الشارع المغاربي: قرر “البنك المركزي الياباني مُؤخرا)نقلا عن وكالة رويتر( في حركة وُصفت بغير مُفاجئة، أن يُبقي أسعار الفائدة مُنخفضة على الرغم من التضخم”. فهو بذلك وخلافا للمؤسسات النقدية الأخرى)الأمريكية والإنكليزية خاصة ( اختار اتباع سياسة “مرنة” تتمثل في أسعار الفائدة المنخفضة سعيا لشراء الأصول بقيمة مُيسّرة. حيث حدد نسبة الفائدة المديرية على المدى القصير سلبية في حدود %0,1- رغم ارتفاع نسبة التضخم إلى %3,1 حاليا.
هذا القرار ينطلق من تحليل ذاتي يخدم الأهداف الكبرى للاقتصاد الياباني على المدى القصير والمتوسط. حيث أكد أنه “في سياق المخاطر العالية للغاية المحيطة بالاقتصاد والأسواق المالية في اليابان كما هو الحال في بقية العالم، يعتزم بنك اليابان مواصلة “التيسير النقدي” “بتأني”، مع الاستجابة “بمرونة” للتطورات في النشاط الاقتصادي والأسعار وتقلبات الأوضاع المالية.”
هذا المثال يبين بوضوح أن الجدل حول دور البنك المركزي في تونس لا ينبغي أن ينحصر بطريقة “دغمائية” في مسألة القانون الأساسي الحالي فقط رغم أهميته القصوى وضرورة سحبه. وإنما الأمر يتعلق بالدرجة الأولى في جدوى القرارات التي يتم اتخاذها عبر الترفيع في نسبة الفائدة المديرية بطريقة مُتحجرة آلية ومُشطّة. حيث تبين بالنتائج أن هذا الدور لا يتلائم مع اقتصاد وطني في حالة ركود شبه تام منذ أكثر من عشر سنوات. والحال أننا في أمس الحاجة للاستثمار الداخلي. زيادة على انهيار تام لقيمة العملة الوطنية في بلد لم يعد ينتج ويعتمد على التوريد المفرط والعشوائي وفي وضع مديونية خارجية متسارعة تمثل أكثر من %63 من المديونية العمومية حاليا.
ولمزيد التوضيح فإن التعريف المُعتمد دوليا يعتبر البنك المركزي “مؤسسة مُكلّفة من قبل الدولة باتخاذ قرار اعتماد السياسة النقدية عبر تطبيق كل أو جزء من الأدوار الثلاثة التالية:
• ضمان إصدار العملة الورقية وبالتالي المساهمة في تحديد أسعار الفائدة.
• الإشراف على عمل الأسواق المالية، وضمان الامتثال للوائح المخاطر للمؤسسات المالية (وخاصة بنوك الودائع).
• لعب دور مقرض الملاذ الأخير في حالة حدوث أزمة وطنية(وهو واقع الحال في تونس)
كما نص التعريف بأن البنوك المركزية لا تتمتع بأدوار متطابقة تماما في جميع البلدان. من ذلك “يمكن أن تكون مستقلة عن السلطة السياسية، كما هو الحال مع البنك المركزي الأوروبي، أو جزئياً، مثل الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة حيث تتقاسم فيه المسؤولية.
كما ” تختلف أهداف السياسة النقدية للبنوك المركزية من خلال قوانينها الأساسية. حيث يمكن أن تشمل، بالإضافة إلى استقرار الأسعار، أهدافًا أخرى، مثل الحد من البطالة وتشجيع النمو الاقتصادي. وبالتالي فإن البنك المركزي الأوروبي احتفظ “بهدف رئيسي وحيد وهو الحفاظ على استقرار الأسعار. وهو توجه ليبرالي مُفرط فرضته ألمانيا. في حين أن بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة لديه ثلاثة أهداف: ”العمل على توفير الحد الأقصى من فرص التشغيل، وضمان أسعار مستقرة، وأسعار فائدة منخفضة طويلة الأجل لتشجيع الاستثمار والنمو”.
من هذا المنطلق يتبين بوضوح أن القانون الأساسي عدد 35 الذي صادق عليه مجلس نواب الشعب في أفريل 2016 احتفظ شططا بهدف وحيد وهو استقرار الأسعار أسوة بالبنك المركزي الأوروبي. أكيد بضغط من الاتحاد الأوروبي وفي غياب تام لوعي إن لم نقل بتواطئ حتى من أعضاء مجلس الشعب والسلطة التنفيذية آنذاك بخطورة هذا القانون.
خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار غياب المخططات التنموية وتقلص كبير في الاستثمار المحلي وركود النمو الاقتصادي وما انجر عنه من استفحال نسبة البطالة والهجرة السرية. حيث ذكر التقرير السنوي للبنك المركزي لسنة 2021 أن القطاع الفلاحي لا يتحصل إلا على 3,2 مليار دينار من مجموع 77,6 مليار دينار من القروض الممنوحة للقطاعات الاقتصادية. والحال أن مساهمة القطاع الفلاحي في الناتج المحلي الإجمالي تتراوح بين %8 و%10. كما بين أن “إحداث الشغل في سنة 2018 كان في حدود 28 ألف موطن فقط مقابل 58,8 ألف سنة 2019 وسلبي سنة 2020 في حدود 133- ألف، نتيجة جائحة كوفيد-19. وهي في كل الأحوال أرقام دون المبتغى بالنظر إلى عدد الوافدين على سوق الشغل سنويا وبالنظر إلى المخزون المرتفع من البطالة.
معادلة غير قابلة للحل يسردها البنك المركزي في تقاريره السنوية عرضيا ويتنصل من مسؤوليتها بقانون أساسي مُجرّد لا يتلاءم مع واقع البلاد. خاصة أنه في نفس الوقت يُرفّع في نسبة الفائدة المديرية في حدود %8 ويُصنّف المؤسسات المتعثرة مما يُعتبر صدّ أبواب الاستثمار والنهوض بما تبقى من المؤسسات العمومية والخاصة.
في غياب دراسات مُعمّقة وجديّة حول هذا الموضوع المحوري، يمكن اعتبار الزيارات المتتالية التي قام بها رئيس الجمهورية مؤخرا لإحدى المؤسسات العمومية البنكية بما فيها زيارة البنك المركزي فرصة للخوض في دور المؤسسات الوطنية. خاصة وأنه تساءل بطريقة مباشرة حول جدوى اللجوء إلى البنوك التجارية لإقراض الخزينة العمومية بنسبة فائدة مشطة. ولكنه لم يتلق أي رد من البنك المركزي؟
من الواضح أنه بمقتضى القانون الأساسي المتحجر الذي يتعامل به البنك المركزي التونسي حاليا والذي حدد له مهمة وحيدة ضيق عبرها الخناق لكي يتنازل عن دوره في الدفاع عن قيمة العملة الوطنية وهي مسألة محورية وليتنازل أيضا عن الدفاع عن المؤسسات العمومية والخاصة. وهو ما تجلى بوضوح من مضمون رسائل النوايا التي أُرسلت سنة 2013 وسنة 2016 من طرف محافظ البنك المركزي ووزراء المالية آنذاك إلى صندوق النقد الدولي بإيعاز من الاتحاد الأوروبي.
أما عن دور البنوك العمومية وعددها ثلاثة، والتي كثيرا ما تتعرض للشيطنة مؤخرا، نُذكّر أن تقرير البنك المركزي لسنة 2021 بيّن أنها ساهمت في تمويل الاقتصاد الوطني بواقع قائم قدره 31,3 مليار دينار مما يمثل %40,3 من مجموع 77,6 مليار دينار قروض للقطاعات الاقتصادية. مما يجعلنا نتساءل أين دور البنوك الخاصة وعددها عشرون بنكا كثيرا ما تتباهى بأرباح قياسية سنويا؟
أمام هذا الوضع الذي تراجع فيه دور المؤسسات الوطنية بطريقة خطيرة، مطلوب من وزارة الاقتصاد والتخطيط التحرك بسرعة لوضع مُخطّط تنموي يُحدّد أولوية القطاعات المُنتجة الواجب تطويرها وتحديد المبالغ المالية التي يجب رصدها حسب احتياجات كل قطاع من طرف كافة البنوك وبنسبة موحدة.
كما يرجى إعادة النظر في القانون الأساسي للبنك المركزي ليشمل مهام تعهده بالحرص على التشغيل عبر تشجيع الاستثمار الداخلي لدفع النمو أسوة بمهام الفدرالي الأمريكي وهو اقل ما نقول فيه، وسحب الفصل الذي منع عليه إقراض الخزينة العمومية مباشرة بطرق ميسرة واسترجاع دور البنوك في تمويل الاقتصاد أساسا.
كما يرجى أيضا من البنك المركزي تطبيق النشرية السادسة لدليل ميزان الدفوعات الصادر عن صندوق النقد الدولي منذ سنة 2009 طبقا لقانون نظام المحاسبة العمومية الصادر عن الأمم المتحدة سنة 2008. المصادق عليه دوليا بما فيها تونس والذي ألغى احتساب المبادلات التجارية للشركات غير المقيمة والمصدرة كليا التي تبقى ملكيتها لغير المقيمين والتي اعتمدت دوليا منذ سنة 2010 ولا تطبق في تونس إلى اليوم.
هذه الإجراءات قابلة للتنفيذ بسرعة وتُعتبر محرك أساسي لدفع النمو والتشغيل سعيا لإنقاذ البلاد من الركود والتخبط.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 26 سبتمبر 2023