الشارع المغاربي-حاورته: عواطف البلدي: مثقّف كثيرا ما يعتبر نفسه قارئا اساسا، يجمع بين قراءة الرواية والبحث السوسيولوجي والتأمل الفلسفي معا. شاعر بـ”مذاق” خاص يكتب في ..سياق مقاومة، مما انعكسَ على استراتيجية الكتابة لديه وعلى طرائق أدائه الشخصي في ضبط قاموسه الخاص “المتقشّف” تارة و”المستلّ” تارة أخرى. لهجته الساخرة هي عنوانه الأبرز في ما يكتب نثرا وشعرا. علاقته المتوترة بما يسميه ‘البطحاء الثقافية” هي رده النقدي على إدارة الشأن الادبي بعقل النظام السابق، بل بـ”أعوانه” تقريبا. هو الشاعر يوسف خديم الله الشهير بـ “ش.س” الذي يطوّع اللغة كالصلصال بطريقته “البسيطة والشاذة معا، وبلغة متقشّفةٍ من قاموس يومي مهمل” مثلما قال.. “الشارع الثقافي” التقى خديم الله فجاء هذا الحوار مراوحا بين النقد الراديكالي للأداء الثقافي واليأس الساخر من تداركه بالعقل الانتهازي السائد
يوسف خديم الله شاعر بمذاق خاص، يتصرف في اللغة كأنها صلصال وقد بلغ هذا اللعب درجة صار معها غلوّا. ما رأيك؟
مذاق !؟ ربّي يهديك سيّدتي.. لكن، لا عيبَ حقيقة في الأمر، فنحن، من فرط ما ترتّبت حياتنا المادية على ما رتّبهُ السوق المعولم، فقد تسللت لغة السوق ذاك إلى مجالنا الرمزي الذي، للأسف، بات عنوانَ خنوعنا لسلطانه، عن وعي أو عن غير وعي. وحقيقة، أثني عليكِ لانتباهك، منذ البداية، إلى أن اللغة هي، في ما يخصني، رهانٌ خصوصي لمقاومة هذا “الاغتراب” الناعم الذي أصابَ أهل المقاومة أنفسهم، المنعوتين بـ”المبدعين” . ما يعني أنني، منذ بداياتي تقريبا، كنت أقرأ وأكتب في سياق مقاومة، نادرا ما يشاركني فيه أحد للأسف. وعليه، فقد انعكسَ هذا الهاجس الدائم، على استراتيجية الكتابة عندي، وعلى طرائق الآداء الشخصي في ضبط قاموسي الخاص، المتقشّف، والمستلّ من اللغة اليومية، بل المصطلحات والمفاهيم المتداولة على اللّسان الدارج بين الناس، وإعادة استعمالها في لهجة ساخرة باتت هي العنوان الأبرز في ما أكتب نثرا وشعرا. ورغم اللاّمبالاة الظاهرة تجاه مشروعي هذا، فقد أسعدني أن ينتبه إليه أكثر من باحثٍ متخصّص في المجال، ومن خارج مركز “البطحاء الثقافية”، وقرّاءٌ كثرٌ لهم من الحسّ والنباهة الذوقية والفكرية ما ليس للزملاء الشعراء أنفسهم.
للأسف، يبدو أن اللغة الخشبية التي تسلّلت من الخطاب السياسي، عبر أخطر الخطابات، الإعلامي أعني، قد استقرّت في الخطاب الأدبي والثقافي، في غفلةٍ وفي تواطئِ معا من لدن الكتّاب أنفسهم. وذا ما عزّز تشاؤمي الراديكالي الذي، رغم ما كتبتُ ونشرت، أسيء فهمه ، بوعي وتقصدٍّ محسوبين غالبا.
كأنك تقول أن هذا التوجه خلق لك أعداء؟
أعداء؟ لكم تمنّيتُ ذلك. من الطبيعي، بل من الضروري، في المجال الرمزي، الثقافي تحديدا، أن يكون للفاعل فيه خصومٌ يتداولون في شؤونه، كما يتداولُ أصحابُ الرأي الحرّ، على قاعدة أنّ الاختلاف هو الذي يدفع إلى بناء الحقيقة. للأسف، مجتمعنا يعيش حالة من “العجز الديمقراطي” المزمن. وفي رأيي أن غياب الفكرة الديمقراطية وسوء تمثلّها الذهني وعدم تجذّرها في السلوك اليومي للمثقفين وتكريسها كنمط تفكير وحياة معا هو أصل هذا العجز. ولعلّ الفرصة الديمقراطية التي جاء بها “التغيير الثوري المبارك” أثبتت هذا العجز، الأمر الذي شهدنا خلاله تراجعا حتى عن أدنى شروط التمدّن المكتسبة منذ عقود ما بعد الاستقلال.
والحال على ما وصفت، استحال وجود “أعداء” من هذا القبيل، يقبلون بالحوار على قاعدة حق الاختلاف. وأرى أن هذا الخطر، في المجال الثقافي، أكبر مما هو في المجال السياسي.
بماذا تفسّر هذه العلاقة المتوترة، بل ربما القطيعة مع ما سمّيته بالبطحاء الثقافيّة؟ ولماذا بطحاء بالتّحديد؟
كتبت كثيرا في هذا الأمر، وقُرئتُ بلامبالاة هي أقرب إلى التجاهل المحسوب. وباختصار، لا أرى في الأمر استفزازا بقدر ما هو توصيفٌ غير بعيد عما يقول الكتّاب والشعراء أنفسهم، إذ يتحدثون عن “الوسط” الثقافي” حينا وعن “الساحة الثقافية” أو ما شابهَ حينا آخر. ولم أكن لأتوقف عند هذا الأمر لولا استعمالهم الطائش لمفهوم “الحقل” على سبيل الوصف العابر، والحال أنه مفهوم إجرائي، من إنتاج بيار بورديو. وهو مفهوم كثيرا ما نبهت إلى أنه لا ينسحبُ على الساحة أو الوسط المذكور، لأنه يقوم أصلا على مفاهيم فرعية من قبيل الرهان، والصراع، واستثمار الرأسمال الرمزي في سياسة القول أو الكلام في حدود مجال مؤسسي له حدوده الواصلة الفاصلة عن الحقول الأخرى، الأمر الذي لا ينسحب على واقع الحال. بمعنى أن ما نعاينه في “الساحة الثقافية” لا يعدو أن يكون مجموع سلوكات بدائية انفعالية منحرفة، ذاتية صرف، لا موضوع لها ولا رهان سوى إثبات ذات هشة، بأي طريقة، استنادا إلى ما تخططه المؤسسات الرسمية أو الموازية، الشكلانية بطبعها، من صيغ مشاركة في تدوير العجلة الثقافية . وهذا أمر له تاريخ استقرّ في لاوعيهم حتى باتوا جزءا من آلة تشتغل ذاتيا حسب الروتين الإداري وأعراف إدارة إنتاجهم بل عاداتهم وأخلاق التعامل الاجتماعي في ما بينهم يصل أحيانا إلى حضيضٍ لا ينسب عادة إلا لأوساط أخرى منحرفة.
ألا يرى البعض في موقف كهذا استفزازا أو انتقادا متشدّدا قد يهدم ولا يبني؟
بل أغلبهم يرون ذلك، وذلك لقصورٍ وتقصير معا. يكتفون برمي الاتهام وتجنّب كل دعوة للنقاش في هذا الأمر. صحيح أنني دعوتُ من طويل إلى القطيعة مع النموذج السائد ذاك من تجميع الكتّاب والشعراء في مناسبات يسمونها ملتقيات أدبية، شعرية بالأخص، موجهة لشبابٍ لم يكتمل زغبهُ الذهني، من مراهقين في العشرين حتى مراهقين في الأربعين ! وهنا أصل الكارثة التي أبدعها نظام بن علي، على أيدي إعلاميين وشعراء مازالوا إلى اليوم يتباهون بهذا “الإنجاز التاريخي”، بل يكرّمون على يد ضحاياهم من الشبيبة.. وللأمانة، كنت كتبتُ من سنواتٍ عن هذا الشيء مستهدفا مباشرةً منشئهُ، الصحفي محمد بن رجب الذي، وإن سكتَ عليّ في البداية، فإنه، على الأقل، كتب إليّ مقدّرا رأيي في النهاية، بعيدا عن كل تبجّح أو ضغينةٍ من قبيل ما يأتيه الكبار والصغار.. كبار وصغار، لم يريدون أن يفهموا أنّ ملتقياتٍ كهذه ليست سوى آلية استقطابٍ ناعمٍ للشبيبة وتحويل وجهتهم عن التكوين الفكري الذاتي وإخصاءِ النموّ الطبيعيّ لمواهبهم. ملتقياتٍ جوّفت أجيالاً منهم، بالنّفخ في ذواتهم الهشة وبدسِّ ذوي العلاقة الواهية بالمجال، من خلال مساخرِ المنافسات الباهتة المختومة بجوائزَ حقيرةٍ، يشرفُ على تدويرها “شعراء مدرّسون” علاقتهم بالأدب مهنيّة لا أكثر. والأسوأ في الأمر أن الجيل، الموهوب حقا، والذي ظهر بعد الثورة، قد أخذته هذه المزالق. وقد كنت – بعد أن رُفع عني الحظر عن مشاركات كتلك، وبعد أن عقدتُ أملا طفيفا في التغيير- قد سعدتُ بلقاء بعضهم وعرضت آرائي هذه، غير أنهم انساقوا لاحقا في إعادة إنتاج نفس آلية إدارة نشاطهم، على نفس المنوال. بل إن بعض من تسلّم وظائف إدارية ثقافية قد سقط في اجترار المجترّ وإعادة إنتاج العقل الانتهازي الذي يخلط حابلَ المصالح والمطامح الشخصية بنابل ادّعاء خدمة ثقافةٍ “وطنية” أو “بديلة” لم تبدّل شيئا عدا ما قاله ثامر ابني، وهو في العاشرة من عمره، وقد عثر على العبارة في حاسوبي: “اللّي بدّلت حوايجها”، لا غير.
لم تنتمِ يوما إلى حركة شعرية ولم تنتسب إلى جيل. ومع ذلك يرى الجميع انك تمثّل جانبا من تصوّره للشعر وللشعرية. ما مصدر هذا الموقع الطريف؟ هل يعود إلى طبيعة نصك أم إلى علاقتك المتوترة نقديا بالسياقات الشعرية جميعها؟
فعلا، أصبتِ، فأنا لم أنتمِ إلى أية حركة، ولا إلى أيّ جيلٍ. ببساطة، لأنه ما من حركة أدبية حقيقية ظهرت بعد “الطليعة الأدبية”، ولأنني، لحسن حظّي، “عابرٌ للأجيال”. وما يجمعني بـ”الزملاء” هو أنني أشتغلُ، شعريا، منذ أوائل التسعينات، في إطار ما يسمى بقصيدة النثر، وثانيا أنني، رغم معايشتي المبكرة لجيل الثمانينات، في سنواتي الجامعية بالعاصمة، بقيتُ على هامشهم وعلى هامش لاحقيهم. وإن مكّنتني معايشتهم المباشرة من فهم جانبٍ مهمّ من اشتغال “البطحاء الثقافية”، فإن المسافة التي أخذتها عنها لاحقا -الاختيارية والقسرية معا، عكس ما يروجونه الأمس واليوم- مكّنتني من رفد الخبرة الميدانية بالقراءة والدراسة والتساؤل حول هموم الكتابة والقراءة في أصولها الفلسفية، وخاصة السوسيولوجية. ومن هنا، سبب “طرافة ” موقعي الذي تتحدثين عنه.
أعرف وأعترف أن أغلب زملائي، رغم كل شيء، يكنّون لي نوعا من التقدير، لكنه تقديرٌ “ساكت” و”حذر”. لماذا؟ لأنهم، رغم قصورهم النظري في قراءة الواقع، الثقافي تحديدا، فإن منطق المصالح الذاتية، والكسل الذهني، بل الجبن على القطع مع الحماقة السائدة والتهافت السياسي، جعلهم في النهاية، يتجنبون محاورتي ومجاورتي في الرّأي. وهذه كارثة أخرى لها صلة بما ذكرت لك أعلاه. وهذا أراه أمرا أخطر وأسوأ:
إنه ببساطة، سلوك الرّقيب. الرّقيب الذي يسكت عما تقول، حتى لا يسمعك أحد. ولعل أسوأ من يجسّد هذا الموقف المشبوه المنصف المزغني، رغم أنني كتبتُ عميقا عن آدائه الشعري في وسائل الإعلام بما لم “يكرمه” به أحد. غير أن نصف أميّته جعلته يعمى عمّا في تناولي له من رأي يريد أن يصلح لا أن يتهجّم، كما يظن. أما قرينه أولاد أحمد، القارئ الخبيث الذي كنت أقدّرُ، فقد انتقدته في حياته أكثر من مرة، فلم يتهجّم أو ينفعل، بل سكت هو أيضا، وأخذتُ سكوته على أنه “رميٌّ للمنديل” لتفادي ما هو أسوأ. فهو يعرفُ جيدا انه كان يقطعُ عليّ طريق النشر إلى جواره، في صحيفة المغرب حين اشتغل بها، ليقبرها نهائيا هناك والحالُ أنه هو من طلبها طويلا. وربما كان خليفته في المغرب آنذاك، حسن بن عثمان، يعرف شيئا من ذلك. طبعا هذا أمرٌ خطير ومزعج، لكن لم يغيّر من طريقي وطريقتي شيئا. الأكيد أن نصي، رغم الصدّ والجحود الرخيصين، له علاماته الفارقة وخطورته وجدّته التي ستبقى لمتابعةٍ وقراءةٍ لاحقة ومؤثرة لا بدّ أنها تظهر. وهو ما بدأ ينكبّ عليه شرفاءُ بالدراسة والبحث، ولا مجال لتفصيله الآن.
قرأت نصوصك بتمعّن على صفحتك طبعا، التي سميتَها “وزارة الثقافة متاعك”. يبدو نصّك مدهشا ومتفردا، مزيجا من اللعب الخطر والبسيط والعميق معا. أعتقد أن ذلك يعود إلى موهبة فعلا، وأيضا إلى اطلاع واسع على الرواية والشعر عربيا وعالميا. بلا تواضع، ما تقول في هذا الأمر؟
أظنني أجبتك أعلاه عن “سرّ” ما سميتِه فرادة أو اختلاف في ما أكتب.. وهي فرادة أظنها مركبّة يتظافر فيها الشعري الخالص بالفكري وبالتركيبة النفسية والتجربة الشخصية، العاطفية والاجتماعية والمهنية التي تلقي ظلالا خفية وظاهرة على ما يستقرّ في المدونة كنصّ. ولأن عالمَ الشّاعر الأصيل مركّب بطبعه، فهو يستعصي غالبا على فهمه وتفهّمه، الأمر الذي جعل اثنانِ من “الزملاء”، “نصفَ الأمي” و”نصف المتعلّم” يلتقيان في إطلاق أحكام خاطئة وناقصة، بل سيئة الظنّ ومخزية تنمّ عن حماقة، من قبيل ما ذكره، في كلمة عابرة، شاعرٌ حاورتموه هنا في صحيفتكم، أظنه رحيم الجماعي من أن “ش. س. شاعر مهمّ لكنه يعاني من مشاكل نفسية”، وكأنّ من عيوب الشاعر أن “يشعر أو يحسّ” ما بنفسه. أو أن يردّ آخرون ، من قبيل حسونه المصباحي بحماقة أكبر، ساندهُ فيها غيره حتى من ذوي حاملة المفاتيح “د”، وقد أعيته حيلةُ الجدل والمحاورة المثمرة: “ش. س. يتطاول علينا بالفكر والمعرفة .. إلخ..”
فهل من تهافتٍ سخيف أكثر من أن يصبح الاجتهاد المعرفي ومحاولة حقن الأدبِ بالتفكير في شأن ظواهر انحدارِ كتابته وإدارته في مختلف سياقات تداوله الخاص والعام سُبّةً ومعرّةً !؟ أما لمَ هذا السّكوت المعمم تقريبا، فلسبب واضح عندي لا ريب فيه: كلهم تقريبا يرون في انتقاداتي الصريحة والصائبة لطريقة تسويق كتاباتهم في الأسواق ولسكوتهم عن ظواهره المخلّة إدانةً شخصية لهم فتتحرّك ضمائرهم النائمة لحينٍ، ما يتركهم في صراعٍ “أخلاقي” دفين يردّون عليه بطرقٍ “لا تقرأ ولا تكتب”، هي انفعالات تعميمية لا تليق بأهل الكتاب أصلا.
أليس هذا خروجا عن عمل الشاعر وانصرافا إلى نشاط وفعالية موازية لها أهلها هي أيضا؟
لا أبدا، فهذا الفصل باطلٌ يرادُ به باطل أكبر. أن تكون شاعرا أو رسّاما أو مسرحيا وأن “تكتبَ مفكّرا” في مجال فعاليّتك الخصوصية وفي سياقات إدارة وتداول إنتاجك أمرٌ -إن كنتَ مؤهّلا له وذا ضمير لا يساوم- عليك أن تتصدّى له بنفسك، خاصة في غيابِ من ينشطُ في هذا الأمر أو في حضورِ الطّارئين من الجامعيينَ الذين لا همّ لهم سوى أن يجمّعوا حولهم “من يصلحُ ” و أن يستبعدوا من “لا يصلح”. وأنا أعتزّ بأن أكون من قلائل الطالحين ممن لا يصلحون لهم.
عموما، في كتابي الأخير، الشعري، “على يأسٍ وأضحك”، استقرّ هذا الأمر، إبداعيا -أي بأدوات الشّعر وحده- في أقسامه التي بوّبتُ. وقد كثّفت سامية رأيها في كلمة واحدة، وهي تقرؤه في فترة نقاهةٍ كاذبة من مرضها القاتل:
هذا شعرُ “سيرةٍ ذاتيةٍ”.. سيرتنا جميعا. سيرة الشاعر الشخصية العاطفية، الاجتماعية، الثقافية والوجودية.
وهذا صحيح، وإن لم أكن أتقصده. لقد أسعدني أن أسمعه من شريكتي التاريخية في كل شيء. فأنا، رغم الطابع الذهني لشعري – والذي يراهُ البعض عيبا، -خاصة القاصرون و سيئو الظن من الكتّاب والشعراء الذين توقفوا عن القراءة- أكتب من معيشي المباشر الذي يقع تحويله، بطريقتي البسيطة والشاذة معا، وبلغة متقشّفةٍ من القاموس اليومي المهمل.. أكتب نصوصا هي أحيانا شذرات تأملية ساخرة، والتي تراوح بين العاطفي والاجتماعي والسياسي معا.. وعليه، فإنّ ما أكتبه، في مجمله، هو في جوهره “روايةٌ” شعريّة متشطّية. والحقيقة أنني، خاصة في عقد التسعينات كنت قارئا مواظبا للرواية بمختلف أنواعها، وتحديدا الرواية الأجنبية التي كنت أقرؤها في الفرنسية، وخاصة الرواية الكلاسيكية، شبه المهملة عند سائر القراء الهواة والمحترفين، القرّاء الذين أخذتهم عادةُ السّوق في ملاحقة ما يعرضه عليهم، عبر الجوائز وعبر دعمِ المتداول والمدعوم بآليات السوق التي تسعى إلى إدماجٍ مشوِّهٍ للأدب في دورته الاقتصادية الفورية. وهو الأمر الذي جعلني منذ سنوات، وببطئ، أعود إلى قراءة الكلاسيكيات تلك، والتي أعثر فيها على “جواهر” طلائعية، تردّ على المنطق البضائعي السائد، وفهمه حق الفهم، رغم فوارق التاريخ والجغرافيا..
أما روايةُ السّوق المحلي والعربي السائد، فلا تهمني كثيرا، عدا في جانبها التوثيقي أو البحثي لا غير، وهذا ما ألّب ضدّي الشعراء والروائيين معا. وإن كنت أفهم الشعراء، فإن الروائيين الذين لا أنافسهم هم أيضا في شيء، مستاؤون أكثر، استياء صامتا، خاصة من أولئك المنعوتين بـ”الناجحين”، ممن لهم جاهُ علمٍ يعرف كيف يجلب مال الأدب ومشتقاته. لكن، في المقابل، أقرأ باهتمام وودّ لبعض القصّاصين، وأرى لديهم تجارب متنوعة، موضوعا وفنّا. والأهم هو أن ليس لديهم ذلك الجنوح القاصر نحو التبجح الأستعراضي والوقوف على الأعتاب مما نراه عند الشعراء. أعتز بأنني قرأتُ، وإن متسرعا لكتاب من قبيل عيسى جابلي وبلقيس خليفة وإيناس مانسي ومحمد فطومي.
قرأت دراسة قيّمة كتبها الشاعر والناقد السيد التوي أرشدتني إلى ممرات سرية تؤدي إلى كنوز نصك.. فما علاقتك بالنقد الشعري في تونس والحال أن الشعر عندنا يبدو معطوبا ذاتيا و معرفيا وعلميا ؟
صحيح، الشاعر والناقد سيّد التوي من أوائل من كتب دراسة جادّة ولافتة عن كتابي الأول، “هواء سيء السمعة”. وما أسعدني وأفدت منه، هو تخصيص دراسته تلك للنص الافتتاحي الذي تناوله على أنه قصيدة قائمة بحالها، والحال أنني تقصّدت أن يكون في مقام النص/البيان. وقد أمتعني أن يبحث في شعريته، من الداخل، بأدوات الناقد النبيه. ومرت الأعوام ولم نلتقِ بعدُ لنتداول في الأمر عن قرب.
أما آدم فتحي، الشاعر والمترجم الأنيق، فكانت له مقالةٌ سريعة، لكنها مكثّفة وذكية، أتت على الصّريح والضمني في “مشروع” كتابتي، كأنما كان يتكلم على لساني. كانت قراءة سريعة لكنها نافذة وعالمِة أيضا أثلجت صدري، أنا الذي لم ألتقِ به لأكثر من ثلاثين سنة، تماما مثل الناقد الأستاذ عبد العزيز بن عرفة، في دراسة مطولة عن الكتاب نفسه، بالفرنسية، لم يتسنّ لنا نشرها بعد .
أما أهم الدراسات الأكاديمية العميقة، فكانت من لدن الأستاذ لطيف الشنهي، والذي تناول ظواهر مهمة جدا، توصّل خلالها إلى كشف بعض خصوصيات تجربتي. ولعلها تكون مدخلا لقراءات لاحقة هو الأجدر والأكفأ لا شكّ لملاحقتها. كما أثمن اهتمام الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصّار، المثال الأجدر بالاحتذاء- تونسيا- في اهتمامه بالانتاج الثقافي لأبناء بلده في الصحف العربية التي يكتب فيها، والذي قرأ كتابي الأخير في مقالة نيّرة في الأنديبندت نفسها.
وهذا القليل يكفي شاعرا مقلاًّ مثلي في كل شيء، رغم “تطرفي” المزعوم وغير المفهوم في آن.
هذا جانبٌ مشرقٌ تكذبه انتقاداتك الشديدة للمقاربات الأكاديمية. فهل أنت ضدّ النقد أم ضد الجامعيين في حد ذاتهم؟
فعلا، هناك جانبٌ مظلم فعلا، فأغلب الكتابات النقدية لهؤلاء كتابات “تقليدية” متكلفة، ليس فيها حرارة الموهبة ودقة المعرفة ورشاقة الأسلوب، ما يمكن به محاورة قصيدة النثر التونسية المتقدّمة. أغلبها كتابات مدرسية ومجرد تمرين على البحث بغاية التسلل إلى العشّ الوظيفي الجامعي، وهي أيضا للتكسّب في الملتقيات المجترة. والعجيبُ أنّ هؤلاء ينشرون أعمالا من هذا القبيل، فيتكتّمون عليها، ولا يعرضون حتى فهارسها في صفحاتهم الإفتراضية ولا يتابعون تداولها أو يحرّضون عليه. ولم أفوّت الفرصة للتنبيه إلى ذلك لكنهم يتجاهلون. وأستثني هنا الكاتب مهدي عثمان الذي نشر أكثر من كتاب عن قصيدة النثر التونسية. وإن كنت أثني علي جهده وعلى إطلاعي على ما كتبَ، فلم تسنح الفرصة بعد لمناقشته خاصّة وأنني على نقيض مباشر لخياراته المنهجية غير الملائمة لطبيعة موضوعه، لكنه جديرٌ بالتشجيع.
جميل، هذا يدعو إلى التفاؤل..
أبدا، للأسف. فما يأتيه “كبارُهم” كارثيٌّ وفيه جرائم علمية أكاديمية وأخلاقية حقيقية. ولأنّ الوقائع، في هذا السياق، أبلغ من الوصف والتحليل، إليك ما وقع لكتابي الأول، ومن وراءه، لشخصي:
_ إثر صدور كتابي الأول، اعتزم طالبان، أحدُهما شاعر، على أخذه كمادة للبحث في درجة الماجستير. وإن رحّب أستاذه، الشاعر الد. منصف الوهايبي بالفكرة قائلا إن “ش. س. شاعر مهمّ ويستحق الانتباه”، فإنه صرفهُما بخبثٍ عن الأمر زاعما ” … لكنّه غير معروف وسيء السمعة وأنّ ذلك سيؤثر على مسيرتك العلمية وبالأخص على انتدابك لاحقا “. ولو توقّف الأمر هنا، لهانَ ، أما أن يفرضَ الأستاذُ /الشاعرُ/ الدكتور خياره الذاتي الصرف، ويقود طالبه إلى شاعرةٍ ظهرت لتوّها لم يتجاوز نشاطها حدودَ الصالون أو النادي الذي تديره، بل إنّ كتابها ما يزال مخطوطا – الأمر الذي تمنعه القوانين والأعراف الأكاديمية. أمّا الأسوأ فهو أن يكون ذلك الخيار بداية لتبنٍّ حميميّ سافرٍ لها ليدسّها في الساحة دسّا وتنتشر لبرهة في الأسواق المحليّة والإقليمية، فهذا فيه تجنٍّ ثلاثيّ، على الشاعر الذي هو أنا، وعلى الباحث الشابّ الذي زرع فيه بذرة الخوف والارتياب في أهل العلم والأدب ومؤسساته، وأخيرا على الشاعرة نفسها التي ضلّلها ونفخَ في قامتها ومقامها ما قد لا يسمح به نصّها الناشئ أصلا.
كلّ ذا كان سيهون لو كان الأمر مجرّد نزوة عابرةٍ لولا أن الشاعر نفسه فعل أسوأ من ذلك مع شاعرةٍ لاحقة، دسّها في الأسواق ولوى نحوها الأعناق ليّا، بل إنه جنّد لها المقالات المتناسخة والملفّقة والتي يردّدها صنّاعٌ من ورائه بكونها سيدةُ أسيادِ الشعر الأحدث في تونس، بل هي قاطرةٌ “إدماج الشّعرية التونسية في الشّعرية العالمية“. إنه أمر سخيفٌ فعلا بات للأسف، يتندّر به المتندّرون بدل أن يتناولوه بالدرس والتدقيق. وإن كنت أثرتُ هذا الموضوع في صفحتي، للحث على النظر في هذه “المقاولات” التي باشرها الرجل وفيها تزوير فاضح للساحة الشعرية وتحديدا لقصيدة النثر التي يعاديها جوهريا لينصّب عليها النساء، النّساءَ لا غير، ذواتِ الجدارة الواهيةِ لولا ضربه لأصواتهن في الأبواق لا أكثر، بالقياس إلى شاعرات راسخاتٍ، وإن بكتابٍ واحدٍ لفتَ انتباه الحبيب والعدوّ، من قبيل شاعرتين هما مفيدة الصالحي وسامية ساسي اللّتين سكتَ عنهما سكوتا مريبا لا داعي لنبشِ خيره وشرّه، حتى أنّ أحدهم قال متندّرا: “ربّي يعرف ميمونة والوهايبي ما يعرفش سامية ساسي !”
وعليه، فإنني، وفي سياق معاكسٍ، أقدّر حقّ التقدير القراءة العميقة والنّزيهة التي كتبها ونشرها كلّ من الأستاذ معزّ الوهايبي و الأستاذ الناقد المصري عادل ضرغام بشأن كتاب سامية “لا تلتفت لنراها”، تماما بعض الباحثات الشابات ممن تناولن الكتاب في بحوث الماجستير على غرار نسرين المكي و اسمهان الماجري. وبالمناسبة أيضا، فإنني، وإن كان لم ينتبه لا من قريب ولا من بعيد لتجربتي الشخصية، أثمن الآداء النقدي الصحفي الرصين لرفيق الوهايبي الأسبق، الشاعر محمد الغزي، الذي تابع في مقالات عديدة إنتاج شعراء تونسيين في صحيفة “أندبندنت عربي” بنوع من الجدّ النّزيه والحياد الذي لا تشوبه شائبة انحياز مجاني أو مقايضة مشبوهة، كما هو الحال عند الوهايبي الأكبر.
سؤالي هنا، وقد يبدو، متخلّفا عن سياقنا، ما حال قصيدة النثر بعد الثورة.. أعني، كما تقول أنت بعد “التغيير الثوري المبارك”؟
أحاول أن أوجز بياني في معاينات مباشرة:
أوّلا، إن ما راج، منذ أواخر التسعينات، من أسماء تعتبرُ “مؤسِّسة” لقصيدة النثر التونسية فيه بعض المغالطة خاصة من دون ربطها ببوادرها الجنينية في حركة الطليعة، وبالتحديد انطلاقا من صالح القرمادي، ولوقوفها المتكرر عند أسماء دون أخرى، من قبيل الثلاثي “خالد النجار وباسط بن حسن وفضيلة الشابي” فقط، في ظلّ التفاوت الكبير في المواظبة والمدونة وتحوّلات الرؤية والمشروع، مع تجاهلٍ غريب لتجربة الفقيد الشاعر عزّوز الجملي الذي كان له تأثيرٌ مبكّرٌ مباشر في رؤيتي الشعرية، وبالأخصّ، ارتيابي المبكّر في آلية اشتغال “البطحاء الثقافية” .
ثانيا، قصيدة النثر التونسية من العلامات الفارقة في البلاد العربية راهنا، وفيه أسماء مهمة ظهرت في أواخر التسعينات، وترسّخت في العشرية الأخيرة لها فرادة وخصوصية ورهانات فنية مختلفة جديرة بالانتباه، وأعتزّ بحضورها وإن لم تحصل لي المناسبة للدفاع عنها مثل أعمال الشعراء رضا العبيدي ومنصف الخلاّدي وعبد الفتاح بن حمودة وفتحي القمري. وبالتزامن تقريبا مع التجربة المؤقتة لمحمّد الزواوي ونادر بن سالم في صفاقس. أما في قفصة ومنها، فشكري بوترعة ورياض شرايطي وبالأخص تجربة خالد الرداوي وعبد الوهاب الملوح في متابعاته للشأن الشعري النثري أيضا.
ثالثا، الجيل المنسوب إلى ما بعد “الثورة”، فيه أصوات موهوبة وفاجأتني حقيقة عندما استمعت إليها في المناسبات المعدودات التي رُفع فيها عني حظر المشاركة في أنشطتهم. هو الجيل الذي تبنّاه الشاعر عبد الفتاح بن حمودة وأشهرهُ في المنابر تلك وفي ملفات صحفية وجمّعها تحت لافتة ما سُميّ بـ “حركة نصّ”. وهنا أستثني شاعرا غزير الانتاج وذا فرادة لا يخطئها قارئ، شاعرا متعفّفا، به قرفٌ ساكتٌ من البطحاء الثقافية، لأن به ميلاً “طبيعيا” للمسالمة والمسايرة، هو الشاعر سعيف علي. للأسف، بانَ لي ولغيري أن حماسة بن حمودة تلك لم ترتقِ إلى مرتبة مشروع له استراتيجياته ورهاناته الشعرية والثقافية المنسجمة، بقدر ما كان تجمّعا “شبه نقابي” لإخراج أصوات شابة من مقاعد الدرس أو أرصفة البطالة إلى خارجها، مشتغلا – وهنا الكارثة الذي سكتوا عنها هم أيضا- بنفس أدوات وآليات المشهد الموروث عن النظام الثقافي السابق. وقد كنت نبّهتُ مرارا إلى الخطر الذي يتهدد مستقبل هذه الأصوات، خاصة بعد ما التحق جلّهم بوظائف إدارية ثقافية، ولم يكن لهم ما يكفي من ذخيرةِ المعرفة والخبرة ولا روح التعاون مع من قد يساعدهم في الطريق الأسلم، إلى أن تفرّقوا، وبقي راعيهم، هو أيضا، قيدَ الجحود والنكران. وإن جمعت بعضهم حماقات وزارة الثقافة مؤخّرا، بإجراءات عقابية لمجرّد إبداء رأي مواطنيّ حرّ، الأمر الذي استبقتُ محاذيره، هنا، على صفحات جريدتكم، في مقالات كثيرة. ولأنني حذرت باكرا منه، لم يبقَ لي سوى مراقبة المشهد، متعجبا من بعضهم الذين قاطعوا صفحتي وصفحة سامية باكرا، و”من دون سبب ظاهر”، من قبيل سنية الفرجاني أو سماح البوسيفي ومن شاكلهما في الأخذ المحمود والمذموم من نصوصها.. غير أن ما يدعو إلى الإحباط هو أن تنضم إليهم شاعرة طالما قدّرنا سعيها هي أمامة الزاير، للأسف، تماما مثل آخرين من المهرولين إلى بيت الشعر بالقيروان الذي تحوم حوله شبهات إفسادِ الشعر والشعراء، وخاصة شعراء قصيدة النثر، من خلال خلط حابل المنظوم بالمنثور ومن خلال الإغواء المادي وضخّ أوهام المجد الواهي، قياسا على المرجع الخليجي المعلوم.
بقي أنني كنت وما أزال على يقين من سلامة الموقف النضالي لشاعر أحبه هو خالد الهداجي، لشجاعته وحركته الدائبة في فضح مظاهر الفساد المالي والإداري في “وزارة الشؤون”، تماما مثل الشاعر سامي الذيبي الذي هو من القلائل ممن كانوا يُشهرون مصادقتهم على آرائي النقدية تلك، رغم حدّتها الظاهرة.
شكّلتُما ثنائيا سامية/يوسف قويا ورائعا في الوسط الشعري كيف أفدتُما وبمَ استفدتما من محيطكما الثقافي؟
تقولين ثنائيّ؟ وشعريّ أيضا !؟ نحن لم نفكّر مطلقا في أمر كهذا. كنا، في محيطنا المباشر، ثنائيّا استثنائيا منذ البداية. رغم فارق العمر والجيل، كان رهانُ الحبّ رهانَ حياة، مداره الشّعر، بل الحياة شعرا. وهذا كنّا جاهزين له عاطفيا وذهنيا. وجدت فيها، وهي في العشرين، بذرةً طائشة لا تخيّب. ورغم صعوبات العيش العائلي، ومشادّاتي المهنية/ الثقافية التي ساءت بها سمعتي الإدارية في صفاقس، والتي انعكست مباشرة على مسارها المهني هي أيضا، والذي تعطّل قبل أن يبدأ، صمدنا. صمدت هي ضدّ إحباطاتٍ كثيرة، صمدتُ أنا ضدّ الضيم المركب، المهني والثقافي، بل النّقابي أيضا(!؟ ) بالانهمام بتحصين فكريّ للذات. عادت إلى الكتابة في بداية العشرية الأولى بعد رحلة طويلة من القراءة، الرواية خاصة، إلى أن انبثقت كالعنقاء ولفتت انتباه قراء نوعيين من كل المستويات. وواصلت أنا كتابتي كما لو كانت حربا ضدّ الحماقة السائدة، بلا رهان انتهازي شخصي. كتابُها الذي اشتهرت به، كتابٌ فارق في المدونة الشعرية التونسية. كتبتهُ في عزلتها الموازية. ولم أقرأه كما يجب لسببٍ بسيط ومخيف: كان كتابَ نبوءتها الكامنة. لقد تنبّأتْ بما حصل لاحقا حينما داهمها المرضُ وتوحّش في التنكيل بها وبنا. لقد كانت لها طريقة غريبة في الكتابة: إمّا أنها تنكبّ على النص ليلَ نهار ، تكتب وتقرأ وتشطب، أو أنها تكتبهُ وهي نائمة فعلا. وقد شهدت عن قرب استيقاظها أواخر الليل لتكتب كمن يبصق أو يتقيّأ. صحيح أنها لقيت اهتماما من الجميع، غير أنها للأسف كانت فرصةَ الحمقى لضربي. فكلما نشرتُ كتابا جديدا، أرسلوا إليها دعوةً لأمسية أو ملتقى ! كانت تعرف ذلك وغيره. وقد شجّعتها على أن تذهب لهم وتعاين بنفسها عن قرب، وعادت في النهاية خائبة. غير أنها مسالمةٌ وتتكتّم عليه. فبقينا نقرأ ونكتب ونتسلى أحيانا بالحماقات التي يرتكبها بعض قصيري البصيرة الثقافية.
وفي لحظة انتعاشتنا الشعرية والعاطفية، هي في وسط الأربعين، وأنا بعد التحرر النهائي من مهنةٍ طاردة، سقطنا في هوّة صراعٍ مفتوح مع مرضها الكاسح. ورغم التعاطف والمساعدة المادية من طرف أصدقاء كلمتها، من الشرق والغرب، بل من طرف أشخاصٍ لا نعرفهم أصلا، ساءنا جدا عذابها الفظيع في الأشهر الأخيرة منه. غير أن ذلك لم يُنسنا الحجود الرسمي الذي لا طمع لنا فيه، عدا حالات نادرة. والأهم أنها، في ألمها، كانت توصي فقط برهاننا الشخصي: “اقرؤونا فقط، اقرؤوا شعراءكم بخير!” وأرجو أنكم، في هذا الحديث، وقفتم على “خيره” الكثير..
خيرٌ يقتلُ الشعر والشعراء، وبالأخص، من يفكّر في إدارة الشّعر على غير ما يُدارُ به من طويل.
ماذا تتوقّعُ من الشّعر والشعراء، خاصة بعد كل ما عاينتَ وعانيتَ وكتبت؟ وكيف تتوقع حال تونس لاحقا؟
صحيح أنني أعاين، وإن عن بعد، ما أعاني ويعانيه آخرون. غير أنني لا أتوقع شيئا ذا بال في الأفق المنظور. فأنا أصادق فقط على ما قاله يوما ما سفيان رجب، الشاعر الذي خسره الشعرُ، كأنما هو يؤبنني قبل الأوان: “صدّقوا يأس يوسف خديم الله”. فيأسي الراديكالي ذاك، وإن كان حاصلَ تجربة خبرة مركبّة ومعزولة نسبيا، فهو ليس شعورا أو حالة عابرةٍ. هو حاصل قناعة بضرورة إعادة تركيبٍ ذهنيّ وثقافيّ للعقل التونسي السائد، أيا كانت الجمجمة الحاملة له، جمجة الأميّ كما جمجمة المتعلم. عقل ملوّث بأمراض متوارثة ضاعتفها الهرولة نحو جنة السوق الموعودة التي يقودها، للأسف، “المتعلّمون المعلِّمون”.
وإن كان فيه بعض أمل، ففي بعض من مسّتهُ لوثة القراءة والكتابة لتحرّرٍ ذاتيّ من كل ذلك، من دون أوهام. وعليه، أنا يائسٌ من حاضر الثقافة بإدارةِ مثقّفين/أعوان كهؤلاء، غير أن لي أملا شخصيا يسلّيني لا أكثر في بعض من يكتب خارج دائرة الضوء الاصطناعي وذلّ المؤسسات الرسمية والموازية. هم بعض من أقرأ لهم من بعيد، من قبيل الشاعر وليد التليلي أو فهمي بلطي أو محمود طارقي أو مهدي غانمي أو صابر محمد أو.. وطبعا، ولكي لا يدّعي مدّعٍ أننا “شاعر رجال” أنقم على النساء نكايةً في “شاعر نساء”، فإن في الأفق شاعراتٍ قادماتٍ بروائح خصوصية من قبيل لمياء المقدم أو نسرين مسعودي وفاطمة كرومة أو زينب هدّاجي وخديجة غزيّل أو، من الجيل الأصغر جدا، سهى الجربي، بل أخريات سبقهن في الظهور، أرجو أن يتداركن ألاعيب البطحاء التي بها أعوانٌ كالتجار، يجرون النساء إلى السوق، من الأظافر.
أما الآخرون من المطمئنين، المستندين إلى تحيّلات فايسبوك ومشتقاته أو المؤسسات الرسمية أو الموازية، أو إلى الواجهات الثقافية الواهية، أولئك الماسكين للعصا من وسطها، فأدعوهم فقط إلى الارتياب في “نجاحاتهم” وإلى أن يتركوا لـ”الفاشلين” مثلنا، فرصة أن نتعلّم من فشلنا أو نفخرَ بسقطاتنا ، لا لنفوزَ بالجزرة، بل لنعرفَ موضعَ ضرب العصا على الأقلّ..
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 3 اكتوبر 2023