الشارع المغاربي-حاورته: عواطف البلدي: مختص في الفكر العربي الاسلامي الحديث والمعاصر ويعتبر من كبار المتخصصين في دراسة الفكر الاصلاحي… سنة 2013 فائز بجائزة ابن خلدون سنغور للترجمة في العلوم الانسانية . هو الدكتور محمد الحداد استاذ كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة للاديان بين 2004 و2016 وأستاذ الحضارة بالجامعة التونسية الذي وجه نظره نحو دراسة اصلاح الفكر العربي بداية من القرن 19 الى القرن 20 .في رصيده جملة من الاعمال بداية من أطروحة الدكتورا التي حازها بالسوربونAbduh Muhammed de exemple’l: theologique raison la de critique de Essai ، ً ومتابعة لهذا العمل كان كتابه “محمد عبده قراءة جديدة في خطاب الاصلاح الديني” و“حفريات تأويلية في الخطاب الاصلاحي العربي“ و“مواقف من أجل التنوير“ و“ والاسلام والعصر الحديث بين نزوات العنف واستراتيجيات والاصلاح ” و”الدولة العالقة وغيرها من الكتابات التي ترجم بعضها باللغات العربية والفرنسية والانقليزية والايطالية.
”الشارع الثقافي“ التقى الدكتور محمد الحداد للحديث حول بعض قضايا الفكر الاصلاحي وعن راهن تونس السياسي والثقافي.
أسست بعد الحراك الثوري المرصد العربي للأديان والحريات وقد نظم عددا من الندوات والمؤتمرات التي شهدت حضور شخصيات وازنة. فلم توقف نشاط المرصد؟
علاقتي بالسياسة علاقة فكرية أساسا. بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 عملت كثيرا في ميدان حوار الثقافات والأديان مع منظمة اليونسكو وفي إطار الحوار العربي الأوروبي والحوار العربي الأمريكي واستفدت كثيرا لاكتساب تقنيات إدارة الحوار بين المختلفين. فلما حصلت الثورة وكان وقعها في العالم لا يقلّ شأنا عن تلك التفجيرات فكّرت في توظيف هذه الخبرة في حوار بين الفاعلين السياسيين للمساعدة على تحقيق نوع من الوفاق التاريخي المشترك، ولم أكن الوحيد الذي بادر بذلك بل كنا عشرات ولعلّ البعض كان أكثر توفيقا مني لأن له علاقات أقوى مع الفاعلين السياسيين. لكن يبدو لي أن كل هذه المحاولات ذهبت سدى لأن السياسيين كما يقول المثل كالقرود إذا اتفقوا أكلوا الزرع كله وإذا اختلفوا أتلفوا الزرع كله. كنت في البداية أجد عسرا ما بعده عسر لأحضر أشخاصا من تيارات مختلفة يتحاورون مع بعضهم البعض. ثم بعد سنوات أصبحوا متفقين مع بعضهم البعض وأطلقوا حوارات أقصت المثقفين إلاّ بعض القانونيين لأنهم كانوا بحاجة إليهم لكتابة النصوص، وهكذا حرمت الثورة من البعد الفكري الذي لا تنجح ثورة بدونه. في الحقيقة، إن ما دعي بالحوارات الوطنية لم تكن حوارا بالمعنى الحقيقي للكلمة وإنما كانت مفاوضة، ويعلم المشتغلون بقضايا الحوار الفارق الكبير بين الحوار الذي هو عمل تأسيسي ومبدئي والمفاوضة التي هي عمل مصلحي بحت واقتسام للمصالح قبل كل شيء.
على سبيل المثال، عندما قرّر السيدان الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي التوافق بعد سنوات من الصراع كادت تغرق البلد في الفوضى، لم يستفيدا من العديد من الأطر التي كانت متاحة لهما في تونس بل ذهبا إلى الخارج وتحاورا بمقتضى مبادرة طرحتها أطراف أجنبية وبتنظيم لوجستي وتمويل تولاّه رجال أعمال فاسدون. فعندما ننظر إلى لقاء البريستول سنة 2013 يمكن أن نراه من زاويتين: من زاوية أولى هو حدث مصيري في تاريخ تونس جنّبها المواجهة وفتح المجال للحوار الوطني وللانتهاء من تحرير الدستور، وهذا أمر في منتهى الإيجابية. ويمكن أن نراه من زاوية أخرى سلبية فهو تدويل للتجربة الانتقالية التونسية وربطها برجال أعمال فاسدين أصبحوا المتحكمين في مسارها فهو أيضا حدث مفصلي في تاريخ الفساد، فضلا عن الصورة غير الديمقراطية لشخصين يتوليان الحسم في مصير البلاد بطريقة أبوية انفرادية، يقرران المواجهة يوما والتوافق يوما آخر كما يحلو لهما.
ما هي القضايا التي بدت لك أكثر أهمية آنذاك؟
ساهمت ورشات العمل التي نظمتها آنذاك في تعميق التفكير في موضوعين، أحدهما العدالة الانتقالية. الندوة التي نظمتها كانت نت أول الندوات في تونس حول هذا الموضوع الذي لم يكن معروفا، وقد نظمت بعدها العديد من الندوات المشابهة، واستقدمت شخصيات من بلدان أخرى ساهمت في تجارب ناجحة في هذا المجال. لا يعرف كثيرون أن العدالة الانتقالية هي علمنة لمفهوم ديني هو التوبة وأن أفضل تجربة عالمية ناجحة هي التي قادها في جنوب إفريقيا القس ديسموند توتو الحائز على جائزة نوبل للسلام. كونّا مجموعة مختلفة المشارب للتعمق في الموضوع ولم تكن لدينا إمكانيات كثيرة، دافعت شخصيا عن مقترح تعيين الأستاذ عبد الجليل التميمي لترأس الهيئة المزمع تكوينها آنذاك لأنه أقرب إلى الحياد وعالم بالكثير من الملفات والأسرار. فجاء رئيس جمعية موالية للنهضة واقترح تمويل اجتماعاتنا لكنه اشترط أقصائي منها. ثم كان تعيين السيدة بن سدرين أكبر خطأ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون ضحية وجلادا وحكما في نفس الوقت. وقد تحوّلت العدالة الانتقالية إلى عدالة انتقامية تستهدف دولة الاستقلال لا الفساد، وأحسب أن المسألة كانت محسوبة من حركة النهضة التي حولت بدورها العدالة الانتقالية من انتقامية إلى ابتزازية، فضاعت الفكرة من الأصل، وعم الفساد بطريقة ابتزاز رجال الأعمال، وكان فشل العدالة الانتقالية سببا رئيسيا لفشل الثورة التونسية.
أما الموضوع الثاني فهو العلاقة بين الدين والدستور، قرأت كتابا لمنصف المرزوقي يقول فيه أنه صاحب مقولة الدولة المدنية، الدكتور المرزوقي لا يعرف أن هذه المقولة هي من ابتداع محمد عبده الذي خصصت له أطروحتي، اقترحها سنة 1903 وأرادها وسطا بين الدولة الدينية والعلمانية التي امتزجت في الفكر العربي بمعاداة الدين مع أنها لا تعني ذلك في الأصل. واعتقد أن إيرادها في الدستور التونسي بعد الفصل الأول مثل آنذاك خطوة مهمة. وكذلك فكرة التمييز بين رعاية الدولة للدين وبين الدولة الدينية، ولا بد أن أشير هنا إلى أن الوزير الأسبق محمد الشرفي في كتابه الحرية والإسلام كان قد اتجه هذا الاتجاه، بحكم تجربته الميدانية في الحكم، عكس العلمانيين التقليديين الذين خرج منهم بعد الثورة بضعة عشرات ينادون بإدراج كلمة علمانية في الدستور فمنحوا الفرصة للأصوليين للتحشيد في المساجد وخروج الآلاف تنادي بإدراج الشريعة.
لكن لماذا توقفت عن النشاط؟
لم أتوقف بل ساهمت بالكتابة وقد جمعت بعض كتاباتي في كتاب “التنوير والثورة” الصادر سنة 2013، وعندما أعيد قراءتها اليوم أرى أني أصبت في العديد من التوقعات وأخطأت أيضا في أخرى، وهذه هي المساهمة التي يمكن أن يقدمها المثقف أمام الأحداث الكبرى، أي محاولة الفهم. أما كتاب “الدولة العالقة” فقد كتبته سنة 2016 ثم قررت عدم نشره لأنه كان شديد التشاؤم وقلت فيه أن الثورات العربية كلها قد فشلت وأننا سنعيش على مدى عقود وضعا دعوته بوضع الدولة العالقة، لكن في 2016 كان التفاؤل هو الطاغي وكان هذا الرأي سيبدو غريبا لو نشر، ومع الأسف سارت الأمور بالشكل الذي توقعته فلذلك نشرته سنة 2018 وأتذكر أن الناشر قال لي مع ذلك يمكن أن تكون الأزمة عابرة ويصبح موضوع الكتاب غير مفيد بعد نشره بقليل فقلت له انشره على مسؤوليتي لأني متأكد أن ما سيحصل سيكون أسوأ مما ذكرت في الكتاب.
يذكرنا كتابك “الدولة العالقة” مباشرة بعنوان كتاب وائل حلاق “الدولة المستحيلة” لكن القارئ يلاحظ أنه ثمة نقاط التقاء ونقاط اختلاف كثيرة فهل يمكن ان نستوضح منك وجوه الاختلاف في رؤيتك عما يطرحه وائل حلاق؟
لا علاقة بكتاب وائل حلاق وإن كنت قد أشرت إليه في المقدمة. كتابه مفتوح على أكثر من تأويل، والأكيد أن الإسلاميين حرصوا حرصا شديد على ترجمته من الإنجليزية الى العربية وتوفير دعاية واسعة له للسبب التالي. أطروحة حلاق التي أرفضها رفضا تاما هي أن الدولة لم تعد قادرة على أن تتأسس على القيم والأخلاق في العصر الحديث لأن الحداثة فلسفة منافية للأخلاق، فهذا معنى الدولة المستحيلة. نشر الكتاب معربا سنة 2014 بتمويل من مركز قطري وإطلاق حملة دعاية ضخمة لصالحه أعطت الكتاب تأويلا معينا مفاده أن سبب فشل تجارب الحكم الإخوانية في بلدان الثورات العربية ليس أنها كانت تجارب فاسدة بل لأن عالم الحداثة عالم فاسد لم يعد يسمح بسياسة قائمة على الأخلاق، أي عمليا على الدين، فالخطأ من الحداثة وليس من الإسلاميين. لا أدري إذا كان هذا بعض ما قصده حلاق لكن هذا ما أوّل به كتابه، وفي رأيي لا أطروحة الكتاب المركزية ولا هذا التأويل صحيحان.
أما مفهوم “الدولة العالقة” فقد أردته بديلا عن مفهوم “الدولة الفاشلة” (failed states) لأن هذا المفهوم ذو خلفية استعمارية ومركزية غربية، بينما مفهوم الدولة العالقة يسعى إلى فهم أزمة الدولة من الداخل وليس باعتبار تحكّمها أو عدم تحكمها في حدودها. أزمة الدولة في السياقات الإسلامية هي أزمة مشروعية قبل كل شيء. كيف تأسست مشروعية الدولة التونسية مثلا؟ القوميون كانوا يعتبرونها دولة قطرية ذات حدود استعمارية فهي دولة غير شرعية أو ضعيفة الشرعية إلى أن تتحقق الوحدة العربية. والإسلاميون يعتبرونها دولة كافرة لأنها لائيكية إلى أن تتحقق عودة الخلافة وتطبيق الشريعة، وكلمة “الجماعة الإسلامية” التي كانت التسمية الأصلية لحركة “النهضة” تعني الجماعة التي تقوم مؤقتا مقام الخلافة في انتظار استعادتها لأن من مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية. واليساريون يؤمنون بالثورة البروليتارية العالمية فالدولة الوطنية بالنسبة إليهم مسألة شكلية. والدستوريون يربطون الدولة بزعامة القائد الأوحد والحزب الواحد، فهي شرعية كارزمائية وليست شرعية سياسية بالمعنى الحديث.
إنّ الدولة ليست مؤسسات وقوانين كما يظن المتخصصون في القانون، الدولة هي أساسا تمثّل رمزي ومخيال جماعي وهو مفقود عندنا. نرى مثلا في تونس أننا منذ الثورة لم يعد لنا يوم وطني الذي كان عيد الاستقلال، أذكّر بأن كل دولة تنضم إلى الأمم المتحدة تقدم مجموعة من المحددات لها منها تحديد يوم وطني يقع اعتماده رسميا. البعض يقول نحن لا نعترف بالاستقلال لأنه ناقص. لنقارن مثلا بالاستقلال الأمريكي، عندما أعلن سنة 1776 كان عدد الأمريكان لا يتجاوز خمسة ملايين نسمة حوالي مليون منهم عبيد غير معنيّين بصفة المواطنة، ونصف الباقي نساء لم تشارك ولو امرأة واحدة في مؤتمر الاتحاد. ومع ذلك، هل نرى اليوم امرأة أمريكية أو أسود أمريكي لا يحتفل باليوم الوطني الأمريكي بدعوى أنه كان استقلالا ناقصا؟ إن الشعوب المتطورة تنظر إلى مسار تكوين الدولة على أنه مسار إدماجي متدرج، لم يكن يتضمن المرأة والعبيد، لكن بفضل النضالات النسوية في آخر القرن التاسع عشر تمتعت المرأة الأمريكية بالمواطنة الكاملة، وبفضل نضالات السود في ستينات القرن العشرين أصبحوا يتمتعون بالمواطنة الكاملة. واليوم تطرح مواطنة المهاجرين وغيرهم. هذا هو المسار الحقيقي لتكوين الدولة. أما أن نهدم كل شيء ونزعم العودة من الصفر فإننا نبقى في الصفر أبد الدهر. والمسألة ليست عرضية بل مرتبطة بالثقافة الجمعية العميقة التي تشكلت على مدى قرون على فكرة المهدي المنتظر الذي يأتي ليملأ الأرض عدلا والزعيم الفذّ الذي يغيّر كل شيء بعبقرته الاستثنائية. إنها ثقافة ترسخت على مدى قرون طويلة ولا يمكن تغييرها بسهولة. لا يمكن أن تتحقق ممارسة سياسية حديثة في ظل هذه الثقافة الموروثة والفاعلة.
بصفتك مفكرا مختصا في الفكر الاصلاحي والحفر في خطاباته لو تشخص لنا الواقع الثقافي والسياسي اليوم و هل يمكن أن نعتبر أن أحد مآزق الحياة السياسية في العالم العربي هو وجود الأحزاب الدينية أم أن الأمر أعمق من ذلك؟
الإصلاح الديني هو مراجعة جذرية لهذه الثقافة، لا لأن الدين هو الذي وضعها، لكن لأنها اصبغت صبغة دينية قوية وهذا سبب انتشارها. لماذا صوّت الناس لحركات الإسلام السياسي بعد 2011؟ هناك أسباب عديدة منها الاعتقاد الراسخ لدى الناس أن الدين والأخلاق شيء واحد. لا أحد يناقش هذه المسلمة. في البلدان المتقدمة، عندما يريد التاجر أن يقتع زبائنه بأنه لا يغشهم في الميزان يستعمل ميزانا إلكترونيا يظهر الوزن بوضوح ليراه الشاري. عندنا، إذا أراد البائع أن يكسب ثقة الشاري يعلّق آية الكرسي في المحل ويطلق لحيته. هذا بالضبط هو المنطق الذي سارت عليه السياسة في بلدان الثورات العربية. نصوت للمتدينين لأنهم الأقدر على إحلال الأخلاق. أنا أعرف صديقا أستاذ في الاقتصاد صوت للنهضة سنة 2011، قلت له كيف تكون أستاذ اقتصاد وتصدق برنامجها الذي كان يقول آنذاك أنها ستوفر نصف مليون فرصة عمل وترفع نسبة النمو إلى 8 بالمائة، كل ذلك في سنة واحدة؟ قال لي أعرف أن ذلك مستحيل لكن المهم أن يوقفوا الفساد. هذه هي العقلية العامة وراشد الغنوشي محق عندما يقول إن الإسلاميين لم يأتوا إلى الحكم على دبابات، فهم أتوا إلى الحكم باستغلال الجهل الراسخ في المجتمع.
وللعلم، إن المماهاة بين الدين والأخلاق لم تبدأ مع بداية الإسلام بل بدأت بعده بخمسة قرون. وقبل ذلك، كان ينظر إلى الأخلاق على انها من اختصاص الأطباء والفلاسفة، ومن أقدم الكتابات في الأخلاق التي وصلتنا اليوم كتاب الطب الروحاني لأبي بكر الرازي، أحد أعظم الأطباء في تاريخ البشرية وهو الذي أطلقنا اسمه على أحد المستشفيات التونسية. في هذا الكتاب لا وجود لآيات ولا أحاديث، الأخلاق بالنسبة إليه طب روحاني يوازي الطب الجسماني. عندما يتحدث عن الخمر مثلا يطرح الموضوع من زاوية طبية، فيبين كيف أن شرب كميات قليلة من الخمر مفيد للجسم في حالة التعب أو الغم، وأن شرب كميات كبيرة مضر بالكبد، فيحكم أن شرب القليل منه جائز والكثير ممنوع. هذه الأخلاق النسبية، أما نحن فنعيش في المطلقات، والمطلقات غير قابلة للتحقق، فنتحوّل إلى النفاق. الخمر قليله وكثيره عندنا حرام لكن شركة الجعة تنتج أكثر من 30 مليون علبة في السنة وهي إحدى عشر شركات الأكثر ربحية.
يقودنا هذا للحديث عن شيء مهم هل أن أزمة الفكر السياسي العربي هي أزمة حريات أم تتجاوز ذلك؟ وماذا عن تونس هل ترى أن حرّياتنا مهددة؟
قبل الثورات العربية كنا نراها مسألة حريات، لكن تأكد بعد ذلك أن المسألة أعمق بكثير، وكما تكونوا يولّى عليكم، لكن طبعا هذا لا يبرر المس بالحريات ولا يوجد سقف للحرية فلا بد من الدفاع عنها في كل الحالات، وبصفة خاصة عندما تكون الخطابات غائمة والممارسات غامضة ومشبوهة. بقدر ما نستبشر اليوم بفتح ملفات كانت مغلقة مثل ملف اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي فإننا نستغرب أيضا استسهال الإيقافات والاحتفاظ وحتى طبيعة بعض التهم، كيف يمكن مثلا أن توجه لشاعرة تهمة الإرهاب وقلب النظام وما هي أصلا الوسائل التي لديها للقيام بهكذا فعل؟
لديك عدة مواقف تعبر عن احترام كبير لفكر محمد أركون وهو ما يجعلنا نسألك لم لا يجد محمد أركون الصدى الذي يستحق في الثقافة العربية رغم أهمية المنجز الذي خلفه.
محمد أركون كان أستاذي والمشرف على أطروحتي بجامعة السوربون ثم صديقي على مدى عقدين. لا أوافقك في هذا التقييم، في حدود ما يمكن أن يحققه مثقف من صدى في مجتمعات لا تؤمن بالثقافة، يعتبر محمد أركون وهشام جعيط وعبد الله العروي وبعض الأسماء القليلة الأخرى قد حققت اختراقا كبيرا وتركت صدى لن يتمكن مثقفو اليوم من تحقيق ولو جزء بسيط منه، لأن اليوم يضاف إلى عدم الإيمان بالثقافة والنظر إليها على انها وسيلة ترفيه كما ذكر أحد رؤساء حكوماتنا العتيدة سابقا، يضاف مشكل آخر هو ما أدعوه بهيمنة الإنشاء الأكاديمي. 80 بالمائة مما ينشر اليوم هو تكرار لأشياء معروفة ومنشورة سابقا ويمكن أن ترقى أحيانا إلى درجة الانتحال العلمي، وهذا شيء متوقع بما أن القليل اليوم من تدرب على الاشتغال على مخطوطات أو ترجمة كتب أو تنزيل بحوثه في مشروع بحثي سابق، فمن أين ستأتي الجدّة في البحث؟ أصبح متواترا مثلا في الاطروحات الجامعية أن يذكر الباحث في دوافع البحث قلة الدراسات في الموضوع، حتى وإن توفرت هذه الدراسات بالمئات، لأن الباحث غير مطلع عليها. مرة أخرى، لا تراكم، البداية عندنا دائما من الصفر. إنها نفس الثقافة الجمعية تسود في كل المجالات.
سؤالي السابق يقود الى هذا السؤال: لمَ تبقى الأكاديميا بعيدة عن المجتمع في البلاد العربية ولا يستفيد المجتمع من المنجز الفكري للجامعات كما يحدث في الغرب؟
البحث الأكاديمي تقلص اليوم لفائدة البحث عن فرصة عمل والجامعات تشتغل مثل الإدارات وفكرة التخلص من المركزية بإنشاء الجامعات كانت أكبر خدعة خدعنا بها أنفسنا لأن الجامعات اليوم هي بمثابة مندوبيات جهوية للتعليم العالي، وقد زادت من ثقل البيروقراطية ومن تهميش الباحثين الكبار. في العودة الجامعية الأخيرة وبعد ثلاثين سنة من العمل في الجامعة طلبوا مني أن أملأ ورقة طويلة فيها أسئلة من نوع تاريخ الميلاد واسم الزوجة وعملها، لم يبق إلا أن يطلبوا مني اسم الأب ومهنته، كما يفعلون مع تلامذة الابتدائي، هل تظن أن جامعة تحترم نفسها تتعامل مع أساتذة ذي شهرة عالمية بهذا الشكل؟ بالنسبة إليهم، نحن مجرد أرقام، كيف يمكن للمجتمع أن يحترم الجامعي والمثقف والحال إن البيروقراطية الجامعية المتضخمة لا تحترمه؟
ممّ تشكو جامعاتنا وكيف السبيل للاصلاح؟
أقول لك رأيي بصراحة، لا يوجد إصلاح في الدنيا يمكن أن يتحقق دون توفر موارد مالية، علينا أولا أن نصلح الاقتصاد ونعيد دوران عجلته ونرفع نسبة النمو ونوفر موارد مالية للدولة ثم نشرع بعد ذلك في الإصلاحات الأخرى.
دراسات كثيرة وسمت الفترة الممتدة من القرن 16 بعبارة “عصر الانحطاط” بينما نزّهتها انت في كتابك الأخير “الاسلام والعصر الحديث” وتحديدا في سردية “الراعي النائم” وبرهنت على انها لم تكن انحطاطا بقدر ما كانت دورة حضارية جديدة .. ماذا تقصد بسردية الراعي النائم وما نقاط الاختلاف بينها وبين سرديات الدارسين من قبلك؟
يبدو التاريخ الإسلامي في العصر الحديث دورات طويلة من العنف تقابلها دورات قصيرة ومتردّدة من الإصلاح. ولقد أصبحت الثقافة السائدة تخلط بين القوّة والعنف، وتمارس العنف وهو تظن أنه تمثّل القوّة. فتأتي النتيجة مزيدا من الضعف، يقابلها مزيد من العنف، وهكذا دواليك. لقد فقد المسلمون الوسائل الحقيقية للقوّة، أي العلم والتقنية والإبداع الفكري والإدارة الناجعة والردع العسكري. فلمّا فقدت هذه الثقافة وسائل القوّة تحوّلت إلى مخزون من العنف: عنف ضدّ الآخر، لكنّه خاصة عنف ضدّ الذات. فهو عنف موجّه للمختلف والمخالف والمرأة والمثقّف والمبدع والمصلح والمجدّد. الثقافة السائدة لا تحثّ على التقدّم في العلوم والآداب والإدارة وإنما تطلب القوّة منظورا إليها من خلال عناصرها القديمة، القوّة الجسديّة التي تتمثّل أساسا في هيمنة الرجل على المرأة والمسلم على غير المسلم. في حين أصبحت القوّة بالمعنى الحديث قائمة على المعرفة التي تفوّق فيها غير المسلم على المسلم وأصبحت المرأة عنصرا فاعلا فيها.
وفي الحقيقة لم يوجد انحطاط، وهذه المقولة نشأت مع القومية العربية ضدّ العثمانيين، ثم تبنّتها الإسلاموية لإخراج الدين ورجال الدين من دائرة المساءلة والاتهام. وما حصل، أهمّ من الانحطاط، هو أنّ العالم تغيّر تغيّرا جذريّا، وأنّ الثقافة الإسلامية السائدة لم تقبل هذا الأمر وظلت، إلى حدّ اليوم، خارج الحداثة، في المفاهيم والأفكار، في الاستراتيجيات السياسية والمخططات الإدارية، في الاقتصاد وفي المعرفة، وفي المجال الثقافي والديني خاصة.
تعتبر في كتاباتك أن انتكاسة الفكر الإصلاحي أدت إلى انسداد الآفاق في البلاد العربية. فهل تطرحون فكرة استئناف الفكر الإصلاحي أم ان هناك بدائل أخرى ممكنة؟
الإصلاح هو الأصل والثورة ليست غاية في ذاتها، وشخصيا لا أتصور معنى لكلمة أخلاق الثورة، على عكس ما ذهب إليه الأستاذ بن عاشور في كتابه الأخير، الثورة هي مثل الزلزال، حدث ناتج عن تصادم، أنها لحظة عابرة وبعد ذلك يتقرر المصير حسب ما يختار الفاعلون الاجتماعيون، فإما الإصلاح وإما استرجاع الوضع السابق بصورة أخرى. المثقفون هم الذين يعطون الثورة الجمالية، لكنها في الحقيقة عنف أعمى يضعف المجتمعات والدول والأفراد، وهذا معاين في كل مكان وزمان. لا فائدة أن نظل نتغنى بالثورة، لا سيما إذا ما فشلت. المهم اليوم الإصلاح.
بالنسبة للإصلاح الديني تخصيصا، فهو مطروح عندي من الزاوية التي أشرت إليها، باعتبار أن الثقافة الجمعية السائدة مصاغة تاريخيا وواقعيا في قوالب دينية، وهي ثقافة تحتاج إلى النقد العميق لأنها تؤثر في واقعنا في كل المجالات. في مرحلة أولى، كان ينتظر من المؤسسات الدينية أن تحقق الإصلاح الديني، مثلما تحولت جامعة السوربون التي كانت جامعة لاهوتية في العصر الوسيط إلى منارة للحداثة في القرن التاسع عشر، لكن هذا لم يحدث مع المؤسسات الدينية الإسلامية التي ظلت مصرّة على المحافظة. البعض يقول إن بورقيبة ألغى التعليم الزيتوني لكن الحقيقة أن التعليم الزيتوني هو الذي ألغي نفسه بنفسه بتردده في قبول الإصلاحات التي نادى بها خير الدين ثم الطاهر الحداد، بل رفض إصلاحات الطاهر بن عاشور التي كانت أقل طموحا وأكثر محدودية، حتى أنه لم ينشر كتابه “أليس الصبح بقريب” إلا بعد الاستقلال رغم تواضع المقترحات المعروضة فيه. ثم في مرحلة ثانية، ظن البعض أن حركات الإسلام السياسي هي الني ستحقق الإصلاح الديني مثلما حصل في البروتستانتية. وإذا لاحظت رأيت أن البلدان ذات الخلفية البروتستانتية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا هي الأكثر تعاطفا مع الإسلاميين من البلدان ذات الخلفية الكاثوليكية مثل فرنسا وإيطاليا، وذلك لأنها تنظر إلى السياقات الإسلامية بخلفية بروتستانتية. لكن الثورات العربية التي سيطر عليها الإسلاميون وفشلت بسبب ذلك فشلا ذريعا أنهت هذا الوهم. لم يبق إلا ما دعوت إليه منذ عشرات السنين وهو علمنة الإصلاح الديني، واستعمال هذه الكلمة في معنى اجتماعي لا ديني، ويحتاج الموضوع إلى مقابلة أخرى للشرح المفصل لهذه الفكرة التي قد تبدو غريبة للكثيرين، من المتدينين ومن أنصار العلمانية التقليدية على حدّ سواء.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 10 اكتوبر 2023