الشارع المغاربي: إذا لم نعترف بأن هناك مشكلا فلماذا نبحث عن حلّ؟ حلّ لماذا؟ إذا كان التشخيص خاطئ فكيف يمكن للحل أن يكون صحيحا؟ منظومة الخبز في تونس في وضع انهيار شبه كامل. الخبز مفقود والمواطن يلهث يوميا لتحصيل خبز يومه. ولكن ما سبب هذا الانهيار؟
الأسباب الحقيقية عديدة، نذكر منها :
–1 سعر الخبز المدعّم لم يتغير في تونس منذ 40 سنة بينما سعر الحبوب في الأسواق العالمية تضاعف أربع مرات على مدى الأربعين سنة الأخيرة.
2 – المخابز تقتني دقيق الفارينة بسعر سلبي، نعم سلبي. المخابز تقتني قنطار الفارينة من المطاحن بسعر 22 دينارا للقنطار الواحد ثم تصرف لها من صندوق الدعم أي من ميزانية الدولة أو من مال دافعي الضرائب منحة بـ 28 دينارا لكل قنطار فارينة يتم تحويله إلى خبز مدعّم. وهكذا يصبح سعر قنطار الفارينة سلبيا (22 د – 28 د = – 6 دنانير).
ولكن منذ أكثر من ستة عشر شهرا لم تصرف وزارة المالية للمخابز منحة الـ 28 دينارا لكل قنطار وفارينة يحوّل إلى خبز.
وهكذا شارف عدد كبير من المخابز على الإفلاس ممّا جعل البعض منها يفضل بيع الفارينة المدعّمة في السوق السوداء عوض تحويلها إلى خبز. بينما فضّل بعضها الآخر الترفيع في سعر الخبز في تحد صارخ للقانون وهو ما من شأنه خلق فوضى عارمة في قطاع حيوي وحسّاس مثل قطاع الخبز.
–3 تم التخفيض في كمية الفارينة التي تتسلمها كل مخبزة أسبوعيا بنسبة كبيرة بسبب عدم توفر مادة القمح اللّين.
–4 ديوان الحبوب وهو المتدخّل الرئيسي في منظومة الحبوب لم يتلق مستحقاته من صندوق الدعم وأصبح مكبلا بالديون. ديون ديوان الحبوب لدى البنك الوطني الفلاحي تجاوزت 5 مليارت دينار!!!
قيل لنا إن السببين الأساسيين في أزمة الخبز هما الاحتكار ولهفة المواطن.
نعم هناك احتكار فعلا. ولكن من تسبب في بروز ظاهرة الاحتكار؟ من الواضح أن الدولة هي التي تسببت في ظاهرة الاحتكار. هل كان هناك احتكار في مادتي الفارينة أو السميد أو حتى في مواد أساسية أخرى مثل السكر والقهوة والأرز والزيت النباتي والدواء وهي مواد من اختصاص المؤسسات العمومية (Monopole) منذ سنتين أو ثلاثة؟ الجواب بكل وضوح لا. ولكن وضع المالية العمومية جعل وزارة المالية تتخلف عن تسديد مستحقات المؤسسات العمومية من صندوق الدعم. وهذا ما جعل هذه المؤسسات العمومية تفقد ثقة مزوديها الأجانب كما أنها فقدت ثقة البنوك في الدّاخل والخارج.
وكلما تأخرت مؤسسة عمومية عن تزويد السوق بمادة ما وأصبحت تلك المادة نادرة أو مفقودة في السّوق أعطت فرصة للمحتكرين لينقضّوا على سوق تلك المادة قصد تحقيق مرابيح طائلة في وقت وجيز. وتحل السوق السوداء محل السوق المنظمة. وهكذا تكون الدولة ومؤسساتها العمومية المتسبب الأصلي في ظهور الإحتكار المقيت والذي يزيد في حجم الاقتصاد الموازي على حساب الاقتصاد المنظم.
أما عن موضوع اللهفة فهي تهمة باطلة في حق المواطن التونسي. ليس هناك لهفة بل هناك تصرف منطقي عقلاني من طرف مواطن فقد الثقة في المنظومة وفي السوق.
منذ سنتين أو ثلاثة لم يكن هناك أي إقبال غير طبيعي على مادّة السكر مثلا إذ أن السكر كان متوفرا في السوق بشكل طبيعي.
ولكن لمّا تفقد مادة السكر في السوق ولو مرة واحدة يفقد المواطن الثقة في السوق ويغير من تصرفاته في التزود بتلك المادة. وهذا التغيير منطقي وعقلاني ولا يمكن توصيفه بأنه لهفة.
السبب الحقيقي في انهيار منظومة الخبز
السبب الحقيقي هو عدم تزود تونس بكميات كافية من الحبوب. أزمة المالية العمومية أزمة حادة وغير مسبوقة في تاريخ تونس منذ الاستقلال الى الآن. تدهور الأوضاع الاقتصادية منذ 2011 الى الآن واللّهث وراء القروض بشتى أنواعها مع غياب كامل للإصلاحات الضرورية والتي لا مفرّ منها أدى الى :
• ركود اقتصادي في منتهى الخطورة. الاقتصاد التونسي فقد وظائفه الثلاث الأساسية وهي خلق النمو وخلق مواطن الشغل الحقيقية وخلق الثروة.
• أزمة مالية عمومية حادة تسببت في عجز مالي شبه كامل للمؤسسات العمومية المسؤولة عن توفير المواد الأساسية في السوق.
الوضع الحقيقي للحبوب في تونس
المعطيات الموضوعية الثابتة لقطاع الحبوب بالنسبة للاثني عشرة أشهر القادمة أي حتى موسم حصاد الحبوب لسنة 2024 تبدو بوضوح كما يلي :
+ صابة الحبوب لموسم 2023 هي 2,7 مليون قنطار وهو ما يكفي لحاجاتنا من البذور للموسم القادم.
+ هذا يعني أن تونس تحتاج إلى توريد 100 ٪ من حاجاتها من الحبوب بالنسبة للإثني عشرة شهر القادمة والتي تقدر بـ 34 مليون قنطار.
+ حسب الأسعار السائدة في السوق العالمية للحبوب تحتاج تونس الى 4 مليارات دينار (بالعملات الأجنبية طبعا) لتأمين تزويد منتظم لسوقها الداخلية بالحبوب وتوفير عادي لمادة الخبز.
هذه المعطيات تعني بوضوح أن تونس تحتاج إلى الاعتراف أولا بأن هناك مشكلا لا بدّ من تشخيصه بصفة دقيقة ثم المرور إلى إعداد خطة واضحة لمجابهة الوضع بإجراءات مجدية وفعالة. أمّا إذا واصلنا في تجاهل كامل لأصل المشكل واعتماد تبريرات خاطئة مثل الاحتكار واللهفة فلا يمكن للوضع إلا أن يزداد تعقيدا.
حذار.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 29 اوت 2023