الشارع المغاربي- الافتتاحية: لم يكن تمرير مشروع دستور الرئيس قيس سعيّد مفاجئا لكلّ متبصّر ومدرك لخصوصيّات المشهد السياسي التونسي. ومع ذلك فإنّ النسبة الإجماليّة للمشاركة في استفتاء يوم 25 جويلية لم تتجاوز حدود 28 بالمائة. وهو ما يعني أنّ التونسيّين، في معظمهم، قرّروا مقاطعة الاستفتاء وحرموا رئيس الجمهوريّة من شرعيّة شعبيّة كثيرا ما تباهى بها… من المؤكّد أنّنا سنُمضي أيّاما وأسابيع وأشهر إلى غاية تنظيم الانتخابات التشريعيّة، ونحن نستمع لاستطوانة مكرّرة، يملّ كلّ شخص سويّ نغماتها، في حين يؤكد رئيس الجمهوريّة عبرها على النجاح الهائل ومنقطع النظير للاستفتاء.
تماما مثلما زعْمِه مرارا وتكرارا النجاح الباهر للاستشارة الإلكترونيّة، والحال أنّ تلك الاستئارة لم تلمس إلّا ما دون 5 بالمائة من التونسّيين. لن نخوض كثيرا في مضمون الدستور الجديد الذي مرّره سعيّد بقوّة الأمر الواقع، فبصرف النظر عن شتّى المراوغات والمناورات للالتفاف حول كنه المسمّيات الكبرى كالحوار الوطني الذي أفرغه رئيس الدولة من أيّ معنى، مستغفلا عددا من خبراء الحظوة المؤقتة، فإنّ الانطباع العام اليوم هو أنّ الاستفتاء كالدستور برمّته ليس إلا ابتكارا من وإلى قيس سعيّد نفسه. والمقصود بذلك أنّ من شاركوا في الاستفتاء إنّما صوّتوا بـ”نعم” اختيارًا لشخص قيس سعيّد وليس قناعةً بمضامين مشروع الدستور الجديد الذي يمنح رئيس الجمهوريّة صلاحيّات إمبراطوريّة. فعلى الأرجح أنّ معظم من اختاروا دستور سعيّد لم يطلعوا عليه. وهي مهام تركوها لمقاطعي هذا الاستفتاء المتعجّل الذين تجاوزت نسبتهم عتبة 73,46 بالمائة. وفي كلّ الأحوال، فوّت هذا الاستفتاء أهمّ قيمة رمزيّة طالما تمسّك بها رئيس البلاد في كلّ خطبه وتصريحاته، وهي أنّ “الشرعيّة تعود إلى الشعب الذي يريد”. والحال أنّ حوالي ثلاثة أرباع هذا “الشعب” اختار أن يفعل كلّ شيء، يوم 25 جويلية 2022، إلّا التحوّل إلى مراكز الاقتراع العام للبتّ في أمر دستور جديد يُحدّد المعالم الأساسيّة لنظام بلادهم، المنحبسة آفاقها أصلا.
إذن عن أيّة شرعيّة وأيّة مشروعيّة يتحدّث هؤلاء المتزلّفون في التلفزة الوطنيّة عند الإعلان عن نسبة المشاركة في الاستفتاء؟!، وكأنّهم يتكلّمون لغة أخرى لا يفهمها أصحاب العقل مطلقا. وليس غريبا، في الحقيقة، أن تصطبغ كلّ مرحلة ببهلونيّيها الجدد من السياسيّين والخبراء المتسلّقين لعباءة صاحب السلطة مهما كان، دون اعتبار للحدّ الأدنى من المنطق والأخلاق. فليلة أمس مثلا أمعن مدرّس القانون رابح الخرايفي، على منبر القناة الوطنيّة الأولى، في تلميع صورة رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد وإنجازه الاستفتائي التاريخي والشرعيّة الكبرى التي حازها. وفي الآن ذاته لم يتوان عن تعميم شتمه للتونسيّين، قائلا حرفيّا وصراحة وبلا أدنى احتشام إنّ “التونسي قذر”، وذلك في توصيفه للمفارقات السلوكيّة لدى التونسيّين. ووفق هذا المنطق التعميمي الأخرق، لا ندري كيف يمكن الحديث عن شرعيّة شعبيّة إذا كانت صادرة أصلا عن أشخاص قذرين وبلا أخلاق، قياسًا بقول أحد منظري شرعيّة التطبيل تحت مظلّة الخبير في القانون الدستوري. عموما لا يسعنا إلا أن نردّد المثل القائل “شرّ البليّة ما يضحك” ونحن نتابع المتحدّثين عن ملهاة هذه الشرعيّة. وهو ما يُذكّرنا بذاك المشهد المنتشر أمس بمناسبة حملة مناصرة الاستفتاء لشاحنة من نوع “ديماكس” تحمل على متنها جمعا من النساء والرجال يغنون “وعليك وهرة يا سعيّد”، وكأنّه بمثابة إعادة لمشهد الطبول والمزامير التي كانت رائجة كثيرا زمن بن علي، وحتى خلال بعض المواعيد الانتخابية بعد الثورة المطعونة. لا فرق هنا بين نافخ “الزُكرة” المتطوّع البسيط وخبير القانون الدستوري الذي يُكلّف نفسه بإضفاء المشروعيّة والشرعيّة الشعبيّة على ما تُفنّده الأرقام ولا يحتاج لتأويل المؤوّلين.
هكذا ترانا نحتفي اليوم بمرور عام بالضبط على إطلاق الرئيس قيس سعيّد وعود زبديّة بتغيير الأحوال الاجتماعيّة والاقتصاديّة البائسة للبلاد ومعظم شعبها. حينها ابتهج الكثيرون لنجاح الرئيس في افتكاك زمام المبادرة السياسيّة ووضع حدّ لحالة التهريج المستشري في البرلمان، والتحرّك في اللحظة الصفر لتفويت الفرصة على جماعة الإخوان في اقتسام المزيد من التعويضات على حساب التونسيّين. وعود وانتظارات أخلف رئيس الدولة للأسف بأغلبها في ظلّ اتساع الأزمة إلى كافّة الاتّجاهات والمجالات، باستثناء تجميع السلطات ومراكمة الصلاحيّات والانفراد بكافّة القرارات. وفي الآن ذاته ادّعاء تقمّص شرعيّة شعبيّة أسقطتها مقاطعة معظم التونسيّين للاستفتاء المهدور يوم الأمس…
. نشرت بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 26 جويلية 2022