الشارع المغاربي: تعيش الإنسانية اليوم حالة من الفزع جرّاء تفشّي وباء كورونا. ولست أدري هل سيكون هناك تغيير جوهري في نمط حياتنا. ومع ذلك أزعم أنّ هذا الفيروس الذي خلخل النظام العالمي المعولم سيعيد ترتيب البيت من جديد ولو جزئيّا وأردت هنا أن أقدّم رأيي الخاص بالتّغيّر الممكن في ممارسة السلطة لاسيّما داخل العالم الرّأسمالي.
قدّم ميشال فوكو فرضيّة أصبحت اليوم مشهورة وهي أنّ السلطة غيّرت منهجيّتها بداية من القرن التاسع عشر باعتبارها انها لم تعد تستعمل الموت سلاحا أساسيا للحكم (الإعدامات العموميّة) إنّما طوّرت تقنيات مختصّة تستعمل القبض على تلابيب الحياة وتطبّقها على الأجساد والسكّان أي ما سمّاه بـ”السلطة الحيويّة” التي انضافت إلى سلطة الضبط والمراقبة والمعاقبة.
طبعا فوكو حلّل تصوّر السلطة ونمط عملها انطلاقا من حاضر عصره عندما كان العالم في أغلبه تحت سيطرة النظام الليبيرالي الرأسمالي. أمّا اليوم وبعد التسعينات من القرن الماضي أصبح العالم يرزخ تحت وابل مصائب ما يسمّى بالليبيراليّة المكثّفة L’hyperlibéralisme. ففي كتابي “فلسفة الحياة اليوميّة” الصادر سنة 2009 ذكرت أنّ هذا النظام الجديد للعالم يقوم على ممارستين للسلطة تتحكمان في العالم وهما سلطة الاستعمارية وسلطة العنصريّة. فالاستعماريّة تتحكّم في العلاقات البشريّة على المستوى الدولي وذلك بالتحكّم في تنقّلاتهم وفي نمط عيشهم.
أمّا السلطة العنصريّة فتتحكّم في العلاقات البشريّة داخل الوطن بالتفريق بين أهل البلد والأجنبي. فالسلطة الحيويّة هي التي تتحكّم بصفة غالبا ما تكون سريّة لا في نمط حياتنا وكيفيات موتنا فقط بل وأيضا في ذات الحياة وكنه الموت والمؤسّسات التابعة للدولة كمراكز العلاج والمستشفيات وديار العجّز وغيرها والتي هي آليات هذا التحكّم.
والجديد في الليبيراليّة المكثّفة والمتوحّشة هو أنّ غالب هذه الآليات لم تعد بيد الدولة وحتّى المستشفيات التي بقيت تابعة لها وهي الآن عاجزة على أداء وظيفتها كما يجب. وأصبحت الصحّة تُشترى بالمال وقد فضحت أزمة كورونا أسّ هذا النّظام الرأسمالي المكثّف الذي نستطيع تلخيصه في هذه الجملة المعبّرة “المال قبل الرجال”.
لذلك ازدادت هذه السلطة الحيويّة وحشيّة عندما قامت حسب قاعدتي العنصريّة والاستعماريّة بعمليّة فرز وفصل تقوم على تعبيرين لفوكو “اتركوهم يموتون” و”اتركوهم يعيشون” « laisser les mourir » et « laisser les vivre ». ففي أمريكا تركوا الفقراء الذين يعيشون في غياهب دهاليز نيويورك وأكثرهم من السود يموتون. كذلك في فرنسا فقد تركوا للموت عرب مدينة سان ديني بعدما فعلوا نفس الشيء مع المسنين والمسنّات. وفي الكويت كانت القسمة واضحة بين أهل البلد والمقيمين الذين مكانهم حسب صحفيّة كويتيّة في الصحراء والأمثلة كثيرة. وهكذا فإن الإنسانيّة بالنسبة للرّأسمالية المكثّفة إنسانيّتان: إنسانيّة للحياة وأخرى للموت…
أقترح إذن مفهوما جديدا هو الفرز في الممارسات السلطويّة الحيويّة وهو نتيجة لمفهومين : الاحتقار والاستصغار.