الشارع المغاربي – "ملف البحيري": هل استقوت المحاسبة أم ضلّت طريقها؟!/ بقلم: معز زيود

“ملف البحيري”: هل استقوت المحاسبة أم ضلّت طريقها؟!/ بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

8 يناير، 2022

الشارع المغاربي: قضيّة «المحاسبة» كانت ولا تزال أحد أهمّ العناوين في خطاب رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد منذ إعلانه عن قرارات 25 جويلية 2021 وما تلاها. ورغم الضجّة التي أثيرت، خلال هذه الأيّام، بشأن فرض الإقامة الجبريّة على القيادي بحركة النهضة نور الدين البحيري، فإنّ مسألة مساءلة معظم من لمّح رئيس الدولة لمحاسبتهم لا تزال عمليّة جنينيّة طال مخاضها ولا تعكس بهرج البدايات. فأيّة دلالات لهذا المخاض العسير؟!

أهمّ ملاحظة يمكن أن نسوقها حول التجاذبات السائدة في المشهد السياسي التونسي، خلال الفترة الأخيرة، أنّ لا أحد من أبرز الفاعلين السياسيّين، أيّ رئيس الجمهوريّة أوّلا وخصومه ثانيا وفي مقدّمتهم قايديي حركة النهضة، قد قام بالمراجعات السياسيّة الضروريّة التي تفرضها المرحلة أو على الأقلّ أخذ بعض العبرة من الأخطاء القاتلة لما قبل درس 25 جويليّة.

يبدو أوّلا أنّ ولع الرئيس قيس سعيّد بتسيير كلّ أمور الدولة بمفرده وبشكل عمودي جعله غير قادر على استقراء التغييرات التي شابت المجتمع السياسي التونسي، وخاصّة بعد الثورة. فمِمّا لا ريب فيه أنّ التقلّبات التي عاشتها تونس بعد عام 2011 قد أبانت أنّه لم يعد بمقدور أيّ كان أن يحكم هذه البلاد حكما مطلقا أو أن يتصدّر التلّة وعرش الحكم، دون أن يُنصت للآخرين ولا يراهم إلّا مجرّد بيادق أو أقنان عليهم أن يكتفوا بالولاء والطاعة العمياء، مهما كان الخطاب تعبويّا وشعبويّا ومهما اجتمعت في يده من سلطات وصلاحيّات.

رسائل مشفّرة

كان من المنتظر إذن أن يؤدّي إصرار رئيس الجمهوريّة على رفض الحوار والتشاور، مع الفاعلين في المشهد العام ممّن هم خارج قصر الرئاسة، من شخصيات وأحزاب ومنظمات، إلى التشويش على الانخراط في نهج المساءلة والمحاسبة للضالعين في التجاوزات والفساد بمختلف أضلعه السياسيّة والماليّة والأمنيّة. فلا يخفى أنّ حالة الارتباك المتّصلة بقضيّة المحاسبة ليست وليدة الإجراءات المعلن عنها هذه الأيّام، بل انطلقت بُعيد قرارات 25 جويليّة، وتحديدا منذ إيداع بعض السياسيّين والمسؤولين رهن الإقامة الجبريّة في ظلّ هالة من الغموض ودون التصريح بطبيعة التجاوزات المنسوبة إليهم. ووفق ما يبدو أنّ الملفّات الأمنيّة المعتمدة في استهداف بعض الشخصيات بالإقامة الجبريّة كانت شبه فارغة من الحجج والبراهين أو تكاد. وهو ما يعني عمليّا أنّ تلك الإجراءات الزجريّة لم تكن سوى فرقة من دون صوت للاستهلاك الشعبي العاجل أو على الأقلّ «بالونات اختبار» ورسائل مشفّرة للمعنيّين بتلك الإيقافات أو الإقامات الجبريّة، المقصود منها «تحييدهم» أو ربّما إلزامهم باختيار الصفّ الذي عليهم الوقوف وراءه. وعلى سبيل المثال فإنّ وضع عدد من المسؤولين السابقين ممّن عملوا تحت إمرة يوسف الشاهد زمن ترؤسة للحكومة لا هدف من ورائه إلّا توجيه رسالة تحذير إلى الشاهد نفسه. وقد لوحظ فعلا أنّ يوسف رئيس الحكومة الأسبق المذكور أعلاه لم ينتقد علنا تلك الإجراءات بل أعرب غير مرّة عن إشادته بسياسة الرئيس قيس سعيّد، رغم قربه الشديد سابقا من قيادة حركة النهضة التي حالت دون تمكين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ونجله من إقالته.

في هذه الحالة، لا يمكن الحديث عن مجرّد قرارات مرتبكة أدّت إلى فشل جهود المحاسبة وإنّما عن مناورات سياسيّة مدبّرة ومعروفة المآلات منذ البداية بالنظر إلى عدم وجود إثباتات لشبهة التجاوزات الجنائيّة المتداولة بشكل غير رسمي عن الموقوفين أو المودعين في الإقامة الجبريّة والممنوعين من السفر، دون أذون قضائيّة.

أمّا في ما يخصّ الإجراءات الأخيرة المتعلّقة تحديدًا بإيداع القيادي بحركة النهضة نور الدين البحيري في الإقامة الجبريّة، فإنّه لا ينبغي أن ننسى أنّ رئيس الجمهوريّة كان قد تحدّث عنه شخصيّا منذ أشهر عدّة، دون أن يُسمّيه، ووجّه إليه تهما جنائيّة خطيرة جدّا، وذلك في نطاق حديثه عن معضلة الفساد الذي نخر الجسم القضائي زمن حكم الترويكا. ولا يخفى عن القاصي والداني أنّ البحيري كثيرا ما رُوّج عنه أنّه لم يدّخر جهدا، حين تولّى وزارة العدل، في توظيف المنظومة القضائيّة لخدمة خيارات حزبه ومهادنة ذوي شبهة الإرهاب، وتمكّن من استقطاب عدد غير هيّن من القضاة اعتمادًا على سياسة الترغيب والترهيب، عبر ما كان يتّخذه آنذاك من إجراءات تأديبيّة وحركة قضائيّة. هذا بعض ما كان ولا يزال يُروّج على نطاق واسع حول ممارسات البحيري في قطاع القضاء، دون اعتبار ما يُنسب إليه اليوم من تهم «رئاسيّة» تخصّ التلاعب بمنح الجنسيّة التونسيّة وجوازات السفر لعدد من الأجانب على غير الصيغ القانونيّة، ولكن دون الكشف عن حجج وبراهين تؤكّد تلك التهم أو تنفيها.

رأس الحربة

من المرجّح إذن أنّ رئيس الجمهوريّة قد أذن للأجهزة الأمنيّة المعنيّة، منذ أشهر عديدة، بإعداد «ملف البحيري» ذي الصلة واستكمال ما يعوزه من أدلّة، لا فقط سعيًا إلى تفنيد ما يتواتر من حديث عن «انفلاتاته الخطابيّة» دون أن يكون لها مضمون ملموس أو أن يمضي إلى تفعيلها، ولكن أيضا لإضفاء مشروعيّة على الدواعي التي دفعته إلى اتخاذ قرارات 25 جويلية وما بعدها والتزامه بنهج المحاسبة. وفي هذا المضمار تحديدا، تتنزّل المعطيات التي ساقها وزير الداخليّة توفيق شرف الدين، ضمن مؤتمره الصحفي أمس، لاسيما أنّه لم يكتف بالحديث عن قضية جوازات السفر وشهادات الجنسيّة، بل أيضا عن رصد «تحرّكات غير عاديّة ومتعدّدة أثارت مخاوف من القيام بردّ فعل في البلاد، خاصّة في الوضع الحالي»، وفق ما ذهب إليه.

