الشارع المغاربي – حريق رادس: انتدابات مشبوهة وفساد واستهتار "مدمني مخدرات" بإجراءات السلامة / تحقيق: محمد الجلالي

حريق رادس: انتدابات مشبوهة وفساد واستهتار “مدمني مخدرات” بإجراءات السلامة / تحقيق: محمد الجلالي

قسم الأخبار

25 أبريل، 2024

الشارع المغاربي: بعد مرور أكثر من شهر على الحريق الذي شب في مركز تعبئة وتوزيع قوارير الغاز التابع للشركة التونسية لتوزيع البترول المعروفة اختصارا بـ “عجيل” لا يزال الغموض يحيط بالحادث وبالأسباب الكامنة وراء اشتعال النيران في مركز يفترض ان يكون من أكثر الفضاءات حماية.

أسبوعية “الشارع المغاربي” عادت على تفاصيل الحادث مستعينة بشهادات متضررين من الحريق وموظفين بشركة “عجيل” واستندت الى معطيات تتعلق بوحدة التعبئة التي كانت مسرحا لألسنة لهب هائلة صبيحة يوم 14 مارس المنقضي فكان هذا التحقيق.

عمال بلا أزياء واقية

من مجموع 38 متضررا من الحريق الهائل الذي شب في مركز التعبئة برادس كان هناك 13 عونا متعاقدين مع شركة مناولة عمومية تعرف باسم “الاتصالية”.

احد الضحايا روى لـ “الشارع المغاربي” تفاصيل الحريق مؤكدا انه مع تمام السادسة وعشرين دقيقة صباحا وبينما كان بصدد اعادة قارورة غاز الى مسارها بخط الانتاج تناهى الى سمعه صوت انفجار.

وواصل العون الذي فضّل عدم الكشف عن هويته :”التفتّ الى الخلف ففوجئت بألسنة اللهب تلفح وجهي قبل ان أتحامل على نفسي وأغادر المكان الى خارج المستودع. حينها لمحت العشرات من زملائي وهم يحاولون التخلص من النار التي تشتعل بأجزاء متفرقة من أجسادهم بين من حاول جاهدا نزع ملابسه المحترقة ومن ارتمى بسرعة فائقة في احدى برك الماء ومن ظل يتمرغ على الارض من شدة الألم… ما حصل كان لحظات عصيبة ستظل راسخة بذهني ما حييت”.

هاني هو اسم مستعار لعون آخر كان يعمل بدوره بالحصة الليلية التي تمتد من منتصف الليل الى السابعة صباحا قال انه كان قبل وقوع الحادث منهمكا في تفقد القوارير التي لم تتم تعبئتها كليا لإكمال كمية الغاز المطلوبة.

وأضاف هاني “مع السادسة و15 دقيقة اي قبل انتهاء العمل بربع ساعة لاحظت ان احد العمال دخل الفضاء على متن شاحنة مخصصة لرفع وشحن القوارير مما تسبب في سقوط قارورة غاز وثقبها وفي تسرب كمية هائلة منها في فضاء مغلق. لم اعر المشهد اي اهتمام بحكم تفطن عمال بـ “عجيل” يفوقونني خبرة الى الامر دون ان يحركوا ساكنا.. وفي ظرف وجيز اشتعلت النيران بالشاحنة. حينها حاولت مغادرة المكان لكن الانفجار كان اسبق مني مسببا لي حروقا خطيرة في انحاء متفرقة من جسمي.. لقد اتت النار على رجلي ويدي ووجهي مما ادى الى فقداني الحركة واستعمال كرسيا متحركا طيلة أكثر من اسبوعين.

وواصل العامل سرد وقائع الحريق قائلا “مع سيطرة النيران على المكان قطعتُ مسرعا المسافة الفاصلة بين وحدة التعبئة والفضاء الخارجي للمركز ثم تحولت رفقة عدد من زملائي المصابين مشيا على الاقدام الى اقرب ادارة للحماية المدنية طلبا للنجدة أين تم نقلنا الى مستشفى الحروق البليغة ببن عروس قبل أن يتم توزيعنا على عدة مستشفيات”.

بشر أم حيوانات؟

عون ثالث أكد انه ما زال يعاني من اصابات خطيرة بأطرافه السفلى وان النار كادت تلتهم نصفه العلوي لولا سترة واقية كان قد زوده بها موظف بـ “عجيل”.

وقال “للاسف تم الزج بنا في نشاط يكتسي خطورة مضاعفة دون ان توفّر لنا شركة “الاتصالية” أية أزياء او وسائل للحماية من الحرائق”.

في المقابل ذكر العون ان ادارة “عجيل” لم تدّخر جهدا في الاحاطة بالأعوان سواء كانوا من موظفيها او من عمال المناولة مؤكدا انها مكنت كل متضرر منهم من منحة مالية بـ 1000 دينار وخصّصت سيارة لتأمين تنقلاتهم الى المستشفيات إلى جانب تكفلها بخلاص الادوية التي كانوا يقتنونها.

وقال ” على عكس شركة توزيع البترول اخلّت ادارة “الاتصالية” بتعهداتها تجاهنا” مشيرا الى ان بعض مسؤوليها تهربوا من الرد على اتصالاتهم الهاتفية ولم يتكفلوا بخلاص فواتير علاج بعدما  وَعدوا بذلك على غرار ما حصل مع احد زملائهم.

وأشار العامل الى أن “الاتصالية” كانت تنقل الاعوان المتضررين الى المستشفيات في ظروف لاانسانية “شبيهة الى حد كبير بنقل الحيوانات” على حد تعبيره موضحا انه كان يتم نقلهم على متن سيارات تجارية ضيقة وغير ملائمة لنقل المصابين.

وذكر عامل اخر أنه رفض تكفّل شركة المناولة بنقله الى المستشفى ملاحظا انه كان يستأجر سيارة على حسابه الخاص لتأمين تنقلاته للعلاج.

من جانبه أفاد “هاني” بأن شركة المناولة اقتطعت من راتبه مبلغا ماليا كانت قد صرفته لاقتناء ادوية له معبرا في الان نفسه عن استغرابه من تدني أجور عمال المناولة مقارنة بنظرائهم في شركة “عجيل”.

وتساءل “هل يعقل ان ننجز نفس العمل الذي يؤديه زملاؤنا في “عجيل” ويتقاضوا اضعاف ما نتقاضى؟ وكيف يمكن تفسير اتفاقنا مع شركة المناولة على راتب بـ 700 دينار ثم حصولنا على 600 دينار فحسب؟ الاكيد ان ما تتسلمه “الاتصالية” من “عجيل” يفوق ما نحصل عليه بأضعاف.

يذكر ان مصدرا بوزارة الصناعة أسرّ لأسبوعية “الشارع المغاربي” بأن الشركة الوطنية لتوزيع البترول كانت قد أبرمت اتفاقا مع “الاتصالية” لتوفير 60 عاملا على ذمتها طيلة 3 سنوات وبأن قيمة الصفقة تتراوح بين 1.2 و1.4 مليار دينار مما يعني ان راتب العامل يكون بين 1600 و1900 دينار.

“هاني” قال من جهته “ما مررنا به خلال الحريق يتطلب احاطة تامة من الدولة باعتبار أن ما حصل يعتبر حادث شغل ويستدعي وقوف مشغلينا معنا. وهذا لمسناه في تعاطي مسؤولي “عجيل” معنا وتعهدهم مرارا بمساعدتنا وحتى انتدابنا وهذا ما نرجو أن يتحقق حتى لا تتشتت عائلاتنا وتتعمق مآسينا ببطالة لم نكن لنختارها”.

في هذا السياق أوضح خالد بتين رئيس مدير عام “عجيل” في تصريح لـ “الشارع المغاربي” أن ادارته سعت منذ الحادث الى الوقوف الى جانب المتضرّرين مشيرا الى انه تم صرف منح بألف دينار لفائدة كل عون بمن فيهم عمال المناولة والتكفل بمصاريف علاجهم وحث موظفي الشركة على التبرع بيوم عمل لفائدتهم.

وعبّر عن استعداده لانتداب من تضرروا من عمال المناولة في صورة موافقة رئاسة الحكومة على الأمر.

وتطرّق الى حرمان عمال المناولة من أزياء واقية قائلا ان العقد المبرم مع “الاتصالية” يفرض عليها توفير ازياء شغل واقية وانه سبق له ان طرح هذه المسألة على مديرها العام لافتا الى أن الأخير علّل عدم تزويد عماله بها بقصر مدة عملهم بوحدة التعبئة.

اخلالات في الصفقة

حريق يوم 14 مارس المنقضي الذي شب في وحدة التعبئة ذات التدفق العالي أعاد الى الأذهان اخلالات كانت قد شابت صفقة تركيز معدات جديدة لتعبئة قوارير الغاز بمستودع رادس مقابل 15 مليون دينار. اخلالات قد تكون من بين العوامل التي ساهمت في نشوب الحريق.

فقد كشف موظف بـ “عجيل” في تصريح سابق لـ “الشارع المغاربي” ان الصفقة شهدت تحفظات جوهرية كان قد دوّنها رئيس المستودع وان ادارة الشركة تخلت عن محضر الاستلام الوقتي الذي تضمن التحفظات واستبدلته بمحضر ثان.

الموظف أوضح ان رئيس المستودع أوصى في محضر الاستلام الاول بإصلاح وتشغيل بعض المعدات الاساسية في وحدة التعبئة وخصوصا منها ما يرتبط بالسلامة والتي تتطلب عرضها على الاختبارات للتأكد من طاقتها الانتاجية الى جانب تسليم قطع الغيار الضرورية والكافية لنشاط سنتين بعد الاعلان عن الاستلام الوقتي.

وذكر مصدر آخر ان إدارة الشركة استبقت بإشراف مدير مركزي سابق عملية تغيير محضر الاستلام الوقتي بآخر مفتعل بنُقلة رئيس المستودع وتعويضه بموظف اخر كان قد غض الطرف عن مختلف الإخلالات مع تغيير فريق العمل المشرف على تنفيذ المشروع وسحب الإشراف عليه من إدارة المشاريع رغم أن الصفقة كانت في مرحلة متقدمة من الانجاز آنذاك أي مرحلة اجراء الاختبارات والإعداد للاستلام الوقتي.

وأضاف “مع قدوم رئيس مستودع جديد تمت الاختبارات المتعلقة بجدوى المضخات والإعلان على الاستلام الوقتي اعتمادا على محضر استلام ثان تم بمقتضاه إلغاء الوثيقة الأصلية التي تحمل تحفظات جوهرية دون تشغيل جهاز مراقبة التسرّب وجهاز غلق القوارير”  مشددا على ان المحضر المفتعل حمل نفس تاريخ المحضر الأصلي وتضمن امضاء رئيس المستودع الجديد رغم انه لم يتم تعيينه بعد خلفا لرئيس المستودع المعفى.

وتؤكد معطيات استقتها أسبوعية “الشارع المغاربي” من مصادر قريبة من الملف أن  رئيس مدير عام سابق لـ “عجيل” سعى جاهدا لتفادي معارضة بعض الموظفين النزهاء على غرار ما حدث في ملف اعفاء مقاول فرنسي من خطايا تأخير بعد اشرافه على انجاز خزان للغاز بقابس وأنه عمد الى تغيير الفريق المشرف على مشروع غاز رادس.

ورغم ذلك باءت مساعي الإدارة العامة بالفشل في اخلاء ذمة الشركة الفرنسية  المشرفة على تركيز وحدة التعبئة من خطايا التأخير بعد إصرار المهندس المشرف على مراقبة المشروع على اعداد مذكرة تقرّ بتأخير الشركة وتسليمها الى إدارة العقود بالمؤسسة العمومية وفق تأكيد مصدر بوزارة الصناعة.

المصدر لاحظ أيضا ان دخول المشروع طور الاستغلال بعد الإعلان عن الاستلام الوقتي للاشغال لم يؤد الى تطور الإنتاج وأنه لم يصاحبه انخفاض ملموس في عدد الساعات الإضافية.

من جانبه أكد خالد بتين ان التسليم النهائي للصفقة لم يتم الا بعد رفع كل التحفظات مشيرا في المقابل الى أن سرعة عمل وحدة التعبئة لم تتلاءم مع نوعية القوارير وحالتها الرديئة. وبيّن ان ذلك يؤدي احيانا الى تسرّب الغاز وتوقف الانتاج لمرات عديدة ملاحظا أن المستودع مجهز بأجهزة تكشف التسرّب وتحسب كمية الغاز المتسرّبة.

ولم ينف الرئيس المدير العام من جهة أخرى وجود تجاوزات تخللت صفقة تركيز وحدة التعبئة مرجّحا أن تكون قد ساهمت في الحريق.

رئيس مدير عام “عجيل” اوضح أيضا ان عدم توفر التهوئة ساهم في صعوبة تبخر الغاز ولم يقلل من خطورته مشددا على أن تركيز وحدة التعبئة كان على حساب المساحة المخصصة لتحرّك العمال.

وأضاف “كل ذلك قد لا يكون من الاسباب المباشرة للحريق ولكنه من المؤكد انه ساهم فيه مع العلم ان توقيت حدوث الحريق وهو السادسة صباحا ساهم بدوره في اشتعال النيران بحكم ان فترة الفجر لا تساعد على تبخر الغاز المتسرب بشكل سريع” خالصا الى القول ” صراحة تمنيت لو لم يتم بعث هذه الوحدة”.

خالد بتين رئيس مدير عام شركة “عجيل”: إخلالات سابقة قد تكون ساهمت في حريق 14 مارس

خمر ومخدّرات في مكان العمل

في اجابة عن سؤال يتعلّق بالاجراءات التي اتخذتها ادارته حيال استهتار بعض العمال باجراءات السلامة وبتعاطيهم مواد مخدرة او استعمال الهاتف الجوال خلال مزاولة نشاطهم لم ينف المسؤول الأول عن المؤسسة ذلك مفسرا استشراء الظاهرة في صفوف العملة بتجاوزات سابقة صاحبت انتدابهم.

وذكّر بأن ادارات سابقة انتدبت ابناء موظفي الشركة وبأنها اضطرت لانتداب أصحاب سوابق في معاقرة الخمرة او في تعاطي المخدرات مؤكدا انه من الصعب على هذه الفئة التخلي عن مثل هذه العادات.

واكدت مصادر بالشركة ان عديد العمال المحسوبين على مركز التعبئة برادس يعتبرون في عداد العاطلين عن العمل باعتبار انهم معفيون بقرار اداري من مزاولة نشاطهم تجنبا لارتكاب اية اخلالات قد تشكل خطرا على المؤسسة والاعوان في نفس الوقت.

وقالت ان “عجيل” عانت بدورها من مثل هذه السلوكات وان مستودع رادس كان على امتداد سنوات مصدر ازعاج لاية ادارة.

رئيس مدير عام “عجيل” أوضح ان إدارته استبعدت عددا من الاعوان من المستودع وأنها اتخذت اجراءات اخرى رادعة اضافة الى اعفاء رئيس المستودع بعد الحادث قائلا “لولا عديد الاجراءات التي اتخذتها الادارة ولولا سرعة تدخل عدد من اعوان السلامة لتسبب “حريق 14 مارس” في كارثة اكبر ولكانت الاضرار افدح.

وبيّن ان عملية اطفاء الحريق تطلبت استهلاك ما يناهز مليون و500 الف متر مكعب من المياه مشددا على ان ذلك مكّن الشركة من السيطرة على الحريق ومن حماية وحدتين اخريين من النار.

وبخصوص وجود عمليات صيانة تزامنا مع تعبئة القوارير قال بتين ان التحقيقات هي التي ستكشف صحة ذلك من عدمه معتبرا ان حوادث من هذا القبيل قد تحصل في أية شركة معبّرا عن خشيته من تطبيع العمال مع الاخطار لافتا الى ذلك قد يساهم بشكل كبير في مثل هذا الحادث.

وتحدث ر.م.ع “عجيل” عن وجود عطب على مستوى جهاز كشف تسرب الغاز قال انه لم يتم اصلاحه الا بعد الحريق مشيرا في الان نفسه الى انهماك عمال الصيانة في اصلاح هذا العطب خلال عملية تعبئة الغاز.

وأوضح في المقابل ان عديد الاعوان مزودون بأجهزة متنقلة لكشف التسربات.

 وتعهد خالد بتين بعودة مركز التعبئة الى العمل في اقرب الآجال بعد اجراء الاصلاحات الضرورية ملاحظا انه ملتزم بمكافحة الفساد ومنخرط تمام الانخراط في مرحلة ما بعد 25 جويلية مشيرا الى انه قدم عدة شكايات الى القضاء انطلاقا من توصيات كانت قد وجهتها الى ادارته محكمة المحاسبات وإلى انه ينتظر في المقابل تحرّك القضاء للبت فيها.

وفي انتظار بت الجهات القضائية في ملف الحريق الذي شب بمركز تعبئة قوارير الغاز التابع لشركة “عجيل” بضاحية رادس يبدو أنه لا يزال أمام إدارة المؤسسة العمومية التي تؤمّن قرابة 45 بالمائة من حاجة تونس من قوارير الغاز الكثير من العمل لفرض حسن التصرف في الموارد البشرية والانضباط والضرب على أيدي العابثين بمقدراتها ومهددي سلامة موظفيها.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING