الشارع المغاربي: نصّ المرسوم عدد 10 المؤرّخ في 8 مارس 2023 والمتعلّق بتنظيم انتخابات المجالس المحلية وتركيبة المجالس الجهويّة ومجالس الأقاليم في الفصول 21 و22 و27 و32 و35 على إجراء القرعة بين المترشحين للمجالس الوارد ذكرها في المرسوم، وهو أمر لافت للنظر إذ لم يدر بخلدنا أنه يمكن أن تعود تونس في إدارة الشأن العام إلى القرعة التي تنفي ببساطة شرطَي الكفاءة والمقبوليّة لدى الناس لتسود العشوائية والفوضى.
وبالبحث تبيّن أن محرّر المرسوم المذكور استند في ذلك إلى الفصل الخامس من الدستور الذي ينصّ على أن الدولة مكلّفة بتحقيق المقاصد الشرعية وعلى ان من بين أدواتها القُرعة وهي مبحث فقهي تعود جذوره إلى ما قبل الإسلام حيث عرف العرب الاستقسام بالأزلام ومفاده أن: “الأزلام سهام كانت لأهل الجاهلية مكتوب على بعضها “أمرني ربّي” وعلى بعضها “نهاني ربّي”. فإذا أراد الرجل سفرا أو أمرا ضرب تلك القداح فإن خرج السهم الذي عليه “أمرني ربّي” مضى لحاجته وإن خرج الذي عليه “نهاني ربّي” لم يمض في أمره”(1). هذه العادة بقيت حاضرة بعد انتشار الإسلام وصنّف لها الفقهاء مباحث تحت مُسمّى القرعة محدّدين مجالاتها وشروطها وكيفية القيام بها وغير ذلك ممّا سنأتي على بعضه في ما يلي. وقد استند الفقهاء لإثبات مشروعيّة القرعة على الآية 44 من سورة آل عمران: “وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم”، حيث اختلف زكريا مع بني إسرائيل حول حضانة مريم فاتفقوا على رمي الأقلام في النهر ومن وقف قلمه ولم يجرِه الماء فهو حاضنها. بعد رمي أقلامهم في الماء قُرع لزكريا بحضانة مريم(2). ومن السنّة عن عائشة رضي الله عنها قالت “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه”(3). ولأن الرسول شرّعها احتلّت القرعة موقعا متميزا في الدراسات الفقهيّة. يقول القرطبي في تفسيره: “هي أصل في شرعنا لكلّ من أراد العدل في القسمة”(4) ومجالاتها متعدّدة من بينها تعيين الإمام في الصلاة عند الاستواء في الصفات وفي تغسيل الميت عند تساوي الأولياء. والقرعة بين النساء في ابتداء المبيت لأن تعيين واحدة لذلك هو تفضيل لها على البقية. لذا اعتبر الفقهاء القرعة تسوية بينهن وإذا اشترك رجلان في وطء امرأة فأتت بولد يُقرع بينهما ويكون لُحُوقُهُ بالوطء لا بالقرعة(5). كل هذا الى جانب القرعة في الطلاق وفي عتق العبيد وفي الحضانة وفي تنازع أولياء الدم في القصاص وغير ذلك.
أما عن كيفية إجراء القرعة فقد ذكر الفقهاء أنها تتمّ إمّا بكتابة الأسماء أو بكتابة أجزاء المقسوم في رقاع ليقع السحب بعد ذلك. ولأن رجال الدين يتصيّدون كل جديد لاستعماله حتى في غير ما وُضع له التقطوا الحاسوب والأجهزة الحديثة التي دخلت الحياة المعاصرة وجعلوها هي الأخرى طريقا ثالثا لإجراء القرعة لنجد في نهاية الأمر من يقول: “تنفيذ القرعة عن طريق أجهزة الحاسب بعد إدخال البيانات والأسماء”(6). والذي نخلص إليه أن هذا النوع من الحلول الفقهية لِما اختُلف فيه قد يكون مقبولا في ما سبق من الزمان. أمّا اليوم فمع التقدّم العلمي والتطوّر الذي عرفته البشرية في مختلف المجالات لم يعد من الممكن حدوث الالتباس في تحديد الحقوق التي يمكن ضبطها بدقة متناهية. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى مسألة الحكم لا يمكن أن تترك للقرعة أو للاختيارات العشوائيّة التي لا تفرز إلا الأسوأ لأنها مسألة حياتيّة تتعلق بالأمة وبموقعها بين الأمم والحفاظ على استقلالها ومصادر قوّتها بحيث لا يجوز أن تُترك للصدف وللأهواء. فاختيار الحاكم يكون باعتبار الكفاءة والمقبولية. اليوم انحصر وجود القرعة في تحديد المتنافسين في المقابلات الرياضية أو في الميسر والقمار وحتى بالنسبة للقرعة بين النساء فقد انتفت لأن التعدّد في الزوجات مُنع. أما بالنسبة للحكم فقد أبعدت التجربة الإنسانية القرعة عن كلّ ما يتعلّق به لأنه لا يثبت إلا بالغلبة أو بالانتخاب وبرضا الناس. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى الحكم تكليف وأمانة يستلزم القيام بها شروطا تندّ عن الحصر ولا تتوفّر إلا في من اجتهد للحصول عليها. ولهذا السبب بالذات تؤسّس الدول والأحزاب مدارس لتكوين الإطارات التي لا يتم تصعيدها في سلّم المهام إلا بعد التجربة والنجاح فيما كُلّفت به وهو ما يحفظ للدولة وللحزب كذلك الاستمرارية بمراكمة النجاحات والاستفادة من الإخفاقات.
أما اللجوء إلى القرعة فهو يصدر عن قناعة بأن الحكم منفعة وكعكة من المصالح يجب أن يتداول عليها الناس جميعا دون النظر إلى كفاءتهم وملاءمة تكوينهم العلمي وخبراتهم للمهام التي ستناط بعهدتهم. والغريب أنه تمّ استثناء كل من تتوفر فيهم الشروط التي تضمن النجاح في هذه المهمّة في الفصل 17 من المرسوم كالقضاة وإطارات الولاية والبلدية وغيرها من الإدارات ومحاسبي المالية ورؤساء الهياكل والجمعيات الرياضية وغيرهم وهو ما يؤكد لدينا القناعة بأن هذا النوع من المجالس سوف يكون خلوا من أية تجربة أو قدرة على الاقتراح والمتابعة لِما عليه مكوّنات لا همّ لها سوى الالتحاق بالمجلس عن طريق القرعة التي تقع كل ثلاثة أشهر حسب ما ورد في الفصلين 22 و32 من المرسوم. هذه المدّة الزمنيّة القصيرة تمنع إمكانية متابعة تنفيذ أي برنامج لتغيّر أعضاء المجلس ولكنها تمكِّن من ترضية مختلف المترشحين وهو ما يوحي بأن محرّر المرسوم يستهدف من ذلك تجميع الناس حول السلطة ومنافعها وليس خدمتهم لأن خدمة الشعب لا تتأتى إلا من خلال اقتراح البرامج وليس عن طريق القرعة والانتخابات التي تُغيّب فيها الكفاءات. هذا الأسلوب في التعامل مع الحكم ومستلزماته الذي يستند إلى القرعة يحمل من المحاذير الشيء الكثير لأنه كفيل بأن يفرز الأسوأ. فلا مجال للعشوائية في تحديد مصائر الأمم والشعوب، وهو ما تفطن اليه أحد أقدر السياسيّين في تونس في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر حيث يروي ابن أبي الضياف في تاريخه أن الوزير الأكبر يوسف صاحب الطابع قال: “ونخشى أن الناس إذا لم يكن لهم منهج مسلوك ينظرون لأنفسهم، والعامة إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل”(7) ويضيف صاحب الإتحاف أن من علامات سقوط المُلْك بجانب ما ذكر: “أن يستكفي المَلِك بالأحداث وبمن لا خبرة له بالعواقب… واستهانته بنصائح العقلاء وأراء ذوي الحكمة”(8). فاختلاق الشعارات الوهميّة كالشباب مقابل الأكفاء والعامّة بديلا عن الخاصّة من أصحاب الرأي والقُرعة عوضا عن المقبوليّة الشعبيّة والانتخاب كل ذلك مؤذن بالإفلاس والسقوط الحتمي لأنه بُني على غير هدى وبصيرة. ووجب حتى نحمي البلاد من الفوضى والعشوائية وسوء التدبير أن نستأنس بقول الأفغاني: “أَنِ الحكم إلاّ للعقل والعلم”(9) وليس للقرعة أو الفصل الخامس من الدستور.
———————-
الهوامش
1) لسان العرب ج12 ص478 طبعة دار صادر بيروت، عن الضرب بالقداح عند العرب انظر “السيرة النبوية” لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، نشر دار القلم بيروت، ج1 ص160 وما بعدها، و”المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام” الدكتور جواد علي الطبعة الثانية 1993، ج6 ص776.
2) الجامع لأحكام القرآن” للقرطبي، تحقيق عبد الله التركي ومحمد رضوان عرقسوسي، طبع مؤسّسة الرسالة بيروت لبنان 2006، ج5 ص131.
3) صحيح البخاري، الحديث رقم 2593 ورقم 2688.
4) تفسير القرطبي، ج5 ص 132.
5) المغني لابن قدامة تحقيق عبد الله تركي وعبد الفتاح الحلو، دار عالم الكتب الرياض، الطبعة الثالثة 1997،ج8 ص371.
6) القُرعة في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة” للدكتور عبد الله بن مقبل القرني، مجلة “الدراسات القرآنية”للجمعية العلمية للقرآن الكريم وعلومه، الجزء الأوّل العدد الثاني، سنة 2007 ص231.
7) الإتحاف لابن أبي الضياف، ج3 ص93.
8) المصدر السابق ج3 ص202.
(9خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني” تحرير محمد باشا المخزومي، دار الحقيقة بيروت 1980، الطبعة الثانية، ص83.
*نشر بأسبوعية”الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 21 مارس 2023