ومع ذلك، فإنّ بعض ما ورد على لسان وزير الداخليّة يُثير الغرابة، وتحديدًا تبريره اتّخاذ قرار وضع نور الدين البحيري رهن الإقامة الجبريّة بقوله: «أعلمت النيابة ووزيرة العدل، لكن أمام التراخي اتّخذت قراري»… فكيف للنيابة العموميّة التي تأتمر بأوامر وزيرة العدل أو الوزيرة نفسها التي اختارها الرئيس قيس سعيّد أن تتراخى في التعاطي مع قضيّة ذات أولويّة بالنسبة إلى رئاسة الجمهوريّة كملف البحيري؟!. منتهى التوصيف السياسي إذن أنّ وزير الداخليّة هو المخوّل لتفعيل «الأمر 50 لسنة 1978 المتعلّق بتنظيم حالة الطوارئ» وليس وزيرة العدل. وفي المقابل، فإنّ القضاء «المرتبك» أو «العاجز» و»المورّط» في مهادنة بعض «الخصوم» السياسيّين «الضالعين» في ارتكاب تجاوزات جنائيّة خطيرة، وفق الخطاب الرئاسي المتواتر، لم يمض بعد في تفعيل ما طُلب منه ولم يشأ تغيير ذاته وممارساته المهنيّة.

ومن جانبه فإنّ البحيري، باعتباره رأس حربة في حركته، لم يهدأ ولم يستوعب الرسالة الضمنيّة من تصريحات رئيس الجمهوريّة بشأنه قبل أشهر عدّة، بل انبرى ينفخ في النار المستعرة. وبذلك تخلّى عن النهج المخاتل الذي عُرف به منذ بداية زمن الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، حين وقّع على الميثاق الوطني باسم «الاتّجاه الإسلامي» المحظور، ممّا حماه آنذاك من الجزّ به في السجن على خلاف «إخوانه». وربّما لم يع البحيري كذلك خطورة موقفه القانوني، بعد أن هدأت عاصفة تصريحات الرئيس قيس سعيّد، ولاسيما بالنظر إلى بقاء بعض طموحاته في خلافة راشد الغنوشي على رأس حركة النهضة…

صناعة الأكاذيب

لا غرابة إطلاقا أيضا أن يعرف المشهد السياسي مثل هذه الضجّة الصاخبة بشأن إيداع البحيري في الإقامة الجبريّة، بصرف النظر عن مكانها ببنزرت أو بأيّ مدينة أخرى. فهو أوّل إجراء يستهدف قياديّا نهضويّا من صميم الصفّ الأوّل. وهو يعني، من بين ما يعنيه، أنّه يرفع الورقة التي كان يتدثّر بها العديد من منتسبي المنظومة القضائيّة وقد تدور عليى بعضهم الدوائر قريبًا. والأخطر من ذلك أنّ هذا الإجراء يُنبئ ببدء الرئيس قيس سعيّد تفعيل تهديداته إزاء ألدّ خصومه. وهنا تحديدا يكمن بيت القصيد المفجع لعدد من قيادات حركة النهضة، بمن فيهم من يدّعي الاستقالة منها، وذلك عملا بمقولة «أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض». يتعلّق الأمر إذن بمحاولات تجييش الأنصار للدفاع عن الذات، لا تحديدا للدفاع عن نور الدين البحيري في شخصه.

ومن هذا المنطلق تُباح إذن كلّ السبل، بما في ذلك ترويج أشدّ الأكاذيب. فالغاية لا تهتمّ بالوسائل. ومن ذلك أنّ المحامية سعيدة العكرمي زوجة نور الدين البحيري كانت قد ذكرت أمس خلال الندوة الصحفيّة لهيئة الدفاع عن البحيري أنّ عميد المحامين ابراهيم بودربالة قابل البحيري دون أن يتمكّن من رؤية المكان وأنّه قال لها إنّ زوجها كان في غرفة بلا طعام ولا شراب ولا دواء!. كيف كان ردّ عميد المحامين إبراهيم بودربالة على هذا الادّعاء، قال بوضوح إنّ «مسألة أنّه تمّت تغطية عيني خلال الذهاب لزيارته كذب وبهتان وهذا عيب… تمّ استقبالي بكلّ احترام لشخصي ولمهنة المحاماة وذهبت لمكان إقامة البحيري بكلّ احترام للمهنة وهذا الجدل عقيم… المكان هو مكان إقامة تتوفّر فيه ظروف عاديّة وكان هناك أعوان بالزي الرسمي للحراسة».

لا ضير كذلك والحال هكذا من توظيف قطاع المحاماة، وكأنّ التهم الموجّهة إلى البحيري تستهدف عموم المحامين. وفي هذا الصدد تتواتر الأكاذيب المروّجة هنا وهناك عن «الاختطاف»، فالأمر لا يتعلّق بمجرّد مغالطات، بل بأكاذيب فاضحة أصلا، كما القول إنّ عمل بعض أسلاك الأمن بالزيّ المدني بدعة جديدة لم تحصل سابقا ولا وجود لها في أعتى ديمقراطيّات العالم!.

ولسائل أن يسأل ويتساءل: هل تجهل قيادة حركة النهضة و»هيئة الدفاع عن البحيري» وجود «الأمر 50 لسنة 1978 المتعلّق بتنظيم حالة الطوارئ»؟ وهل أنّ حركة النهضة ضدّ تفعيل هذا الأمر أصلا؟ وهل أنّ كافّة الحكومات السابقة ورؤساء الجمهوريّة السباقين، بما في ذلك محمد المنصف المرزوقي، كانوا يرفضون هذا الأمر ولا يريدون تفعيله؟

طبعًا لا، فلا أحد من الحكومات السابقة التي كانت حركة النهضة تقود بعضها أو على الأقلّ تشترك في صناعة قرارها، تجشّمت الجرأة على تغيير الأمر المذكور المتعلّق بتنظيم حالة الطوارئ الذي يمنح وزير الداخليّة وفق القانون باتخاذ قرار وضع أيّ شخص رهن الإقامة الجبريّة. فقد كان من صلاحيّات الرئيس الأسبق منصف المرزوقي مثلا أن يُلغي ذلك الأمر الذي أصدره غريمه التاريخي الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ويُعوّضه بآخر، كما كان بإمكان الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي أن يبادر بالفعل نفسه مثلما ألغى أوامر أخرى. وكان بإمكان حركة النهضة طبعا أن تؤثّر في اتّجاه اتّخاذ قرار إلغاء الأمر المذكور، أو على الأقلّ إثارته وجعلها من أولويّاتها بمجلس نوّاب الشعب، لكنّ كلّ هؤلاء كانوا يرفضون رفضا قاطعا المساس بهذا الأمر «المقدّس» لغاية في نفس يعقوب، تكمن تحديدا في استخدامه عند الحاجة. ومع ذلك تصل الأكاذيب اليوم في توصيف تفعيل الأمر المذكور إلى درجة الحديث عن اختطاف، عملا بالمثل الشعبي القائل: «الكذب في المصالح جايز». فإذا كان المجتمع برمّته لا يتورّع عن إضفاء المشروعيّة على ممارسة الكذب الرسمي بشكل لا يُصدقه إلّا السُّذج وهم كُثر، فماذا ننتظر من عموم السياسيّين التونسيّين، سواء أكانوا سياسيّين علمانيّين أم إخوانا مسلمين؟! سيلجؤون لا محالة إلى أيّة وسيلة للوقوف ضدّ المساءلة والمحاسبة إذا ما تعلّقت بهم.

هنا تكمن إذن أهميّة قضيّة البحيري ورمزيّتها، باعتبارها تُشكّل اختبارا حقيقيّا للقضاء التونسي، وخاصّة لرئيس الجمهوريّة، علّه يمضي فعليّا وعمليّا في نهج المحاسبة الحقيقيّة ولا يكتفي بدوره بالخطاب الموارب الذي يبقى حبله قصيرا تماما كما الكذب!.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 4 جانفي 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING