الشارع المغاربي-محمد الجلالي: في تأكيد لما كانت أسبوعية “الشارع المغاربي” قد كشفت عنه قبل قرابة سنتين في تحقيق بعنوان “في الشركة الوطنية للنقل بين المدن: مئات الانتدابات بالرشاوى والمحسوبية وإدارة تكرّس الإفلات من المحاسبة” حصلت الصحيفة على وثائق رسمية ومعطيات تشير الى أن المنشأة العمومية عرفت بين 2014 و2021 جرائم إدارية ومالية على مستوى التصرف في الموارد البشرية كبدتها خسائر متفاوتة أثرت بدورها على مردوديتها ونجاعتها.
التجاوزات تراوحت بين اثقال كاهل المؤسسة بعشرات الانتدابات خارج إطار المناظرات الوطنية وأخرى بالاعتماد على تناظر صوري مع اخلالات صاحبت اسناد خطط وظيفية وتغاضي الإدارة عن تمتّع مئات الاعوان بساعات إضافية وهمية دون وجه حق.
على غير الصيغ القانونية
بلغ عدد أعوان الشركة الوطنية للنقل بين المدن (SNTRI) في أكتوبر 2021، تاريخ خضوع المؤسسة الى تدقيق معمق في مختلف أوجه التصرف المالي والإداري، 651 عونا.
وتشير معطيات مؤكدة حصلت عليها أسبوعية “الشارع المغاربي” إلى أنه تم بين 2014 و2021 “تفخيخ” المؤسسة العمومية بتشغيل 140 عونا موسميين ومتعاقدين وهي طريقة مقنّعة لفرض انتدابات مباشرة عوض اللجوء الى مناظرات وطنية قائمة على الكفاءة والشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص.
وكنتيجة لذلك تم انتداب 140 عونا بطريقة مباشرة و8 أعوان فقط عن طريق المناظرة وفق ما جاء في تقرير رسمي يعود الى سنة 2023 مع العلم ان الامر المتعلق بضبط شروط الانتداب المباشر بالمؤسسات العمومية نص على ان يكون هذا النوع من الانتداب استثنائيا مع اللجوء اليه عندما تستدعي الضرورة القصوى ذلك للعمل وفي 3 حالات هي:
- تنفيذ أشغال متأكدة أو إصلاحات طارئة أوجبتها ظروف استثنائية
- ارتفاع غير منتظر في النشاط
- اجراء أعمال موسمية
كما نص القانون على الا تتجاوز مدة التعاقد في كل الحالات سنة على أقصى تقدير.
ورغم تراجع نشاط المؤسسة في السنوات الأخيرة فقد كان النصيب الأكبر في الانتدابات غير القانونية لأعوان موسميين (81 عونا) إضافة الى 4 منتفعين بالعفو التشريعي العام.
الملاحظ ان الإدارة جدّدت عقود الانتداب المباشر لسنوات متتالية دون ان يتم اعلام وزارة النقل بذلك وأنها عمدت في مرحلة لاحقة الى تسوية وضعية 81 عونا بما كبّد المؤسسة خسائر مالية بـ 3،4 مليارات دينار بين 2015 و2016 وفق مصدر مطّلع على الملف.
المصدر أفاد أيضا بأن الإدارة لم تتّخذ في 2015 التدابير اللازمة في حق أعوان موسميين كانوا قد اعتدوا على مدير عام المؤسسة آنذاك وبأنها سوّت وضعياتهم رغم تتبعهم أمنيا.
من جهة أخرى ثبت وفق تقرير تفقّد ان الإدارة تعمدت أيضا تسوية وضعية عون موسمي رغم تفطنها الى تقديمه شهادة مدرسية مدلّسة.
وتفيد معطيات مؤكدة حصلت عليها أسبوعية “الشارع المغاربي” بأن العون اكتفى بتقديم شهادة مدرسية من مدرسة عمومية تؤكد أن مستواه التعليمي لا يتجاوز الخامسة ابتدائي وليس التاسعة أساسي بعد مطالبته بالاستظهار بالشهادة الاصلية.
الانتدابات طالت حتى من تورّط في اختلاس أموال المؤسسة وثبوت التهمة الموجهة إليه. في هذا السياق تؤكد وثيقة رسمية ان إدارة SNTRI اتخذت سنة 2012 قرارا يقضي بعزل عون بعد ثبوت استيلائه على أموال عمومية وأنها ارتكبت خطأ إداريا لفائدة العون المعزول بما مكنه من الحصول على حكم قضائي ببطلان اجراءات العزل واعادته الى سالف عمله.
واعتبر تقرير رقابي عدم لجوء إدارة المؤسسة إلى القضاء وارتكابها اخلالات إدارية عند إحالة العون على مجلس التأديب تهاونا في حماية المؤسسة والحفاظ على المال العمومي.
كما تم في 2016 ترسيم عون ضالع في عديد التجاوزات من بينها اقتراف اعمال عنف في حق حريف ومغادرة مركز عمله وفق نفس التقرير الذي كشف أن ملفه التأديبي يزخر بالإخلالات الجسيمة.
عون أخر تمتع بالترسيم بالشركة سنة 2016 رغم ثبوت تعاطيه نشاطا تجاريا موازيا عبر تسويغ اصل تجاري كائن بمحطة النقل البري في باب سعدون التابعة للمؤسسة بما يعتبر تسترا على جريمة تعاطي عون عمومي نشاطا بمقابل حسب ما ورد في نفس التقرير.
وحتى مناظرة الانتداب الوحيدة التي أجرتها الشركة لم تسلم من التلاعب عبر تغيير مراحل الاختبارات ومنهجيتها بما يمس من شفافية الإجراءات.
واللافت حسب وثائق رسمية اطلعت عليها أسبوعية “الشارع المغاربي” ان مراقب الدولة الذي يفترض ان يكون ممثلها داخل مجلس إدارة الشركة كان في مارس 2017 وراء اقتراح يتعارض مع منهجية المناظرة ومراحلها المضبوطة بمقرّر فتحها وتنظيمها.
خطط شاغرة وأخرى متنافرة
ملف الخطط الوظيفية لم يسلم بدوره من اخلالات مختلفة من بينها تعدد الشغورات في عديد الخطط ولفترات امتدت لسنوات بما ان الهيكل التنظيمي للشركة عرف بين 2014 و2019 شغورات في 12 خطة بإدارات حساسة من بينها إدارة التفقد والتدقيق وادارة التدقيق الداخلي ومصلحة الشراءات ومصلحة الصيانة الوقائية ودائرة الاستغلال وبمكتب الضبط المركزي.
وبتدقيق احدى هيئات الرقابة في عيّنة من الخطط الوظيفية خلصت الى جمع عديد الاطارات بين خطط وظيفية متنافرة كالجمع بين إدارة التزويد وإدارة الصيانة وبين إدارة التنمية التجارية وإدارة المالية إضافة الى اكتشاف عدم عرض التسميات على انظار مجلس إدارة الشركة وعدم اخضاعها لتأشيرة وزير النقل مع تمتع احد المديرين طيلة أكثر من تسعة أشهر بامتيازات مرتبطة بالخطة الوظيفية دون ان يكون قد باشرها.
والساعات الإضافية !
ينص النظام الأساسي لأعوان المنشأة العمومية على الا يتجاوز عدد ساعات العمل الأسبوعية للعون 60 ساعة في كل الحالات باستثناء وجود اعمال متأكدة. ورغم ذلك تمتع خلال سنة 2019 المئات من الأعوان بآلاف الساعات الإضافية كلّفت الشركات أكثر من 520 ألف دينار.
من بين الاعوان المتمتعين بساعات إضافية مضخمة قابض بوكالة الشركة في مدينة القيروان حصل خلال مارس 2016 على 340 ساعة عمل إضافية وهي تفوق ساعات العمل المسموح بها شهريا والتي يفترض الا تتجاوز 250 ساعة في الشهر.
في هذا السياق علمت الصحيفة ان مصلحة التدقيق الداخلي كشفت ان عدد الساعات الفعلية التي كان يقضيها العون في العمل أقل بكثير مما تم التصريح به.
من جهة أخرى تم الوقوف على تمتع أعوان حاصلين على جرايات تعويض عن حوادث شغل بساعات إضافية في مخالفة للقانون المنظم لنظام تعويض الاضرار الحاصلة عن حوادث الشغل والامراض المهنية مع العلم ان بعضهم انتفع بعدد ساعات إضافية يتجاوز الحد الأقصى المسموح به.
كما تم الوقوف على تمكين عديد الاعوان من ساعات عمل إضافية رغم انهم غير مشمولين بها.
جرائم مالية وإدارية مرتكبة في الانتدابات والخطط الوظيفية والساعات الإضافية يفترض ان يقابلها تحرك وزارة النقل وإدارة الشركة الوطنية للنقل بين المدن لاتخاذ إجراءات إدارية وقضائية رادعة. ولمعرفة الخطوات المتخذة على مستوى الوزارة والشركة أرسلت أسبوعية “الشارع المغاربي” يوم 27 سبتمبر الماضي اليهما بريدا الكترونيا في الغرض ولكنها لم تحصل الى حدود كتابة هذا المقال على أية إجابة منهما.
*نشر باسبوعية”الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 17 اكتوبر 2023