الشارع المغاربي: يدرك الجميع اليوم في تونس فداحة المعضلة الإدارية. فقد تعرت فكرة مداواة معضلة الإدارة بأدوات الإدارة. وتعرت فكرة أن الدولة هي أول المسؤولين عن توفير الشغل لطالبيه بإدماجهم في إدارتها الفسيحة والمريحة. وانكشف طمع السياسيين -وهم ممثلي أصحاب المصالح الكبرى- الذين اعتبروا الدولة أُمًا ترضعهم وتخصهم بفرص الاستثمار، وكذا السياسيون الذين اعتبروها إلاها ينعم عليهم بالوظيفة. ولأن الطلب على إدارة الدولة كان يزداد باستمرار فهي كانت تنتفخ وتكبر باستمرار. ولقد ناداها بعض السياسيين بعد الثورة «أن إطعمي كل الأفواه التي جرى فطامها في الماضي قسرا وتلك الجديدة الثائرة. كانت الدولة التونسية وحدها من يملك مسامير جحا، والدولة المتخلفة توزع الكثير من تلك المسامير، وقائدها لا يمكن إلا أن يكون أكبر المسامير على راس الموزع الأكبر لمسامير جحا.
صديد إدارتنا قديم مزروع فينا مرتين: مرة في فلسفة بنائها أصلا وفي عقول ممثليها، ومرة في هياكلها ومواردها وأدواتها وعلاقاتها. من المنظور التاريخي والسوسيو-أنثروبولوجي يمثل انتشار الإدارة في كل مناطق البلاد حدثا تاريخيا غير مسبوق، وهذا ليس خاص بنا بل بجميع المجتمعات الانسانية، إلا ربما تلك التي سماها الباحثون المجتمعات الهيدروليكية الأولى التي احتاجت فلاحتها المركزة إلى الماء الوفير الذي توفره الدولة عبر إقامة السدود لتحصل في المقابل على الاعتراف بوظيفتها وعلى الجباية. أما غالبية المجتمعات فلم تكن قبل نشأة الدولة الحديثة في حاجة لوجود إدارة تدار من المركز: في منتصف القرن 19 كتب غومة المحمودي إلى باشا طرابلس الذي يريد توسيع الإدارة العثمانية في البلاد « أنت تريد أن تجعل علينا مديرا…ولكن هذا ليس من عوائدنا»!.
لذلك كان توسع الإدارة بمثابلة عمل مُغالبة وإخضاع (قال ثوار 1864 للباي «ماش تسترعانا» بمعنى ستغضعنا!)، إلى أن تحولت الإدارة إلى حاجة ملحة في حياة الناس، وذلك عندما تحطم اقتصادهم القديم، وضعفت مواردهم في الدفاع عن أنفسهم، وتفككت كل سبل حياتهم الجماعية، فأصبحوا عائلات وأفراد شبه متحررين من ضغط الانتماء إلى جماعة بعينها، ذات هويات شبه ثابتة.
وهكذا فإن الفلسفة الأصلية للإدارة كما نشأت في مجتمعاتنا، وتحديدا في بلادنا، كانت المراقبة الإدارية والأمنية-السياسية لجعل الضريبة سلسة. وكان ذلك انتصارا للدولة على المجموعات القبلية والطرقية وتلك التي تعيش بعيدا في التخوم ضمن نظام إقتصادي يقوم على التنقل في الفضاء.
الإدارة التونسية الحديثة نشأت لتثبت أقدام الدولة التونسية في كل المناطق، ولتمكنها من محق «الشيطان النوميدي» كما كان يسيمه بورقيبة، والتخلص منه نهائيا حتى تسلم تونس من شر الدورة الخلدونية الشهيرة لعمر الدولة، ولتكون بذلك قادرة على التدخل التنموي الناجع الذي يستهدف البنى القديمة للمجتمع وفق مقولة التحديث والتعصير التي تبنتها نخبها. وكان بورقيبة قد صرح بهذا في أحد أيام سنة 1963 في الكاف، بشكل مباشر، عندما جمع أعيان الأرياف وشيوخها وافهمهم هذا الكلام بوضوح. وبعد 125 سنة على ثورة 1864 اشتكى لي سنة 1989 بعض أحفاد على بن غذاهم من كونهم فقراء مهمشين، لا يملك الواحد منهم قارورة غاز بعدما منعت عنهم الدولة التحطيب من الغابات القريبة.
