الشارع المغاربي – الافتتاحية/ الخبز "علف" التونسي / بقلم: المولدي الاحمر

الافتتاحية/ الخبز “علف” التونسي / بقلم: المولدي الاحمر

قسم الأخبار

26 أغسطس، 2023

الشارع المغاربي: منذ‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي،‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الثمانينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬يطلب‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬رفع‭ ‬الدعم‭ ‬عن‭ ‬المواد‭ ‬الغذائية،‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬القوى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تفرز‭ ‬النخب‭ ‬السياسية‭ ‬الحاكمة‭ ‬من‭ ‬وسيلة‭ ‬لمقاومة‭ ‬هذا‭ ‬الضغط،‭ ‬سوى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الخبز‭ ‬هو‭ ‬غذاء‭ ‬التونسيين‭ ‬الأساسي،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يأكل‭ ‬التونسيون‭ ‬الخبز‭ ‬بلا‭ ‬حساب‭ ‬فإنهم‭ ‬سيثورون‭ ‬علينا،‭ ‬وسيتزعزع‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬أرسينا‭ ‬دعائمه‭ ‬وقيمه‭ ‬وقناعاته‭ ‬الراسخة‭. ‬

ولأن‭ ‬صناعة‭ ‬القناعات‭ ‬تعني‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬صناعة‭ ‬الواقع‭ ‬والسلوكات،‭ ‬فقد‭ ‬ثار‭ ‬التونسيون‭ ‬سنة‭ ‬1984‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأشياء،‭ ‬لكن‭ ‬السردية‭ ‬القائلة‭ ‬بأن‭ ‬الحاجة‭ ‬الغذائية‭ ‬الأولى‭ ‬للتونسي‭ ‬هي‭ ‬الخبز‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬تفسيرية‭ ‬لما‭ ‬حدث،‭ ‬واختزلت‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ “‬ثورة‭ ‬الخبز‭”‬،‭ ‬وهي‭ ‬سردية‭ ‬اشتركت‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬النظم‭ ‬الاستبدادية‭ ‬في‭ ‬المستعمرات‭ ‬القديمة‭.‬

وللتغطية‭ ‬على‭ ‬الخدعة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬تشتغل‭ ‬كقناعة‭ ‬مطلقة،‭ ‬انبرى‭ ‬المفسرون‭ ‬والمحللون‭ ‬يربطون،‭ ‬بطريقة‭ ‬سببية‭ ‬مزعومة،‭ ‬بين‭ ‬خرافة‭ ‬قدسية‭ ‬الطعام‭ ‬وحساسية‭ ‬التونسي‭ ‬لنقصان‭ ‬وجود‭ ‬الخبز‭ ‬بوفرة‭ ‬في‭ ‬السوق‭. ‬إن‭ ‬القَسَم‭ ‬على‭ ‬الطعام‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬قدسية‭ ‬الطعام‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬استولت‭ ‬السردية‭ ‬الدينية‭ ‬على‭ ‬أصله‭ ‬الديني‭ ‬كأعطية‭ ‬إلاهية،‭ ‬بل‭ ‬يعني‭ ‬تأسيس‭ ‬رباط‭ ‬الثقة‭ ‬والحميمية‭ ‬بين‭ ‬طرفين‭ ‬ينشأ‭ ‬عن‭ ‬الاشتراك‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الطعام‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬مسموم،‭ ‬وإلا‭ ‬ما‭ ‬رأينا‭ ‬جبال‭ ‬الخبز‭ ‬مرمية‭ ‬في‭ ‬الزبالة،‭ ‬دعك‭ ‬مما‭ ‬تنشئه‭ ‬الندرة‭ ‬وسردية‭ ‬العقاب‭ ‬والثواب‭ ‬من‭ ‬شعور‭ ‬باللايقين‭ ‬وبالخوف‭ ‬من‭ ‬الفقد‭ ‬تجاه‭ ‬الخبز‭ ‬المرمي‭ ‬في‭ ‬الطريق‭.‬

في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬الذي‭ ‬طور‭ ‬مفاهيم‭ ‬جديدة‭ ‬للصحة،‭ ‬وللجمالية‭ ‬الجسدية،‭ ‬وللرشاقة‭ ‬وفن‭ ‬اللباس‭ ‬وعرض‭ ‬الذات،‭ ‬ارتبط‭ ‬الغذاء‭ ‬أشد‭ ‬الارتباط‭ ‬بالبناء‭ ‬الثقافي‭-‬الطبقي‭ ‬للمجتمع‭. ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬علاقة‭ ‬الميسورين‭ ‬المستوعبين‭ ‬للمفهوم‭ ‬الحديث‭ ‬للجسد‭ ‬ولنمط‭ ‬العيش‭ “‬الصحيح‭ ‬والمشروع‭ ‬والمستحق‭”  ‬بالغذاء‭ ‬لها‭ ‬مميزاتها‭ ‬الخاصة(بقطع‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬تدينهم‭ ‬من‭ ‬عدمه) . ‬فمطبخهم‭ ‬ومعارفهم‭ ‬ولغتهم‭ ‬وفنونهم‭ ‬الغذائية‭ ‬وضيافاتهم‭ ‬و‭ “‬زرداتهم‭” ‬الجماعية‭ ‬مسكونة‭ ‬بمفهومهم‭ ‬ذاك‭ ‬للغذاء‭. ‬وهكذا‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬هم‭ ‬يأكلون‭ -‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬اليومية‭- ‬ليتغذوا‭ ‬ويستمتعوا،‭ ‬فإن‭ ‬الفقراء‭ ‬ومتوسطي‭ ‬الحال،‭ ‬وهم‭ ‬أغلب‭ ‬التونسيين،‭ ‬يأكلون‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬ليملؤوا‭ ‬بطونهم‭)‬كول‭ ‬عبي‭ ‬كرشك!.)

ما‭ ‬الذي‭ ‬يملأ‭ ‬بطون‭ ‬الفقراء‭ ‬فيحسون‭ ‬بالشبع‭ ‬والاكتفاء؟‭ ‬إنه‭ ‬الخبز‭! ‬وليس‭ ‬أي‭ ‬خبز،‭ ‬فهو‭ ‬العجين،‭ “‬السميد‭” ‬ومشتقاته‭. ‬إنه‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يطرد‭ ‬الجوع‭ ‬حينما‭ ‬تنعدم‭ ‬إمكانية‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬أنواع‭ ‬الغذاء‭ ‬الأخرى‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإن‭ ‬الخبز‭ ‬اليومي‭ ‬للفقراء‭ ‬هو‭ ‬الخبز‭! ‬

عندما‭ ‬يتحول‭ ‬الخبز‭ ‬إلى‭ ‬خبز‭ ‬الفقراء‭ ‬اليومي‭ ‬تتشكل‭ ‬قناعة‭ ‬طبقية‭ ‬من‭ ‬وجهين‭: ‬الوجه‭ ‬الأول‭ ‬سردية‭ ‬الطبقات‭ ‬المتحكمة‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬القوى‭ ‬العاملة،‭ ‬وهي‭ ‬سردية‭ ‬تقول‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬شيء‭ ‬عند‭ ‬الفقراء‭ ‬هو‭ ‬الخبز،‭ ‬والروايات‭ ‬الجميلة‭ ‬مليئة‭ ‬بدراما‭ ‬الخبز‭. ‬وهذه‭ ‬السردية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬عمل‭ ‬أساسها‭ ‬إنتاج‭ ‬قيمة‭ ‬مضافة‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬ثروة‭ ‬خاصة‭)‬رحم‭ ‬الله‭ ‬ماركس)‭ ‬ مقابل‭ ‬أجر‭ ‬يساعد‭ ‬الأجير‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أصحاب‭ ‬الأجور‭ ‬العالية‭ ) ‬وهم‭ ‬القلة) على‭ ‬ضمان‭ ‬الشروط‭ ‬الدنيا‭ ‬للعيش،‭ ‬والشرط‭ ‬المعني‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المصريون‭ ‬هو‭ ‬ضمان‭ “‬أكل‭ ‬العيش‭”‬،‭ ‬فكأنما‭ ‬يأكل‭ ‬الأجير‭ ‬عيشه‭ ‬أي‭ ‬عيشته‭. ‬أما‭ ‬الوجه‭ ‬الثاني‭ ‬فهو‭ ‬ثقافة‭ “‬أكل‭ ‬الخبز‭” ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها،‭ ‬فبالنسبة‭ ‬للفقير‭ ‬ومتوسط‭ ‬الحال‭ ‬طاولة‭ ‬غير‭ ‬عارمة‭ (‬وليس‭ ‬عامرة‭ ‬فحسب‭) ‬بالخبز‭ ‬طاولة‭ ‬لا‭ ‬تنتج‭ ‬الشبع‭…‬‭”‬حتى‭ ‬لين‭ ‬يقعد‭ ‬الخبز‭ ‬ملوح‭!”. ‬

لقد‭ ‬أنتج‭ ‬الساسة‭ ‬التونسيون،‭ ‬بخلفية‭ ‬المثقف‭ ‬العضوي،‭ ‬مثل‭ ‬غيرهم‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬تشبهنا،‭ ‬ميتافيزيقا‭ ‬الخبز،‭ ‬بوصفه‭ ‬المادة‭ ‬التي‭ ‬بتوفيرها‭ ‬تتم‭ “‬الصالحات‭ ‬السياسية‭”. ‬والنموذج‭ ‬المرجعي‭ ‬هو‭ ‬خطاب‭ ‬بورقيبة‭ ‬سنة‭ ‬1984‭ : “‬نرجعوا‭ ‬كيف‭ ‬ما‭ ‬كنا‭”. ‬لقد‭ ‬كادت‭ ‬البلاد‭ ‬أن‭ ‬تحترق،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ماذا‭ ‬؟‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الخبز‭! ‬وعندما‭ ‬فهم‭ ‬القائد‭ ‬ذلك،‭ ‬وتراجع‭ ‬عن‭ ‬الزيادة‭ ‬في‭ ‬سعر‭ ‬الخبز،‭ ‬اختفت‭ ‬كل‭ ‬محن‭ ‬الشعب‭ ‬وكل‭ ‬مطالبه‭. ‬وهكذا‭ ‬فإن‭ ‬الشعب‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يأكل‭ ‬الخبز‭…‬لا‭ ‬غير‭!.‬

ما‭ ‬طموحات‭ ‬السياسي‭ ‬الناجح‭ ‬في‭ ‬تونس؟‭ ‬ما‭ ‬إنجازاته‭ ‬الممكنة؟‭ ‬إنها‭ ‬توفير‭ ‬الخبز‭ ‬علفة‭ ‬للتونسيين‭! ‬أي‭ ‬تماما‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬ناجحا‭ ‬فيه‭: ‬اعطهم‭ ‬الخبز‭ ‬وخذ‭ ‬منهم‭ ‬ما‭ ‬تريد‭! ‬والآن‭ ‬يمدح‭ ‬بعض‭ ‬مروجي‭ ‬الأوهام‭ ‬فترة‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬حيث‭ “‬الخبز‭ ‬مكدس‭”‬،‭ ‬وبذلك‭ ‬يكون‭ ‬موضوع‭ ‬المعركة‭ ‬السياسية‭ ‬الجارية‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬جدارة‭ ‬من‭ ‬يوفر‭ ‬الخبز‭ ‬للتونسيين‭. ‬صدقت‭ ‬يا‭ ‬متنبي‭: ‬على‭ ‬قدر‭ ‬أهل‭ ‬العزم‭ ‬تأتي‭ ‬العزائم‭!‬

ليس‭ ‬هناك‭ ‬تونسيون‭ ‬يحبون‭ ‬بشكل‭ ‬ميتافيزيقي‭ ‬أكل‭ ‬الخبز‭ ‬برغبة‭ ‬ونهم‭ ! ‬هناك‭ ‬فقط‭ ‬صناعة‭ ‬سياسية‭-‬اقتصادية‭ ‬تاريخية‭  ‬لعادة‭ ‬غذائية‭ ‬سيئة‭ ‬ذات‭ ‬أساس‭ ‬طبقي‭. ‬فالميسورون‭ ‬الذين‭ ‬عنيتهم‭ ‬لا‭ ‬يشاركون‭ ‬التونسيين‭ ‬الفقراء‭ ‬ومتوسطي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬الغذائية،‭ ‬فلا‭ ‬يأكلون‭ ‬خبزهم،‭ ‬ولا‭ ‬يأكلون‭ ‬الخبز‭ ‬بالكمية‭ ‬التي‭ ‬يأكلها‭ ‬التونسي،‭ ‬فقط‭ ‬يبيعون‭ ‬له‭ ‬العجين‭ ‬المدعم‭ ‬ليأكله‭!‬

التونسيون‭ ‬يستهلكون‭ ‬فعلا‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الخبز‭ ‬لأنه‭ ‬غذاءهم‭ ‬المتاح،‭ ‬وهذه‭ ‬صناعة‭ ‬تاريخية‭ ‬اختارت‭ ‬الطبقات‭ ‬العليا‭ ‬أن‭ ‬تدفع‭ ‬ثمنها‭ ‬مقابل‭ ‬مكانتها‭ ‬وسلطتها،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬بيدها‭ ‬لقبلت‭ ‬بدفع‭ ‬فاتورة‭ ‬الدعم،‭ ‬أولا‭ ‬لأنها‭ ‬تستفيد‭ ‬منها،‭ ‬وثانيا‭ ‬لأن‭ ‬مقابل‭ ‬توفير‭ ‬الخبز‭ ‬عدم‭ ‬مساءلتها‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬التنمية‭ ‬والفساد‭ ‬والحريات‭ ‬والمشاركة‭ ‬السياسية،‭ ‬وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬كانت‭ ‬تلقى‭ ‬الدعم‭ ‬الخارجي‭ ‬دائما‭ ‬إشفاقا‭ ‬على‭ ‬المصالح‭ ‬المشتركة‭ . ‬لكن‭ ‬التونسيين‭ ‬اليوم‭ ‬يريدون‭ ‬الحرية‭ ‬والتنمية‭ ‬والمشاركة‭ ‬السياسية‭ ‬والخبزمعا،‭ ‬وهذه‭ ‬معادلة‭ ‬لا‭ ‬تستقيم‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬السياسية‭ ‬السائدة‭.‬

لم‭ ‬أسمع‭ ‬سياسي‭ ‬واحد‭ ‬يقول‭ ‬للتونسيين‭: ‬أنا‭ ‬مجدد‭ ‬وثائر،‭ ‬مشروعي‭ ‬أنا‭ ‬ومن‭ ‬معي‭ ‬هو‭ ‬التعاون‭ ‬معكم‭ ‬لتحرير‭ ‬أنفسنا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الخدعة‭ ‬التاريخية،‭ ‬وبناء‭ ‬اقتصاد‭ ‬يسمح‭ ‬لنا‭ ‬بتغيير‭ ‬حياتنا‭ ‬وعاداتنا‭ ‬الغذائية،‭ ‬لسنا‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬البقر‭ ‬نعلف‭ ‬التبن‭-‬العجين‭! ‬وأحتاجكم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬الطموح‭. ‬

إن‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬أغلبهم‭ ‬ينظر‭ ‬أمام‭ ‬أنفه‭ ‬بمقولة‭ “‬النجاح‭ ‬السياسي‭ ‬هو‭ ‬توفير‭ ‬قوت‭ ‬الشعب‭”‬،‭ ‬كل‭ ‬البدائل‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬تتركز‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬حل‭ ‬معادلة‭ ‬توفير‭ ‬الخبز‭ ‬بلا‭ ‬حساب‭ ‬دون‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬دعم‭ ‬سعره،‭ ‬ولا‭ ‬يخطر‭ ‬بباله‭ ‬أنه‭ ‬بإمكانه‭ ‬التفكير‭ ‬خارج‭ ‬السراط‭ ‬المستقيم‭ ‬الذي‭ ‬وضعته‭ ‬قوى‭ ‬المال‭ ‬العالمية،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬غير‭ ‬واع‭ ‬بأنه‭ ‬يعمل‭ ‬مثقفا‭ ‬عضويا‭ ‬لثقافة‭ ‬سياسية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تليق‭ ‬بالتونسيين‭. ‬

ولم‭ ‬أسمع‭ ‬مستثمرين‭ ‬تونسيين‭ ‬يقولون‭ ‬بأن‭ ‬لنا‭ ‬رسالة‭ ‬اقتصادية‭ ‬عزيزة‭ ‬علينا‭ -‬مثلما‭ ‬كانت‭ ‬تقول‭ ‬البورجوازية‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬شبابها‭- ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬نطور‭ ‬اقتصادنا‭ ‬بما‭ ‬يجعلنا‭ ‬لا‭ ‬نجوع‭ ‬ولا‭ ‬نتعرى،‭ ‬وإننا‭ ‬نعمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬خلق‭ ‬شروط‭ ‬تحقيق‭ ‬نموذج‭ ‬مجتمعي‭ ‬تتوفر‭ ‬فيه‭ ‬كرامة‭ ‬الانسان‭ ‬الحديث‭. ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬بإن‭ ‬من‭ ‬شرفنا‭ ‬الحضاري‭ ‬ومن‭ ‬شرعية‭ ‬ثرواتنا‭  ‬أن‭ ‬يتنوع‭ ‬غذاء‭ ‬التونسي‭ ‬ويكبر‭ ‬طموحه‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الكريمة‭. ‬هل‭ ‬سمعتم‭ ‬يوما‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬أثرياء‭ ‬تونس‭ ‬بنى‭ ‬مسبحا‭ ‬أو‭ ‬مسرحا‭ ‬أو‭ ‬مدرسة‭ ‬لمدينة‭ ‬أو‭ ‬قرية‭ ‬وسجل‭ ‬له‭ ‬المواطنون‭ ‬اسمه‭ ‬بأحرف‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬على‭ ‬إنجازه،‭ ‬أو‭ ‬مول‭ ‬مخبر‭ ‬بحث‭ ‬جامعي‭ ‬واستثمر‭ ‬في‭ ‬منتوجاته‭ ‬التكنولوجية‭ (‬ربما‭ ‬واحد‭ ‬فقط‭)‬،‭ ‬واضعا‭ ‬بذلك‭ ‬شباب‭ ‬الجامعة‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الابتكار‭ ‬والابداع‭ ‬والتحرر‭! ‬عندما‭ ‬حدث‭ ‬الكسوف‭ ‬الشمسي‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬واشرأبت‭ ‬أعناق‭ ‬أطفالنا‭ ‬لمشاهدة‭ ‬الحدث‭ ‬الفلكي‭ ‬العظيم‭ ‬استوردنا‭ ‬نظارات‭ ‬بسيطة‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬ووقفنا‭ ‬طوابير‭ ‬أمام‭ ‬الصيدليات‭ ‬لشرائها‭…. ‬يا‭ ‬للفضيحة‭!‬

يروج‭ ‬السياسيون‭ ‬والمثقفون‭ ‬التونسيون‭ ‬اليوم‭ ‬مقولة،‭ ‬يلوكونها‭ ‬دون‭ ‬فحص‭ ‬لبنية‭ ‬علاقة‭ ‬الهزيمة‭ ‬والتبعية‭ ‬الدفينة‭ ‬التي‭ ‬بنيت‭ ‬عليها‭: ‬عندما‭ ‬يتكلمون‭ ‬عن‭ ‬موارد‭ ‬تونس‭ ‬الفلاحية‭ ‬العظيمة‭ ‬يقولون‭: “‬تونس‭ ‬مطمور‭ ‬روما‭!” ‬يا‭ ‬لجرح‭ ‬الهزيمة‭ ‬الغائر‭ ‬في‭ ‬لا‭ ‬وعينا،‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬حتى‭ ‬نعرف‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يدرسه‭ ‬لنا‭ ‬المستعمر‭. ‬لم‭ ‬يتبلور‭ ‬في‭ ‬مخيال‭ ‬أي‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أولا‭ ‬مطموة‭ ‬التونسيين‭. ‬في‭ ‬روما‭ ‬سألتني‭ ‬مديرة‭ ‬المعهد‭ ‬الإيطالي‭ ‬لدراسات‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬وإفريقيا‭)‬أغلق‭ ‬منذ‭ ‬مدة‭( ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬باحث‭ ‬شاب‭ ‬حاصل‭ ‬على‭ ‬منحة‭ ‬دراسية‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسة‭ )‬حرمتني‭ ‬منها‭ ‬الجامعة‭ ‬التونسية) :”‬ماذا‭ ‬زرتَ‭ ‬في‭ ‬روما‭ ‬من‭ ‬معالم؟‭” ‬فأجبتها‭: “‬كثير‭ ‬من‭ ‬المعالم‭ ‬العريقة،‭ ‬ومنها‭ ‬الكوليسايو،‭ ‬مضيفا‭ ‬أننا‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬كوليسايو‭ ‬جميل‭ ‬وقد‭ ‬ساعد‭ ‬المناخ‭ ‬على‭ ‬حفظه‭ ‬بشكل‭ ‬جيد‭” ‬فغمغمت‭: ” ‬هذا‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬لكم‭!”.‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬عنترة‭: ‬هل‭ ‬عرف‭ ‬السياسيون‭ ‬التونسيون‭ ‬الدار‭ ‬بعد‭ ‬توهم؟‭ ‬هل‭ ‬سيغادر‭ ‬السياسيون‭ ‬التونسيون،‭ ‬الذين‭ ‬سيبنون‭ ‬المستقبل،‭ ‬متردم‭ ‬قناعاتهم‭ ‬القديمة‭ ‬؟‭ ‬هل‭ ‬سيفكرون‭ ‬بطرق‭ ‬جديدة؟‭ ‬هل‭ ‬سيحررون‭ ‬أنفسهم‭ ‬من‭ ‬الهزيمة‭ ‬الدفينة،‭ ‬ومن‭ ‬طلب‭ ‬رضى‭ ‬القوى‭ ‬الخارجية‭ ‬عنهم‭  ‬مؤشرا‭ ‬على‭ ‬تلاميذ‭ ‬نجباء؟‭ ‬كيف‭ ‬سيحررون‭ ‬أنفسهم‭ ‬من‭ ‬رهانات‭ ‬ومكابح‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬لنفسه‭ ‬الأرباح‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الوطن؟‭ ‬هل‭ ‬سينشأ‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬السياسيين‭  ‬المقاتلين‭ ‬العنيدين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تونس‭ ‬أولا‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬المغرب‭ ‬الكبير‭ ‬ثانيا‭ ‬ببعده‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي؟‭ ‬ما‭ ‬عزمهم؟‭ ‬ما‭ ‬طموحاتهم؟‭ ‬قلت‭ ‬مرة‭ ‬لأحدهم‭ ” ‬لن‭ ‬تقنعونا‭ ‬إلا‭ ‬بأصالة‭ ‬الفكرة‭ ‬وانغراسها‭ ‬في‭ ‬نفوسنا‭ ‬وطموحاتنا‭ ‬في‭ ‬التحرر‭ ‬والتحديث‭ ‬والنهضة‭ ‬الحضارية،‭ ‬وباستقلالية‭ ‬العزيمة‭ ‬وبالطموح‭ ‬الكبير‭. ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬ليس‭ ‬عندكم‭ ‬جديد‭ ‬سوى‭ ‬طموح‭ ‬توفير‭ ‬العلف‭ ‬للتونسيين‭ ‬مقابل‭  ‬الكراسي‭.‬

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 22 اوت 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING