الشارع المغاربي – وكالات: ما من شك أن الاقتصاد التونسي يعاني من أزمة هيكلية ناتجة عن خيارات وتوجهات في علاقة بالعولمة المفرطة و بدور الاتحاد الأوروبي المتزايد في تحديد خيارات النشاطات الاقتصادية لبلادنا خدمة لمصالحه الذاتية وعلى حساب المصلحة العليا للبلاد. وقد تم ذلك بالنظر لافتقاد الدولة التونسية منذ ثلاثين سنة إستراتيجية تنموية تبني لاقتصاد ينتج القيمة المضافة والثروة الوطنية ويوفر التشغيل بمؤسسات وطنية عمومية وخاصة ذات قدرة تنافسية عالية.
لقد تعرضنا في المقال السابق إلى معضلة الركود الكامل للاقتصاد التونسي في المرحلة بين 1998 و2016 الذي تثبته نسبة القيمة المضافة في كل القطاعات المنتجة وخاصة على مستوى القطاع الفلاحي والقطاع الصناعي التي كانت في ركود بل حتى في حالة تراجع خطير. من ذلك فقد تبين من خلال إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء أن معدل مستوى القيمة المضافة في قطاع الصناعات المعملية كان في حدود 16,5 بالمائة على طول المدة المذكورة. والحال أن هذا القطاع كان من المفروض أن يرتفع إلى نسبة 30 بالمائة ليكون القاطرة الأساسية للدفع نحو نمو مستدام يخلق الثروة و يخلق مواطن الشغل ذات قيمة علمية عالية ويعزز رصيد البلاد من العملة الأجنبية عبر نشاط التصدير.
هذه المعضلة لم تكن وليدة الصدفة كما تبين من عديد الدراسات الموثوق بها من بينها الدراسة التي أصدرها المعهد الوطني للإحصاء بالاشتراك مع البنك الدولي في سنة 2013 والمتعلقة بمعضلة تراجع الاستثمار الوطني في قطاع الصناعة. فقد جاء في خلاصة هذه الدراسة القيمة أن بلادنا خسرت 55 بالمائة من المؤسسات الصناعية التي تشغل من 10 أشخاص إلى ما فوق بين سنة 1996 وسنة 2010. وهذا التاريخ يبين بوضوح أن تعطيل نشاط هذه المؤسسات وإفلاسها له علاقة مباشرة مع بداية تطبيق اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي الموقع في سنة 1995. هذه النسبة المرتفعة تعني أن تونس فقدت أكثر من 10 آلاف مؤسسة صناعية التي تعتبر عماد الاقتصاد الوطني منذ الاستقلال إلى بداية التسعينات. مما نتج عن ذلك فقدان أكثر من 400 ألف موطن شغل قار.
هذه الدراسة المهمة تم تأكيدها بدراسة مماثلة صدرت عن وكالة النهوض بالصناعة بتاريخ جوان 2017 بعنوان «إشكاليات خلق وديمومة المؤسسات الصناعية التونسية» والتي أكدت أن تونس فقدت 4319 مؤسسة صناعية من الصنف الذي يشغل أكثر من 10 أشخاص في المدة بين 2005 و2015 مما نتج عنه فقدان 250 ألف موطن شغل قار.
مع الملاحظة الهامة جدا أن كلا من الدراستين المتكاملتين أكدتا على ظاهرة خطيرة وهي أن المؤسسات التي يتم بعثها منذ سنة 2004 إلى سنة 2016 لا تعمر في النشاط أكثر من ثلاثة سنوات فقط وذلك بالنظر إلى المنافسة الشرسة التي تمارسها الشركات الأوروبية سعيا للاستفراد بالسوق الوطنية.
مع التذكير أن المنظمة العالمية للتجارة ركزت على هذه الظواهر التي يمكن أن تعطل المسارات التنموية خاصة في البلدان النامية. لذلك شرعت قوانين يمكن تطبيقها لحماية المؤسسات الوطنية وحماية مواطن الشغل التي توفرها عند التعرض لمثل هذه العمليات المنافية لقواعد المنافسة. من ذلك سنت قوانين للحماية المؤقتة في حالة إنشاء مؤسسات صناعية جديدة «Industries naissantes «. كما سنت قانون يحمي المؤسسات الوطنية من التوريد المكثف « Clauses de sauvegarde» الذي يمكن أن يخلف أضرارا للقطاع المنتج الوطني. ونفس الشيء بالنسبة للقانون الخاص بمقاومة عمليات إغراق السوق « Lois anti-dumping» التي تمارسها خاصة الشركات الكبرى في البلدان المصنعة للدفع نحو تعطيل نشاط المؤسسات الوطنية والاستفراد بالأسواق. كما شرعت المنظمة العالمية للتجارة حق الحماية لكل بلد يتعرض اقتصاده إلى اختلال على مستوى ميزان الدفوعات «Clauses de sauvegarde pour raison de déficit de la balance des paiements « الذي يمكن أن يهدد البلاد المعنية بالإفلاس بمعنى حالة العجز عن تسديد ديونها في آجالها المحددة.
الغريب في بلادنا أن كل هذه الآليات الهامة لم تُفعّلها الدولة التونسية لصالح الاقتصاد الوطني منذ سن هذه القوانين أي منذ سنة 1998 و1999. كما أنها إلى اليوم تتقاعس في تطبيق الفصل الخاص بالحماية عند اختلال ميزان الدفوعات والحال أن البلاد في حالة إفلاس غير معلن. بل ما هو أدهى وأمر فإن الحكومات المتتالية على السلطة بعد الثورة تهرول إلى اليوم لمزيد توريط البلاد بالتوقيع على اتفاق منطقة تبادل حر شامل ومعمق جديد مع الاتحاد الأوروبي ليشمل كل القطاعات المتبقية خاصة منها قطاع الفلاحة وقطاع الخدمات مما سيدمر كل المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسيادية التي تحصلت عليه البلاد منذ الاستقلال.
طبعا هذا التصرف لم يكن من محض الصدفة بل هو ناتج عن تأثير خارجي مباشر يحركه الاتحاد الأوروبي بوسائل تعتمد على جهات داخلية فاعلة في الشأن الاقتصادي وفي الشأن السياسي وكذلك الإداري مرتبطة بالمصالح الأوروبية في البلاد وبالعمل على الدفاع عنها.
في هذا الموضوع الخطير كيف يمكن أن نفسر هذا التخلي الواضح على السيادة الوطنية بطريقة غريبة ومسترابة؟ للجواب عن هذا السؤال الهام أريد التذكير بالدراسة التي قامت بها الباحثة «كريستينا كاوش» في شؤون العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وبلدان الجوار في جنوب البحر الأبيض المتوسط وجاءت تحت عنوان «نهاية سياسة الجوار الأوروبية في جنوب البحر الأبيض المتوسط».
حيث تعرضت الباحثة في هذه الدراسة بتحليل قوة وقدرة التفاوض للاتحاد الأوروبي مع بلدان شمال إفريقيا الخمسة وهي تونس والمغرب ومصر والجزائر وليبيا على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني. من خلال معايير تقديرية لكل العناصر الاقتصادية والسياسية والأمنية وقد أفضت إلى ترتيب قدرة الاتحاد الأوروبي إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول وسمته صنف البلدان التابعة Les pays satellitaires وهي البلدان التي تعتمد بشكل كبير على الاتحاد الأوروبي اقتصاديا وسياسيا وأمنيا. مما مكن هذا الأخير من وسائل ضغط كبيرة وقدرة عالية على التفاوض لصالحه وهو وضع كلا من المغرب وتونس.
الصنف الثاني سمته صنف البلدان المستقلةindépendants والتي لا يملك الاتحاد الأوروبي أمامها القدرة اللازمة للضغط عليها وهو وضع الجزائر وليبيا.
والبلدان التي لا يجب أن يقترب منها «intouchables « وهو مصر أين لا يملك الاتحاد الأوروبي أي إمكانية للمناورة وذلك لوجود هذا البلد تحت ضغط الولايات الأمريكية بصفتها قوة عظمى.
وقد بنت جدول يتكون من 10 عناصر اقتصادية وسياسية وأمنية من بينها ما سمته «وجود تبعية للنخب السياسية داخل البلدان المعنية (تونس والمغرب) لأهداف ومصالح الاتحاد الأوروبي». وهو حقيقة واقع الحال في تونس.
هذا الوضع الخطير يتطلب إستراتيجية جديدة للنهوض بالقطاع الصناعي الوطني كمدخل أساسي للخروج من هذه الأزمة.
لقد نشرنا في المقال السابق جدولا خاصا يبين التدهور العميق للميزان التجاري في النظام العام الصادر عن المعهد الوطني للإحصاء والذي تسرب فيه خطأ لذلك نعيد نشره لأنه يبين بوضوح الوضع الهيكلي الهزيل والخطير للاقتصاد التونسي خاصة على مستوى القطاعات المنتجة.
لقد ارتفع العجز التجاري الحقيقي من 7,5 مليار دينار في سنة 2006 إلى 12,8 مليار دينار في سنة 2010 ثم إلى 25,2 مليار دينار في سنة 2017. كما تعمق العجز التجاري في النصف الأول من سنة 2018 ليبلغ 13,3 مليار دينار مقابل نفس المدة من السنة الماضية. مما يفند تماما ما يتردد في وزارة التجارة من أن هناك تحسن في الميزان التجاري.
كما يتبين أن كل القطاعات المنتجة تعاني من عجز هيكلي وعميق باستثناء قطاع المناجم والفسفاط ومشتقاته. و يتم التعتيم على هذا الوضع المهتز رسميا عبر إدماج نشاط الشركات الغير مقيمة والمصدرة كليا بتواطئ خطير من طرف الاتحاد الأوروبي وخاصة من الطرف الفرنسي لأن تصدير هذه المؤسسات هو مجرد استرجاع البضاعة المحولة إلى بلدانها ولا تسترجع مداخيلها إلى البلاد التونسية طبقا لقانون الصرف للبنك المركزي التونسي. وهذا يشكل تصرفا يرتقي إلى مستوى تزوير المحاسبة العمومية يتحمل فيه الطرف الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والحكومات المتعاقبة التونسية مسؤولية جسيمة لأن هذا التزوير لا يتطابق مع حقيقة وهزالة المبادلات التجارية للبلاد.
من ذلك نلاحظ أن قطاع النسيج والملابس الذي كان ناشطا عند التصدير في الثمانينات والتسعينات أصبح يعاني من عجز هيكلي ارتفع إلى 914 مليون دينار في سنة 2017 بعدما كان في حدود 333 مليون في سنة 2010 و188 مليون في سنة 2006. هذا طبعا في القطاع المنظم ناهيك عن القطاع الموازي الذي أنهك البلاد بالتوريد الفوضوي.
لذلك فإن الإصلاحات الكبرى لا يجب أن تعتمد التفويت في مؤسساتنا الوطنية الإستراتيجية بل على تعزيزها عبر تحسين التصرف فيها. من ذلك نذكر مثلا ما يجري داخل شركة تونس الجوية من صعوبات أصبحت تداعياتها خطيرة على مواعيد الشركة التي اختلت بصفة غير عادية منذ عديد السنوات. بالبحث عن بعض الأسباب نكتشف أن الشركة أقدمت منذ عدة سنوات على كراء أربعة طائرات تابعة لها مع كامل طواقمها وعددهم 48 لفائدة شركة الطيران الملكية المغربية بينما أصبحت حاليا تلجأ إلى كراء طائرات أوكرانية لسد الشغور في برامج رحلاتها. كما أنها تعاني حاليا حسب بعض المعلومات من عجز في الصيانة نظرا لعدم توفر قطع الغيار الضرورية ونظرا لغلاء هذه القطع في علاقة بانهيار قيمة الدينار.
لذلك نعتقد أن وضع إستراتيجية للنهوض بالصناعة الوطنية في القطاع العمومي والخاص هي ضرورة قصوى للخروج من هذه الأزمة العميقة التي تعاني منها البلاد.
هذه الخطة تتطلب عدة شروط أولها ضرورة المصارحة مع الطرف الأوروبي لتصويب الإخلالات والمغالطات التي تسود هذه العلاقة بين الطرفين. كما تتطلب ضرورة القيام بإصلاحات كبرى حقيقية لا تعتمد على التفويت في مؤسساتنا الوطنية الإستراتيجية بقدر ما تعتمد على ضرورة وضع برنامج جدي لمقاومة الاقتصاد الموازي بتشريعات صارمة ومراقبة أمنية جدية تقطع مع لوبيات التهريب والفساد. هذه الخطوة سوف توفر للخزينة العمومية أكثر من 20 مليار دينار جباية يمكن تسخيرها لتمويل الخطة الصناعية المستقبلية للبلاد.
المصارحة مع الاتحاد الأوروبي والمكاشفة ضرورية لبناء علاقة متينة في إطار احترام مصالح الطرفين
لذلك للخروج من هذا الأزمة لابد من المصارحة وكشف حقيقة العلاقة مع الشريك الأوروبي الذي استفرد بالبلاد بطريقة كرست الهيمنة الكاملة ولم تترك مجالا لبلادنا لإعادة ترتيب منوالها التنموي بطريقة تستعيد بها الدولة التونسية سيطرتها على المسيرة التنموية وتعزيز قدرات البلاد على بعث اقتصاد منتج ينطلق من بعث إستراتيجية وطنية لدفع الاستثمار الوطني في القطاع الفلاحي والصناعي ووضع خطة لتحسين مردودية القطاع السياحي الذي يتم استغلاله بأسعار لا تغطي التكلفة في عديد الحالات.