الشارع المغاربي: تباينت المواقف من الاستفتاء الذي تمّ يوم 25 جويلية الماضي وخاصّة الدستور المرتقب الذي نعتقد جازمين أنّه لن يطول كثيرا، فهو “دستور انتقالي” لـ”فترة انتقالية” ليست كسابقاتها حتى في المدْلول ثمّ يُغلَق القوْس، قبل ذلك، نحن في فترة “البَيْن- بَيْن” تتقاذفنا أشباح الماضي في تجاذبها مع تموّجات المستقبل، مُلْقية بثقلها على إرْهاصات حاضرٍ ثقيل جدّا بِـ”عَبَقِ” الماضي الذي لن يعود مهما تطاول، وزخّات المستقبل الذي طال مخاضه إلى حدّ السراب!
لكن الذي يهمّنا هنا، هو أنّ هذا الاستفتاء في حدّ ذاته شكّل قطْعا حقيقيا مع مرحلة كاملة، مع عشرية “الخراب”، وهو إيذان بفترة مغايرة لها قد تكون في الشكل، ولكن ليس مضمونا أن تكون أفضل منها، وهنا بالذات، حمّل الرئيس قيس سعيّد نفسه كلّ المسؤولية في مآل الأوضاع لاحقا، إذ بحرْصه الشديد واللامتناهي أن يكون “الحوار” بذلك الشكل والاستفتاء بتلك الطريقة والدستور بهكذا صيغة وصياغة، فهذا يعني أنّه قَبِل عن طيب خاطر اسْتتْباعات هذا التوجّه وخاصّة ارتداداته المجهولة، وأهمّها في نظرنا أنّ عموم من شارك في الاستفتاء كمن لم يشارك تحت أيّة ذريعة كانت، إنّما لديهم جميعا ذات الموقف، وهو إن ثمّة تدهور معيشي ومعاشي وإن ثمّة انهيار مَا لا قدّر الله، فالمسؤولية تقع على الرئيس قيس سعيّد دون سواه، ولم يعد ثمّة مجال أو تعلّة لتحميلها إلى حصيلة “عشرية الخراب”.
لذا، اعتقادنا أنّ هذا الاستفتاء “طهّر” وجوه هذه العشرية من “أدْرَانِها” و”لَبَّسَهَا” إلى من يقف على الاستفتاء دون أن تكون هذه هي غايته! وهنا مَكْمَن المفارقة!
وعليه، هل أنّ الرئيس قيس سعيّد على وعْي بذلك أم لا؟ لأنّ الظرف دقيق للغاية والتيّار قادم مهما تراءى السكون، ولا خيار إلاّ في “تحصين” الجبهة الداخلية من التصدّع النهائي وأيضا من الاختراقات، ما عدا ذلك فالمجهول يترصّدنا! وسيجْرف حتما كلّ من يعترض طريقه خاصّة إذا كان منفردا!
في الأثناء، تراءى لنا أنّ “التجاذب” بين فترتين على أشدّه في التعامل مع مرتكزات الدولة الوطنية وكلّ ما يمتّ إليها بصلة خاصّة عيد الاستقلال وعيد الشهداء وعيد الجمهورية وأخيرا عيد المرأة، وقد وصل هذا “التجاذب” إلى حدّ شبْه الالتقاء، فخلْنا أنفسنا وكأنّنا أو أنّنا فعلا في فترة بدايات حكم حركة النهضة سنة 2012، عندما لاحظ الجميع رغبة واضحة في طمس “رمْزية” الدولة الوطنية من خلال تجاهل الأعياد المنسوبة إليها، وينطبق الأمر ولو بصفة نسبية على واقع الحال.
ذلك، أنّ حركة النهضة قام حكمها على أساس العمل على استهداف الدولة الوطنية من الداخل من خلال إعْمال معاول الهدم فيها، بعد أن توهّمت أنّها مُكّنت في تونس إثر فشلها سابقا في استهداف الدولة من خارجها أيّام “المواجهة” مع حكميْ الرئيس بورقيبة وبن علي.
لذلك، عملت منذ 2009 وخاصّة منذ ربيع 2011 على استهداف أُسُسِ هذه الدولة الوطنية من خلال تسْويد رمزية الحبيب بورقيبة، وتلْبِيسه كلّ الشرور والآثام، وقد وصل هذا الاستهداف أوْجه مع “هيئة الحقيقة والكرامة” سنتيْ 2017 و2018، وفي المقابل، عملت حركة النهضة جاهدةً على تبْيِيض “رمْزها الأكبر” وتنْقية ماضيها من الشوائب حتى يَبْيضَّ لكن عَبَثًا فَعَلَتْ!
ووصل الوهْم أعْلاه عندما تجرّأ البعض على اعتبار الدولة الوطنية ومكتسباتها مجرّد خمسين سنة من الخراب! فإذا بالخراب هم عَرّابُوه! وجُهْدهم المَحْمُوم في مَحْو الدولة الوطنية ومرتكزاتها ارتدّ عليهم فَمُحُوا من أفئدة التونسيين أو جلّهم.
وعليه، كلّ من يعمل على محْو المرتكزات الثابتة والعتيّة للدولة الوطنية، وكلّ من يعمل على فسخ دولة الاستقلال بجرّة قلم وهْمي، وكلّ من يستهدف رمزية هذه الدولة الوطنية، من خلال تهميش ما يُرْمز إليها في تواريخ فارقة باتت منذ عقود مناسبات وطنية هَوَوِيَة، نَنْتَسب إليها وتنْتسب إلينا، فانصهرت فينا وصُهِرْنا فيها، وكلّ من يعمد إلى تغييب روّاد الإصلاح والتحرّر الوطني وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة، إنّما يَجْرف نفسه في الحقيقة ويمْحُوَ ذكْره في الواقع ويُطْمَس معه، وذلك، عندما يكتشف ذاتَه وقد انْجَرَفت، وعَمَله وقد تَهَاوى، ومخطّطه وقد فَشِل.
هكذا عملت حركة النهضة على المحْو فانْمَحَت هي، حتى وإن تعمل جاهدة الآن أن تثبت العكس، وذات المآل ينتظر كلّ من يَنْحُوَ نحْوها!
وذلك، لأنّ الدولة الوطنية هي التي ائْتُمِنَت على مسار الزمن التقدمي في تونس، وهي التي كانت عنوانا لصيرورة الكفاح الوطني، وسيرورة الإصلاح الفكري، وهي التي عملت على أن تغْرس أسسا راسخة في البناء الوطني، بناء الكيان التونسي، بناء الأمّة التونسية الأصيلة، فهذه الدولة الوطنية هي التي خلقت الانتساب إلى الأمّة، وكرّسته على الأرض وأنْبتت أجْيالا عملت على تأصيل هذا الكيان قبل أن يُصِيبَه الوَهَن من داخله.
لكن، لا يعني هذا الوهَن الذي لاحظناه أكثر من مرّة أنّ البناء سينهار، بل هو ثابت، لأنّه مُنْصهر مع حركة الزمن، فالدولة الوطنية راسخة وجذورها ثابتة لأنّها من رَحِم هذه الأرض نَبَتت ونَمت، فكان الكيان التونسي! وكانت الأمّة! وذلك، لأنّ روّاد هذه الدولة استوعبوا ما معنى التراكمية في الزمن فلم يقطعوا وإن خُيّل للبعض ذلك، وواهمٌ من يعتقد العكس!
وعليه، لن يذهب بعيدا التوجّه لاخْتزال تاريخ تونس في سنة 2010 إلى الآن، والعمل على جَبِّ ما سبقه، والدفع إلى استعاضة الأعياد الوطنية الرمزية بمناسبات 2021 وما بعده مع المحافظة على ذات التواريخ أو الأيّام! ولن يَمْحُوَ هذا التوجّه من ذاكرة التونسيين ومن وعيهم الجماعي كما التاريخ، اقتران أعياد الجمهورية والاستقلال والشهداء بالدولة الوطنية، دولة الاستقلال ورموزها التي جمعت بين تحرير الأرض وبناء الكيان التونسي.
ولن يَمْحُوَ “الاحتفال” من عَدَمِهِ بعيد المرأة يوم 13 أوت من كلّ سنة، حَقِيقةً ثَابِتَةً لن تَزُولَ، وهي أنّ تحرير المرأة في تونس، الذي باتت مكاسبه مهدّدة منذ العشرية الفارطة، إنّما هو تجسيم لالْتِقاء حُلْم الفكْر الإصلاحي الذي أعْوزته القدرة على الفعل ممثلا خاصّة في الطاهر الحدّاد بشرعية حركة التحرّر الوطني ودولة الاستقلال، ممثلة تحديدا في الحبيب بورقيبة، والتي “فرَضَتْ” أو بالأحرى “فَرَضَ” بقوّة الفعل هذا التحرير، فكانت مجلّة الأحوال الشخصية!.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 اوت 2022