الشارع المغاربي – حاورتها عواطف البلدي : هي الباحثة والمختصّة في الفكر والنقد عُرفت بتجديدها وبإضافاتها .. كانت انطلاقتها التي مثّلت حدثا ومنهجا سارت عليه ولا تزال، بأطروحتها “في الإئتلاف والإختلاف” ولحقتها في ما بعد كتب قيّمة على غرار ” حفريات في الخطاب الخلدوني: الأصول السلفية ووهم الحداثة العربيّة” و”زعامة المرأة في الإسلام المبكّر بين الخطاب العالم والخطاب الشعبي”.. أجمع كل من حولها من المفكّرين والباحثين على أنها رائدة في مجالها وأنها باحثة مجتهدة ومميّزة .. “الشارع المغاربي” التقى الدكتورة ناجية الوريمّي بوعجيلة وخاض معها في مسائل على غاية من الأهمية كـ”التراث” و”الهويّة” و”التسامح” و”الإختلاف” و”الخطاب الديني السائد والمهمّش”… وفي خبايا “ناجية” الانسانة والمواطِنة.
المحور الأول:التراث . الهوية. الخصوصية
صرحّت في حوار سابق أن كل حداثة تنطلق من ماضيها، كيف يمكن إقامة جسور تواصل مع التراث؟
التراث مكوّن ثابت في هويّة كلّ مجتمع، فهو يستمرّ فينا كما تستمرّ الطفولة في وعي الإنسان الفرد، ولا علاقة للاعتراف به وبإمكان استثمارِ الإيجابيِّ والإنسانيِّ فيه بالنزعة الماضويّة، وإنّما هو من باب البحث عن مقوّمات الخصوصيّ الذي لا يتناقض ولا يلغي الكونيّ المشترك، بل ربّما يرتقي إلى مستوى إثرائه. ولننظر إلى آخر التعريفات التي قدّمها علماء الاجتماع والفلاسفة للحداثة: إنّها ليست القطع مع الماضي، بل هي القطع مع اعتباره نموذجا يحتذى به ويوجّه اختيارات الآتي. والحداثة في قيامها على مبدأ التعامل النقدي البنّاء مع الماضي وعلى مبدأ التغيير والتجديد -في تفاعل مع المشترك الإنسانيّ- تتجذّر في واقعها وتكون أقدر على المساهمة في هذا المشترك. وهي اليوم في كلّ المجتمعات العربيّة –مع مراعاة خصوصيّةٍ ما للمجتمع التونسيّ- لا تكاد تتجاوز السطح، فهي غائبة عن عمق التنظيم الاجتماعي والسياسي وعن النسق الفكريّ العامّ، وتتجاور بشكل غريب وعقيم مع مخلّفات ماضويّة اكتسبت صفة الدوام رغم نشازها عن قيم العصر.
ولكنّك تقولين أيضا إن الفكر العربي المعاصر يعاني من أزمة إيديولوجية جعلته يبحث عن “حداثة خاصّة” وهو ما وسَمْتِه بالأوهام الحداثية كالعودة وتوظيف الفكر الخلدوني.. لو تشرحين لنا الفكرة؟
نعم الفكر العربي يعي تماما أنّه طرف سلبيّ في الحداثة الكونيّة اليوم، ووجد في فكرة المؤشّرات العربيّة لحداثة خاصّة انطلقت مبكّرا وقبل الحداثة الغربيّة، مخرجا لأزمة وعيه بالعقم الذي أصيب به منذ عصور الانحطاط. والإشكال ليس فقط في هذا الاستنجاد بإنجاز ماض لمواجهة حاضر عصيّ على الامتلاك، بل في التشخيص الخاطئ لما عُدّ إنجازا فكريّا تحديثيّا. فلحظات التحديث موجودة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، ولا يمكن أن ننفيها عنه، لكنّ فكر ابن خلدون لا ينتمي إليها بأيّ شكل من الأشكال.إنّه وعلى العكس ممّا شاع عنه تماما، أوضح خطاب نجح في أن يُنشئ تنظيما محكما لما استقرّ من ثوابت الفكر المنتصر تاريخيّا وهو الفكر السنّي المحافظ والأرثودوكسي (بمعنى الرسميّ والرافض لأيّ اختلاف). وقد قمت بتحليل خطاب ابن خلدون انطلاقا من خصائصه اللغوية وبنيته الدلالية العامّة، وانطلاقا من سياقه التاريخيّ، وبيّنت نشاز هذا الخطاب عن شروط التحديث التي يتغنّى بها الفكر العربي المعاصر ومن بينها العقلانية والديمقراطيّة وعدم الارتهان بالماضي. إنّه خطاب يسير في اتّجاه معاكس لهذه الشروط تماما. والخطير أنّ ربطه بالحداثة العربيّة لن يفعل إلّا أن يصادر هذه الحداثة من وجهين: الأوّل أنّه ينقض شروطها من خلال تحامله على المرجعيّة العقليّة وإعلاء السلف في مفهوم موسّع يكاد يكون خاصّا به وتبرير الاستبداد السياسيّ. والثاني أنّه يسدل حجابا كثيفا على الخطابات التي ردّ عليها وأسّس على أنقاضها وهي فعلا خطابات عقلانيّة يمكن أن نقيم معها جسور تواصل اليوم، مثل الخطاب الاعتزالي والخطاب الفلسفيّ…
هل سقط الفكر العربي المعاصر في فخّ القراءات الإيديولوجية والإسقاطات؟
هذا أكثر ما فعل الفكر العربي المعاصر في تعامله مع المدوّنة التراثيّة، لقد اعتبرها ركاما من النصوص المتفرقة والقابلة للتوظيف في الاتّجاه الذي يريده كلّ قارئ أو كلّ تيّار، دون احترام شروط القراءة العلميّة التي تتأسس على الخصائص البنيويّة والدلاليّة للنصّ منظورا إليها في علاقتها بالسياق المرجعيّ. ولننظر إلى الكمّ الهائل والمتنافر من قراءات النصّ الخلدونيّ، فكثرتها المربكة والتنافر الحادّ في توجّهاتها ليسا متأتيين من طبيعة النصّ بل من الإسقاطات المتنافرة التي تمارسها الذوات القارئة عليه.
إلى أيّ حدّ وقعنا في “سوء الفهم” أو التأويل غير المبرّر لنصوصنا التأسيسية وغير التأسيسية؟
أنا أميّز في النصوص التأسيسيّة بين نصّ القرآن الذي دوّن منذ فترة مبكّرة، رغم ما صاحب عمليّة تدوينه وجمعه من مشاكل يعلمها الكثير، وبين غيره من النصوص التي لم تدوّن إلّا في فترة متأخّرة، بما فيها نصّ الحديث النبويّ وكامل التراث الديني المنتَج حوله. ومشكلتنا اليوم ليست مع النصّ التأسيسيّ لأنّ فعل القراءة والتأويل باستحضار السياقات التاريخيّة أو ما يسمّى بأسباب النزول كفيل بالتنبيه إلى مقاصده الكبرى، لكنّ مشكلتنا مع تراث فقهيّ بالأساس تضخّم وادّعى تمثيل الحقيقة والتعالي على التاريخ وهو التراث الذي لا نزال نرزح تحت وطأته رغم الخطوات التي خطوناها في طريق التحديث الاجتماعي والقانونيّ، بل إنّ التشبّث المَرَضِيّ بما عدّ أحكاما شرعيّة، وظاهرة العنف المستشري، والثبات على رفض الآخر المختلف، وغيرها من السلوكات المنافية لقيم العصر، مبرّرة بهذا التراث الفقهيّ.
انتقدت بشدّة كتاب هالة الوردي “أيام محمّد الأخيرة” واعتبرته عملا بلا منهج ومليء بالتناقضات الداخلية.. هل كان ذلك بسبب “سوء الفهم” الذي تقصدين؟
لا جدال اليوم في ضرورة احترام حريّة التفكير والرأي، أيّا كانت الآراء المعبّر عنها أو المواقف المتّخذة. فلكلّ باحث أو مفكّر الحقّ في أن يعبّر عن تصوّره، لأنّ زمن المواضيع المحرّمة أو الممنوعة يجب أن يولّي إلى غير رجعة. لكنّ حريّة الرأي تقتضي وعيا بضرورة الالتزام بالقراءة العلميّة القائمة على الاستدلال والبعيدة عن الاستفزاز. وكتاب الأستاذة هالة الوردي يعيدنا إلى طريقة بائدة في القراءة وهي تلك التي تجمّع المقاطع المتنافرة في النصوص المذهبيّة وتسلّم بصحّة ما جاء فيها دون أيّ تفكيك لأبنيتها وكشف عن استراتيجيّاتها الخطابيّة، ودون البحث في ظروف إنتاجها ومراميها الإيديولوجيّة. لكن أعود وأقول إنّ من حقّ أيّ باحث أن يقول ما يريد ويجب أن ندافع عنه، لكن من حقّ أيّ قارئ أن يناقش علميّا هذا القول.
في إعادة قراءة ومراجعة بعض المسلّمات شكّك الباحث المغربي رشيد أيلال في “صحيح البخاري” وأشرت أنت إلى أن حادثة الإسراء والمعراج كانت مجرّد حلم للنبيّ.. هل من توضيح؟
أكبر مشكلة يعاني منها الفكر العربي هي عزوفه عن المراجعات النقديّة الجريئة اللازمة لتمثّل تاريخيّ للتراث.فالنزعة التسليميّة توقع في إعادة إنتاج لما عدّ حقائق مطلقة والحال أنّه لا يعدو في الأصل أن يكون وجهة نظر أنتجتها ذاتٌ مفكرة منخرطة في ظرف تاريخيّ ما. فضلا عن ذلك تؤدّي إعادة إنتاج المسلّمات إلى استمرار معطيات الخطاب السائد، وتهميش معطيات أخرى تحفز على المراجعة وإعمال العقل. فمسألة الإسراء والمعراج مثلا، شاعت مثلما أراد لها الخطاب الرسميّ أن تشيع، لكنّ التنقيب عن المهمّش في المصادر، وإخضاع الخطاب السائد للحفر والتفكيك، يكشفان عن وجود آراء حَريّة بالاعتبار ومفادها أنّ الإسراء حدث في المنام وليس في اليقظة، هي آراء مقرّبين من الرسول مثل عائشة وأمّ هاني ومعاوية، وآراء علماء مثل ابن إسحاق وابن هشام..
المحور الثاني: صدام الأصوليات وخطابات التسامح والاختلاف
كيف يمكن أن نقنع المسلم المعاصر اليوم بنسبية الحقيقة في نصوصه التأسيسية وخاصّة النص الأوّل المقدّس؟
هناك نصّ مقدّس وهو القرآن، أمّا البقيّة ورغم ما أشيع عن قُدسيتها فهي ليست كذلك. إنّها نصوص منتجة في سياقات تاريخيّة معلومة وتخضع لما تخضع له سائر النصوص من تحليل ونقد وتفكيك في سبيل تبيّن نوعيّة انخراطها في سياقيها الفكريّ والتاريخيّ. هذا التصوّر الألسنيّ والتاريخيّ للخطاب، منظورا إليه ضمن تنمية الحسّ النقدي لدى الناشئة في اكتساب المعارف، هو الذي ينبغي أن يطغى على ما تقدّمه المؤسّسة التربويّة والمؤسسّات الإعلاميّة والمؤسّسات الثقافيّة عامّة.
كيف السبيل للخروج من هيمنة الأصوليات اليوم وسيادة مناخات الصّدام والعنف والتشدد الديني والمذهبي؟
التشدّد والتزمّت الدينيّان هما الوجه الآخر للمجتمع المأزوم، فكلّما كان المجتمع يعيش اضطرابا متعدّد المستويات كثرت فيه النفوس الموتورة التي تنفر من واقعها وتدينه وترسم له حلولا أقلّ ما يقال عنها أنّها وهميّة ولا علاقة لها بالواقع.فالسبيل إلى الخروج من هيمنة الأصوليّات هو -أوّلا- القضاء على”الماء العكر” الذي تنتعش فيه، وهو –ثانيا- العمل على نقل الوعي الدينيّ من الارتباط بالشأن العامّ إلى الارتباط بالشأن الخاصّ.فهذا هو أنجع طريق إلى ترسيخ قيم التسامح وقبول الآخر المختلف في إطار قيم المواطنة الجامعة. لاحِظي سيّدتي الكريمة أنّ كلّ التيّارات الأصوليّة لها ذات الهدف وهو فرض أسلوب عيش واحد على الجميع.
المحور الثالث: في الاصلاح وشروط النهضة
تدعين إلى إصلاح فكري لتوفير شرط من الشروط الأساسية للنهضة وتجعلين إعادة قراءة النص المقدّس وفق مناهج تحليل الخطاب المعاصرة شرطا أوّليا .. هل من توضيح أو أمثلة عن ذلك؟
لا يمكن أن نتحدّث عن نهضة والعقل العربي مكبّل بقيود تمنع التفكير الحرّ تحت مسمّى حماية المقدّسات الدينيّة. هذه العبارة فضفاضة وتوفّر غطاءً لبعث محاكم تفتيش تتربّص بكلّ فعل نقديّ معرفيّ يمكن أن يساهم في تحرير العقل العربي.ولا بدّ هنا من التنبيه إلى حقيقتين: الأولى أنّنا لم ننجح في تأسيس حداثة عربيّة، والثانية أنّنا لم ننخرط بشكل إيجابيّ فاعل في الحداثة الكونيّة.. ومن أهمّ أسباب هذا الفشل التحديثيّ في المجتمع العربيّ عدم قيام الفكر العربي بنقد التراث وتشريحه، في سبيل تخليص العقل من سلطة الماضي، وتوفير الظروف الملائمة للإبداع والإضافة. وسأقدّم مثالا أساسيّا يتعلّق بأنظمة التشريع العربيّة. إنّها أنظمة مستمدّة في جوانبها الاجتماعيّة من تراث فقهيّ ضخم نجح في الاستمرار لأنّ منتجيه برّروه بإعرابهم عن إرادة الله. وهذا تراث صلُح في فترة ماضية، ولكنّه اليوم يتنافى ومقتضيات التحديث. فضلا عن ذلك هو نتاج آراء واجتهادات بشريّة مبرّرة بقراءات معيّنة للنصّ. ولنقفْ قليلا عند مؤسّس علم أصول الفقه -أو لنقل فلسفة التشريع- في الفكر الإسلامي، وهو الشافعي. هذا الرجل هو صاحب ما أصبح لاحقا قاعدة شائعة وملزمة وهي: “لا اجتهاد مع وجود النصّ”. إنّه في صياغته لهذه القاعدة لا يعدو أن يكون طرفا في صراع فكريّ سياسيّ حكم القرن الثاني للهجرة، وانتصر فيه هو لوجهة نظر السلطتين السياسيّة والدينيّة ضدّ من سمّوا بأصحاب الرأي أو أصحاب العقل. فموقفه التشريعيّ إيديولوجيّ في الأصل، وضعيف العلاقة بالقرآن رغم المجهود التأويليّ الذي بذله.وقد حلّلتُ خطابه في أكثر من كتاب، وبيّنت أنّه كان السبب في طمْر مواقف وتجارب تشريعيّة ذات أساس عقليّ، يمكن لنا اليوم أن نقيم جسور تواصل معها. وأعني خاصّة تجربة عمر بن الخطّاب الذي اجتهد مع وجود النصّ وألغى أحكاما صريحة واردة في القرآن، مراعاةً للمصلحة العامّة ولتغيّر الظروف؛ وأعني أيضا مواقف تشريعيّة جريئة لأبي حنيفة الفقيه والمتكلّم الذي شنّ عليه المحدّثون حربا شعواء بسبب مواقفه المخالفة لهم.
كيف تقرئين محاولات الراحل محمد الطالبي وهشام جعيّط ويوسف الصدّيق وعبد المجيد الشرفي؟
هي بمثابة أحجار رُميت في بركة مياه راكدة فأحدثت فيها دوائر ما فتئت تتّسع. هي محاولات ليست متطابقة في أطروحاتها، لكنّها تلتقي في استراتيجيا فكريّة واحدة وهي عقلنة المعرفة الدينيّة وقطع السبيل الفكريّ أمام حاملي المشاريع الدينيّة الدكتاتوريّة. وواجب علينا اليوم دعم أعمالهم بتوسيعها وتطويرها.
المحور الرابع: بنية الخطاب الديني السائد والمهمّش
نعلم السائد بحضوره الطاغي ونسأل عن ملامح المهمّش في الخطاب الديني اليوم… (هل من أمثلة)؟
الأمثلة كثيرة جدّا، سأذكر لك منها عددا في شكل ثنائيّات مختصرة، ويمكن أن تجدي تفاصيلها المعرفيّة في كتبي:السائد هو قداسة الفترة المرجعيّة بكلّ مكوّناتها/ المهمّش هو البشريّ التاريخيّ فيها؛ السائد هو أنّ التشريع في الماضي دينيّ محض/ المهمّش هو أنّ التشريع قام أيضا على العقل والمصلحة ومنذ الفترة الراشدة؛ السائد هو أنّ موسوعات الحديث النبوي مطلقة الصحّة/ المهمّش هو نقد القدامى هذه الموسوعات وحُجّيّة الحديث في التشريع؛ السائد هو أنّ الأزمات التي مرّ بها المجتمع الإسلامي هي من تدبير المنافقين من غير المسلمين ومن غير العرب/ المهمّش هو أن هذه الأزمات هي من فعل المسلمين أنفسهم نظرا إلى تباين مصالحهم؛ السائد هو أنّ المذهب المتّبع عنوان الحقيقة الدينيّة/ المهمّش هو أن هذا المذهب نتاج صراع سياسيّ اجتماعي لم يكن الدين فيه إلّا مبرّرا؛ السائد هو أنّ المرأة ناقصة عقلا ودينا، وإذا تولّت أمر قوم لم يفلحوا/ المهمّش هو أنّها وفي المجتمعات الحربيّة القديمة صاحبة أدوار قياديّة لا يستهان بها، وأنّ الأحاديث المقلّلة من شأنها هي من وضع سلطة سياسيّة ودينيّة ذكوريّة… إلى غير ذلك من الأمثلة التي يضيق المجال عن تتبّعها.
لك موقف خاص من مؤسسة الأزهر التي تعتبرينها مؤسسة تعيد انتاج مناخات التشدد والتعصّب والصدام المذهبي…
كلّ مؤسّسة دينيّة تدافع بطبيعتها وبطبيعة الوظيفة الموكولة إليها عن تيّار معيّن وعن رؤية محدّدة. ومؤسّسة الأزهر تعيد إنتاج التراث السنّيّ الذي تشكّل على مرّ العصور معتبرة إيّاه حقائق لا تقبل الجدال. وهي تواصل منطق التفاضل بين الفرق وبين الأديان بذات المنطلقات التقليديّة. ثمّ لا ننسى أنّ الكثير من الدعاة المتزمّتين، والكثير من المنتمين إلى تيّارات متشدّدة هم من خريجيّ هذه المؤسّسة، وأحيل هنا إلى كتاب ترجمته إلى اللغة العربيّة وهو لمليكة الزغل: “حرّاس الإسلام: علماء الأزهر في مصر المعاصرة”.
اعتبرتِ التقريب بين الأديان والتقريب بين المذاهب “خرافة” ووهما…لو توضحين ذلك؟
اعتبرت هذا التقريب خرافة، لأنّ له منطلقا تقليديّا: “أنا أعترف بك صاحب دين أو مذهب مختلف، ولكنّي ثابت على اعتبارك مخطئا، وتكرّمًا منّي ومنّةً أقبل التعامل معك أيّها المخطئ”. وهذا هو المفهوم القديم للتسامح وهو غير ناجع. بينما المطلوب ليس التقريب لأنّه لا طائل من ورائه، بل المطلوب تغيير آليّات تفكير العقل المؤمن: لكلّ دين أو لكلّ مذهب مشروعيّة لأنّه رافد من الروافد المتعدّدة المفضية إلى الحقيقة، وعقيدة الآخر هي جزء من حريّة الضمير المكفولة للجميع.
يرى بعض الراصدين أن “الإسلام السياسي” كعَرَض من أعراض أزمة الخطاب الديني السائد قد وصل إلى آخر نفقه.. هل توافقين على هذا التشخيص؟
سيصل إلى آخر نفقه عندما تتحقّق حداثة عربيّة حقيقيّة في السياسة وفي الاجتماع وفي الثقافة، وتستقرّ الأوضاع ويسود التوازن على جميع الأصعدة وتصبح قيم التسامح والاعتراف بالآخر المختلف وبحريّة ضميره القيمَ الموجّهة للسلوك الفردي والجماعي.
المحور الخامس: د. وريمي، الباحثة والمواطنة والانسان:
ينتقد بعض الحداثيين مبادرة الباجي قائد السبسي في مسألة المساواة في الميراث باعتبارها مدخلا للازدواجية في التشريع؟
هذه المبادرة هي لحظة هامّة في تاريخ التحديث الاجتماعي والقانونيّ في تونس، وهي تفوّت على نفسها شرف هذه اللحظة، بإبقائها على ما من شأنه أن يمسّ بمدنيّة الدولة التي أكّدها الدستور..
ولكن يمكن أن تكون الوصيّة أيضا حلّا ومدخلا للمساواة..
في هذه الازدواجيّة ما سيثير مشاكل عائليّة واجتماعيّة خطيرة: في ذات الدولة وفي ذات المجتمع سنجد تشريعين في ذات المسألة..
كيف تقرئين المشهد السياسي الراهن؟
نحن اليوم نموذج من المجتمعات التي تعاني من مفهوم الديمقراطيّة التمثيليّة Représentative وهو مفهوم أصبح محلّ نقد من قبل العديد من الفلاسفة والمفكّرين، لأنّ مسألة “العدد الأكثر هو الذي يحدّد الخيارات الكبرى للمجتمع” مسألة خطيرة طرحت مشاكل حادّة في المجتمعات المتقدّمة، فما بالك بالمجتمعات التي تعاني من الجهل ومحدوديّة المستوى التعليمي والثقافي. فإذا كانت الأغلبيّة محدودة الثقافة السياسيّة والدينيّة وغيرها، هل يترك لها زمام تحديد الاختيارات الراهنة والمستقبليّة؟ المطروح اليوم أن نعمل على الاستفادة من مفهوم الديمقراطيّة التداوليّة La démocratie délibérative التيتقوم على المشاركة الفاعلة لأعضاء المجموعة الوطنيّة، بطريقة يكون فيها القرار للرأي الأصلح والأنفع للجميع، وليس للعدد الأكثر..
قالوا عنها
عبد المجيد الشرفي: ناجية الوريمّي عالمة اعتقد أنها ساهمت بما قدمت إلى حد الآن مساهمات كبيرة في نفض الغبار عّما كان مخفيا ومهمّشا (رأي مأخوذ من حوار أجراه الشارع المغاربي في عدده 62 مع الدكتور عبد المجيد الشرفي – جانفي 2017 ).
حياة عمامو: باحثة مجتهدة ومجدّدة ولكن تجديدها يثير النقاش
حليمة ونّادة :elle a l’âme d’une vraie chercheure, compétente mais modeste et est une agréable et sincère amie.
أم الزّين بن شيخة: باحثة متميزة بجديتها ورصانتها الأكاديمية..تستحق التقدير
نادر حمامي: هي باحثة أكاديمية بامتياز؛ لها مشروعها البحثي والمعرفي؛ متمكنة منهجيا؛ مؤمنة بحق الاختلاف الذي بحثت فيه.
عن مؤمنون بلا حدود
الدكتورة ناجية الوريمّي بوعجيلة أستاذة الحضارة بالجامعة التونسية ومهتمّة بقراءة التراث العربي الاسلامي ومنهج مقاربته. من أهم مؤلفاتها المنشورة أطروحتها لنيل شهادة الدكتورا “في الائتلاف والاختلاف”، “ثنائية السّائد والمهمّش في الفكر الإسلامي القديم” (2004) و”الإسلام الخارجي” (2006) و”حفريات في الخطاب الخلدوني: الأصول السلفية ووهم الحداثة العربيّة” (2008 و2015) و”الاختلاف وسياسة التسامح، بحث في الاشكاليات الثقافية والسياسية في سياسات الرشيد والبرامكة والمأمون” (2015) و”زعامة المرأة في الإسلام المبكّر بين الخطاب العالم والخطاب الشعبي” (2016) كما صدرت لها ترجمة كتاب “حرّاس الإسلام: علماء الأزهر في مصر المعاصرة” لمليكة الزغل (2015).