ولأن الدولة الناشئة كانت تتوسع ومشاريعها التنموية تتعدد، فإن أجهزتها المختلفة كانت تتكاثر وتتفرع، فكانت تلتهم الأجيال الجديدة من المتخرجين من المدارس ليصبحوا أبناء الدولة توظفهم وتستخدمهم. واستمرت الدولة التونسية في هذه العملية إلى أن قضت نهائيا على «الشيطان النوميدي»، فكانت تأخذ منه الولاء النهائي وتعطيه الوظائف حسب استعداداته ، ثم تطبخه وتعصره بقوانينها إلى أن يستوعبها ويخافها (لذلك لم تسقط الدولة سنة 2011)، وبذلك أصبحت الدولة التونسية منتفخة ببيروقراطيتها كالضفدعة التي تحاكي البقرة.
لكن لكل مشروع حدود، ومن لا ينتبه لتلك الحدود يصطدم بحواجزها غير المرئية ويسقط. لقد كانت الثورة بمثابة العاصفة الكبرى التي عرت رياحها خور الإدارة التونسية وفداحة بنيتها التنظيمية والقانونية. ذلك ان هذه الإدارة التي صُممت كذراع مراقبة لصيقة، وكأداة تنفيذ لمشاريع فوقية قد بلغت مداها وأدت مهمتها، ودخلت في أزمة تحولت بموجبها إلى منظومة لا تخدم المواطن بل تخدم ذاتها، مستعملة في ذلك كل الأساليب التي تمنع تحديث عملها، فالإدارة تراقب ولكنها لا تُراقب، تطلب أكثر مما تعطي، تعطل أكثر مما تسهل. ولأنها أصبحت وحشا مخيفا، واستنفذت كل وسائل البيروقراطية لتستمر، فقد استدعت الرشوة والمحاباة والوساطة. فترى مواطنين مرضى يأتون من الأرياف ويصطفون أمام المستشفيات والإدارات في المدن الكبيرة منذ الغسق، لكنهم يعودون إلى قراهم آخر الناس مرضى منهكين ومفلسين، ويبجل عنهم أهل وجيران وأصحاب وزبائن الموظفين. ولقد صاحوا أثناء الثورة إننا بلا كرامة!
ولأن نخبة السياسيين الجدد كانت من إنتاج الدولة ورضعوا من بيروقرطيتها، وبعضهم حُرم طويلا من «خيراتها» بسبب نضاله ضد من استحوذ عليها، فقد وجدوا أنفسهم يوم سقط -على الأقل شكليا- النظام القديم عطشى إلى منافعها وبهرجها و»مساميرها الوظيفية». وهكذا قاموا بأكبر حماقة يمكن أن يقوم بها سياسي ضيق الأفق، وهي أن وزعوا على أتباعهم مسامير جحا بلا حساب، فضاعفوا بذلك أزمة الإدارة التونسية وأطالوا عمرها إلى أفق بعيد، ثم وعدوا في الآن ذاته التونسيين بغد مشرق.
واليوم تحمل الدولة التونسية في كامل جسدها أمراض الإدارة، وتعمل الإدارة على أن تكون لها دولة على قياسها، فتعطل التنمية، وتنغص على المواطنين حياتهم. إن هذا القول فيه تعميم ولكن ليس فيه إطلاق، إذ أنه نادر جدا ما يخرج مواطن تونسي من إدارة تونسية له معها معاملة وهو لا يسب ولا يلعن (في بلدية نابل موظف الاستقبال هو الذي يوزع أرقام المعاملات ويتلاعب بها وليس آلة إلكترونية لا تتفرس في الوجوه). والإدارة التونسية متخلفة ليس بسبب القوانين البالية والروتين القاتل فحسب، بل لأن الموظفين التونسيين لم يربوا على تقديم الخدمة بل على مراقبة المواطن وممارسة السلطة عليه بأي طريقة ممكنة: «نخدم عندك أنا؟؟؟!!!». إن مقتل الثورة وأملها في الثورة الإدارية أيضا.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 21 مارس 2023