الشارع المغاربي – الافتتاحية/ أول‭ ‬خطوة‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬حلّ‭ ‬أي‭ ‬مشكل‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬مشكلا / بقلم: عز الدين سعيدان

الافتتاحية/ أول‭ ‬خطوة‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬حلّ‭ ‬أي‭ ‬مشكل‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬مشكلا / بقلم: عز الدين سعيدان

قسم الأخبار

30 أغسطس، 2023

الشارع المغاربي: إذا‭ ‬لم‭ ‬نعترف‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬مشكلا‭ ‬فلماذا‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬حلّ؟‭ ‬حلّ‭ ‬لماذا؟‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬التشخيص‭ ‬خاطئ‭ ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬للحل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬صحيحا؟‭ ‬منظومة‭ ‬الخبز‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬انهيار‭ ‬شبه‭ ‬كامل‭. ‬الخبز‭ ‬مفقود‭ ‬والمواطن‭ ‬يلهث‭ ‬يوميا‭ ‬لتحصيل‭ ‬خبز‭ ‬يومه‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬سبب‭ ‬هذا‭ ‬الانهيار؟‭ ‬

الأسباب‭ ‬الحقيقية‭ ‬عديدة،‭ ‬نذكر‭ ‬منها‭ :‬

‭ ‬–1‭ ‬سعر‭ ‬الخبز‭ ‬المدعّم‭ ‬لم‭ ‬يتغير‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬منذ‭ ‬40‭ ‬سنة‭ ‬بينما‭ ‬سعر‭ ‬الحبوب‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬العالمية‭ ‬تضاعف‭ ‬أربع‭ ‬مرات‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الأربعين‭ ‬سنة‭ ‬الأخيرة‭.‬

2 ‬– ‬المخابز‭ ‬تقتني‭ ‬دقيق‭ ‬الفارينة‭ ‬بسعر‭ ‬سلبي،‭ ‬نعم‭ ‬سلبي‭. ‬المخابز‭ ‬تقتني‭ ‬قنطار‭ ‬الفارينة‭ ‬من‭ ‬المطاحن‭ ‬بسعر‭ ‬22‭ ‬دينارا‭ ‬للقنطار‭ ‬الواحد‭ ‬ثم‭ ‬تصرف‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬صندوق‭ ‬الدعم‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬ميزانية‭ ‬الدولة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬دافعي‭ ‬الضرائب‭ ‬منحة‭ ‬بـ‭ ‬28‭ ‬دينارا‭ ‬لكل‭ ‬قنطار‭ ‬فارينة‭ ‬يتم‭ ‬تحويله‭ ‬إلى‭ ‬خبز‭ ‬مدعّم‭. ‬وهكذا‭ ‬يصبح‭ ‬سعر‭ ‬قنطار‭ ‬الفارينة‭ ‬سلبيا‭ (‬22‭ ‬د‭ ‬–‭ ‬28‭ ‬د‭ =  – ‬6‭ ‬دنانير‭).‬

ولكن‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬عشر‭ ‬شهرا‭ ‬لم‭ ‬تصرف‭ ‬وزارة‭ ‬المالية‭ ‬للمخابز‭ ‬منحة‭ ‬الـ‭ ‬28‭ ‬دينارا‭ ‬لكل‭ ‬قنطار‭ ‬وفارينة‭ ‬يحوّل‭ ‬إلى‭ ‬خبز‭. ‬

وهكذا‭ ‬شارف‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المخابز‭ ‬على‭ ‬الإفلاس‭ ‬ممّا‭ ‬جعل‭ ‬البعض‭ ‬منها‭ ‬يفضل‭ ‬بيع‭ ‬الفارينة‭ ‬المدعّمة‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬السوداء‭ ‬عوض‭ ‬تحويلها‭ ‬إلى‭ ‬خبز‭. ‬بينما‭ ‬فضّل‭ ‬بعضها‭ ‬الآخر‭ ‬الترفيع‭ ‬في‭ ‬سعر‭ ‬الخبز‭ ‬في‭ ‬تحد‭ ‬صارخ‭ ‬للقانون‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬خلق‭ ‬فوضى‭ ‬عارمة‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬حيوي‭ ‬وحسّاس‭ ‬مثل‭ ‬قطاع‭ ‬الخبز‭.‬

‭ ‬–‭3 ‬تم‭ ‬التخفيض‭ ‬في‭ ‬كمية‭ ‬الفارينة‭ ‬التي‭ ‬تتسلمها‭ ‬كل‭ ‬مخبزة‭ ‬أسبوعيا‭ ‬بنسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬توفر‭ ‬مادة‭ ‬القمح‭ ‬اللّين‭.‬

‭ ‬–4‭ ‬ديوان‭ ‬الحبوب‭ ‬وهو‭ ‬المتدخّل‭ ‬الرئيسي‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬الحبوب‭ ‬لم‭ ‬يتلق‭ ‬مستحقاته‭ ‬من‭ ‬صندوق‭ ‬الدعم‭ ‬وأصبح‭ ‬مكبلا‭ ‬بالديون‭. ‬ديون‭ ‬ديوان‭ ‬الحبوب‭ ‬لدى‭ ‬البنك‭ ‬الوطني‭ ‬الفلاحي‭ ‬تجاوزت‭ ‬5‭ ‬مليارت‭ ‬دينار‭!!!‬

قيل‭ ‬لنا‭ ‬إن‭ ‬السببين‭ ‬الأساسيين‭ ‬في‭ ‬أزمة‭ ‬الخبز‭ ‬هما‭ ‬الاحتكار‭ ‬ولهفة‭ ‬المواطن‭.‬

نعم‭ ‬هناك‭ ‬احتكار‭ ‬فعلا‭. ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬بروز‭ ‬ظاهرة‭ ‬الاحتكار؟‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬ظاهرة‭ ‬الاحتكار‭. ‬هل‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬احتكار‭ ‬في‭ ‬مادتي‭ ‬الفارينة‭ ‬أو‭ ‬السميد‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬مواد‭ ‬أساسية‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬السكر‭ ‬والقهوة‭ ‬والأرز‭ ‬والزيت‭ ‬النباتي‭ ‬والدواء‭ ‬وهي‭ ‬مواد‭ ‬من‭ ‬اختصاص‭ ‬المؤسسات‭ ‬العمومية‭ (‬Monopole‭) ‬منذ‭ ‬سنتين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة؟‭ ‬الجواب‭ ‬بكل‭ ‬وضوح‭ ‬لا‭. ‬ولكن‭ ‬وضع‭ ‬المالية‭ ‬العمومية‭ ‬جعل‭ ‬وزارة‭ ‬المالية‭ ‬تتخلف‭ ‬عن‭ ‬تسديد‭ ‬مستحقات‭ ‬المؤسسات‭ ‬العمومية‭ ‬من‭ ‬صندوق‭ ‬الدعم‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬العمومية‭ ‬تفقد‭ ‬ثقة‭ ‬مزوديها‭ ‬الأجانب‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬فقدت‭ ‬ثقة‭ ‬البنوك‭ ‬في‭ ‬الدّاخل‭ ‬والخارج‭.‬

وكلما‭ ‬تأخرت‭ ‬مؤسسة‭ ‬عمومية‭ ‬عن‭ ‬تزويد‭ ‬السوق‭ ‬بمادة‭ ‬ما‭ ‬وأصبحت‭ ‬تلك‭ ‬المادة‭ ‬نادرة‭ ‬أو‭ ‬مفقودة‭ ‬في‭ ‬السّوق‭ ‬أعطت‭ ‬فرصة‭ ‬للمحتكرين‭ ‬لينقضّوا‭ ‬على‭ ‬سوق‭ ‬تلك‭ ‬المادة‭ ‬قصد‭ ‬تحقيق‭ ‬مرابيح‭ ‬طائلة‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬وجيز‭. ‬وتحل‭ ‬السوق‭ ‬السوداء‭ ‬محل‭ ‬السوق‭ ‬المنظمة‭. ‬وهكذا‭ ‬تكون‭ ‬الدولة‭ ‬ومؤسساتها‭ ‬العمومية‭ ‬المتسبب‭ ‬الأصلي‭ ‬في‭ ‬ظهور‭ ‬الإحتكار‭ ‬المقيت‭ ‬والذي‭ ‬يزيد‭ ‬في‭ ‬حجم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الموازي‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الاقتصاد‭ ‬المنظم‭.‬

أما‭ ‬عن‭ ‬موضوع‭ ‬اللهفة‭ ‬فهي‭ ‬تهمة‭ ‬باطلة‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬المواطن‭ ‬التونسي‭. ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬لهفة‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬تصرف‭ ‬منطقي‭ ‬عقلاني‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬مواطن‭ ‬فقد‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬المنظومة‭ ‬وفي‭ ‬السوق‭.‬

منذ‭ ‬سنتين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬إقبال‭ ‬غير‭ ‬طبيعي‭ ‬على‭ ‬مادّة‭ ‬السكر‭ ‬مثلا‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬السكر‭ ‬كان‭ ‬متوفرا‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي‭.‬

ولكن‭ ‬لمّا‭ ‬تفقد‭ ‬مادة‭ ‬السكر‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬ولو‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬يفقد‭ ‬المواطن‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬ويغير‭ ‬من‭ ‬تصرفاته‭ ‬في‭ ‬التزود‭ ‬بتلك‭ ‬المادة‭. ‬وهذا‭ ‬التغيير‭ ‬منطقي‭ ‬وعقلاني‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬توصيفه‭ ‬بأنه‭ ‬لهفة‭.‬

السبب‭ ‬الحقيقي‭ ‬في‭ ‬انهيار‭ ‬منظومة‭ ‬الخبز

السبب‭ ‬الحقيقي‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬تزود‭ ‬تونس‭ ‬بكميات‭ ‬كافية‭ ‬من‭ ‬الحبوب‭. ‬أزمة‭ ‬المالية‭ ‬العمومية‭ ‬أزمة‭ ‬حادة‭ ‬وغير‭ ‬مسبوقة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬تونس‭ ‬منذ‭ ‬الاستقلال‭ ‬الى‭ ‬الآن‭. ‬تدهور‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاقتصادية‭ ‬منذ‭ ‬2011‭ ‬الى‭ ‬الآن‭ ‬واللّهث‭ ‬وراء‭ ‬القروض‭ ‬بشتى‭ ‬أنواعها‭ ‬مع‭ ‬غياب‭ ‬كامل‭ ‬للإصلاحات‭ ‬الضرورية‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬مفرّ‭ ‬منها‭ ‬أدى‭ ‬الى‭ : ‬

•‭ ‬ركود‭ ‬اقتصادي‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الخطورة‭. ‬الاقتصاد‭ ‬التونسي‭ ‬فقد‭ ‬وظائفه‭ ‬الثلاث‭ ‬الأساسية‭ ‬وهي‭ ‬خلق‭ ‬النمو‭ ‬وخلق‭ ‬مواطن‭ ‬الشغل‭ ‬الحقيقية‭ ‬وخلق‭ ‬الثروة‭.‬

•‭ ‬أزمة‭ ‬مالية‭ ‬عمومية‭ ‬حادة‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬عجز‭ ‬مالي‭ ‬شبه‭ ‬كامل‭ ‬للمؤسسات‭ ‬العمومية‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬توفير‭ ‬المواد‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬السوق‭.‬

الوضع‭ ‬الحقيقي‭ ‬للحبوب‭ ‬في‭ ‬تونس

المعطيات‭ ‬الموضوعية‭ ‬الثابتة‭ ‬لقطاع‭ ‬الحبوب‭ ‬بالنسبة‭ ‬للاثني‭ ‬عشرة‭ ‬أشهر‭ ‬القادمة‭ ‬أي‭ ‬حتى‭ ‬موسم‭ ‬حصاد‭ ‬الحبوب‭ ‬لسنة‭ ‬2024‭ ‬تبدو‭ ‬بوضوح‭ ‬كما‭ ‬يلي‭ :‬

‭+ ‬صابة‭ ‬الحبوب‭ ‬لموسم‭ ‬2023‭ ‬هي‭ ‬2‭,‬7‭ ‬مليون‭ ‬قنطار‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬لحاجاتنا‭ ‬من‭ ‬البذور‭ ‬للموسم‭ ‬القادم‭.‬

‭+ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬توريد‭ ‬100‭ ‬٪‭ ‬من‭ ‬حاجاتها‭ ‬من‭ ‬الحبوب‭ ‬بالنسبة‭ ‬للإثني‭ ‬عشرة‭ ‬شهر‭ ‬القادمة‭ ‬والتي‭ ‬تقدر‭ ‬بـ‭ ‬34‭ ‬مليون‭ ‬قنطار‭.‬

‭+ ‬حسب‭ ‬الأسعار‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬العالمية‭ ‬للحبوب‭ ‬تحتاج‭ ‬تونس‭ ‬الى‭ ‬4‭ ‬مليارات‭ ‬دينار‭ (‬بالعملات‭ ‬الأجنبية‭ ‬طبعا‭) ‬لتأمين‭ ‬تزويد‭ ‬منتظم‭ ‬لسوقها‭ ‬الداخلية‭ ‬بالحبوب‭ ‬وتوفير‭ ‬عادي‭ ‬لمادة‭ ‬الخبز‭.‬

هذه‭ ‬المعطيات‭ ‬تعني‭ ‬بوضوح‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الاعتراف‭ ‬أولا‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬مشكلا‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬تشخيصه‭ ‬بصفة‭ ‬دقيقة‭ ‬ثم‭ ‬المرور‭ ‬إلى‭ ‬إعداد‭ ‬خطة‭ ‬واضحة‭ ‬لمجابهة‭ ‬الوضع‭ ‬بإجراءات‭ ‬مجدية‭ ‬وفعالة‭. ‬أمّا‭ ‬إذا‭ ‬واصلنا‭ ‬في‭ ‬تجاهل‭ ‬كامل‭ ‬لأصل‭ ‬المشكل‭ ‬واعتماد‭ ‬تبريرات‭ ‬خاطئة‭ ‬مثل‭ ‬الاحتكار‭ ‬واللهفة‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬للوضع‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يزداد‭ ‬تعقيدا‭.‬

‭ ‬حذار‭.‬

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 29 اوت 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING