامح والتعددية والديمقراطية العصرية”.
ويعتبر كتابه “روح القوانين” الذي صدر سنة 1748 من اهم إصدارات عصر النهضة ، ان لم يكن اهمّها ، حيث شرح فيه مونتسكيو أنواع الحكم ليبيّن أفضلها وانسبها للمجتمعات ولحرية الانسان وديمومة السلم والتعايش بين البشر . كما انتقد بشدة النظام الدكتاتوري الذي اعتبره أسوأ أنظمة الحكم لأنه “حكم الفرد الذي لا قيود له”، فهو يحكم وفقا “لمزاجه وأهوائه وتصوراته” يستند في ذلك الى “شرعية” واحدة تمكّنه من استمرار حكمه ، وهي بث الخوف والرعب في قلوب الناس من اجل اخضاعهم والسيطرة عليهم ، ونظام الحكم الذي يسيطر فيه شخص على كل مجالات الحياة السياسية ، يغيب فيه القانون ، لان “القوانين تستوجب بالضرورة قنوات وسيطة، وان لم تكن هناك في الدولة غير الإرادة الانية والمزاجية لشخص واحد ، فلا يمكن لشيء ان يكون ثابتا.” وقد بنى تصوّره لنظام حكم ديمقراطي على التجارب التاريخية السابقة التي استخلص منها ان “كل شيء يضيع ان مارس الشخص نفسه السلطات الثلاث الاتية: سلطة سن القوانين وصلاحية تنفيذ القرارات وصلاحية الحكم في الجرائم والخلافات بين الافراد ” وهو يعني بذلك السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
فهو يرى ان الفصل بين السلطات الثلاث، بحيث لا تكون غلبة لسلطة على أخرى،هو الوسيلة الأفضل لحكم جمهوري وأنه الضامن لحرية الاشخاص، اذ “لا يمكن الحد من سلطة ما الا بسلطة مضادة”، تحرص على مراقبتها وترسم حدودها القانونية وتكبح الإرادة الفطرية–للحاكم-لتوسعها. لكن مونتسكيو يرى ان الفصل بين السلطات الثلاث في مجتمع ديمقراطي لا يعني التنافس بينها او انفصالها عن بعضها، وانما انها تتكامل في إطار صلاحيات كل منها.
ولعل إضافة مونتسكيو المهمة لعصر الانوار وللدساتير الحديثة هو إلزام السلطة الحاكمة بمهمة جديدة، اذ لم يعد دورها مقتصرا على التحكم في الافراد وتوجيههم والسيطرة على اراداتهم، مثلما هو الشأن في العصر الوسيط، بل هي ملزمة بضمان حريتهم وحمايتها، حرية لا تحد منها غير القوانين العامة والدساتير، التي يجب ان يتجاوز مفعولها النظام السياسي القائم.
بين مونتسكيو وقيس سعيد
عديدة هي المرات التي تحدث فيها قيس سعيد عن مونتسكيو،داعيا معارضيه الذين سماهم “أصحاب الفتاوى” الى مراجعة كتابات الفيلسوف الفرنسي وفهمها أو في مناسبات أخرى الدعوة – بنفس السخرية- الى فهم معنى “توزيع السلط” وكأن الرئيس يلمّح الى مسألة أشاراليها صاحب كتاب “روح القوانين”، وهي ضرورة تكامل السلطات وتوزيعها بشكل متوازن، مما يعني الانسجام في ظل القوانين، دون سيطرة او احتواء.
وطبعا السيد قيس سعيد يتحدث من منطلق قراءته للقانون الدستوري وتاريخه ومنظريه، ولكنه أيضا، كرئيس جمع بيده كل السلطات ويريد ان يبرر توجهه المنفرد عبر مرجعيات تاريخية وازنة، بحكم المكانة التي يتمتع بها مونتسكيو ، احد المؤسسين للديمقراطية الليبرالية الحديثة. ولكن هذا لا يمنعنا، نحن عامة الشعب و”اشباه المثقفين”، من العودة لمونتسكيو وقراءة متُنه بأكثر تمعنا، لنقف على عديد الحقائق التي يمكن ان نختزل اهمها في النقاط التالية:
أولا، ان اسهام مونتسكيو الأكثر أهمية هو التأكيد على مبدأ توزيع السلطات بين مختلف الأطراف حتى لا تسيطر سلطة على أخرى فيسود الظلم والقهر والاستبداد. فلا حرية دون تجزئة السلطات بحيث تراقب كل سلطة السلطة الأخرى لأنه “عندما تجتمع السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في يد شخص واحد تنتفي الحرية وتكون القوانين ظالمة… كذلك لا يصبح للحرية وجودان لم تنفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية والتشريعية،”
ثانيا، يرى مونتسكيو ان الاجسام الوسيطة، أي تلك الهياكل التي توجد بين المواطنين والدولة، هي جزء مهم من السلطة وهي التي تساهم في “اعتدال” الدولة وشرعنة الحكم، فكرة سيطوّرها ألكسيس دو تكوفيل Alexis de Tocqueville خلال القرن التاسع عشر في كتابه “النظام القديم والثورة ” اين ينتقد مركزية الحكم لدى اليعقوبيين الذين يرفضون ، “باسم السيادة”، كل الوسائط بين السلطة المركزية والشعب، ويعتبر أن لا توجد ديمقراطية دون هياكل أخرى ، “تؤشر على حرية الأشخاص في التنظم ” خارج اطر الدولة وتسد ، أيضا، الفجوة بين السلطة المركزية والمواطن.”
ثالثا، بالنسبة لمونتسكيو فإن السلطة القضائية يجب أن تكون منفصلة عن بقية السلطات حتى لا يقع التعسّف على حرية المواطنين، وحتى لا يتحول القاضي “الخاضع الى السلطة” الى طاغية، ومع ان القضاء بالنسبة اليه، ليس سلطة بنفس مرتبة السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإن القاضي لا يخضع للبرلمان ولا للحكومة، فهو “مفسّر”القانون ومنفذه، بكل استقلالية وحياد.
بعد هذه القراءة السريعة، ونظرا لما وصل اليه نظام الحكم في تونس وبعد قضم جلّ الهياكل الوسطى وتهميشها وكذلك ما يعاني منه القضاء من أزمة خانقة، لم يعرفها في تاريخه المعاصر، يمكننا أن نسأل السيد قيس سعيد: “أين نحن من فكر مونتسكيو؟”
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 30 ماي 2023