الشارع المغاربي: بعد يوم واحد من لقاء رئيس الجمهورية برئيسة الحكومة إثر غياب دام عشرة أيام انتشرت فيها الاشاعات حول صحّته ووصل الأمر إلى حدود الحديث عن شغور دائم، خرج محمد القوماني ببيان يعلن فيه استقالته التي تحولت لاحقا في تصريحات صحفية له إلى تباين مع حركة النهضة العائد إليها سنة 2016 بعد رحلة انتقل منها أوّلا إلى جماعة اليسار الإسلامي ثم الحزب الديمقراطي التقدمي الذي أصبح في ما بعد الحزب الجمهوري وفيه حاول القوماني صحبة آخرين إحداث انشقاق داخله وإعادته إلى الحضيرة الوطنية بتحريض من السلطة وفق ما ورد في ص 46 من تقرير هيئة بن سدرين الى جانب مشاركته في مؤتمر في الدوحة حضرته تسيبي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل سابقا دون إذن من الحزب وهو ما أدى إلى طرده منه سنة 2008. بعد سنة 2011 أسّس حزبا خاصا به هو حزب الإصلاح والتنمية وفي سنة 2013 لوّحت له النهضة بتعيينه وزيرا للتربية فأعلن ذلك في وسائل الإعلام فرحا مسرورا ولكنها فضّلت عليه سالم الأبيض، وهو ما رفضه حزبه الذي حلّ نفسه سنة 2015 ليبقي صديقنا في حالة ضياع إلى أن التقطه الغنوشي سنة 2016 وعيّنه قياديا في مكتبه السياسي. والجدير بالملاحظة أن هذه الرحلة الحزبية لم تخرج عن إطار الفضاء الإسلامي الذي يخلط الدين بالسياسة وحتى لمّا انتمى إلى الحزب الديمقراطي التقدمي فإنه وجد نفسه مع إخوانه لأن هذا الحزب لأسباب متعدّدة أصبح الحديقة الخلفية لحركة النهضة التي استعملته غطاء ينشط من خلاله منظوريها وهم كُثر منهم حتى من كان في قيادة التجمع كحمزة حمزة أو في الإعلام كمحمد الحمروني وغيرهما.
بعد تعيينه قياديا في النهضة أصبح القوماني ضيفا دائما في وسائل الإعلام دفاعا عن الغنوشي وخياراته السياسية إلى اليوم الذي ظهر فيه رئيس الدولة صحبة رئيسة الحكومة معلنا أن الحديث عن الشغور وحث القوى الحاملة للسلاح على التدخل في المسألة تآمر على أمن الدولة يقع تحت طائلة المساءلة القانونية. عندها أعلن القوماني أنه يتخلى عن صفته القيادية في حركة النهضة وهي صفة متّعه بها الغنوشي وليس لها أي سند واقعي أو قانوني إذ يعلم كلّ متابع للحياة السياسية أن المرء يكتسب صفة القيادة داخل التنظيمات الجماهيرية لمّا يتم انتخابه من المنتسبين في مؤتمر أو في اجتماع قانوني ويكون معبّرا عن تيار فكري أو سياسي ضمن الخطة العامّة للحزب. والذي نعلمه أنه لا علاقة لحركة النهضة بما ذكر. فكلّ المواقع داخلها تخضع للتعيين من طرف راشد الغنوشي وحتى في المرّة الوحيدة التي شُرِّكَ فيها المنتسبون عند إعداد قائمات المترشحين لمجلس نواب 2019 تدخل الغنوشي وتصرّف فيها. ومن هنا فإن وصف القوماني نفسه بأنه قيادي في الحركة إنما كان مِنّة وفضلا من زعيم الحركة وليس نتيجة لإشعاعه أو لتأثيره أو حضوره اللافت داخلها، وهو ما ينسحب على البقية ممّن ادّعوا الاستقالة من الحركة. فحمادي الجبالي لمّا استقال من الأمانة العامة لحركته خرج لوحده، فهل يعقل أن يستقيل أمين عام حزب في السلطة ولا يأخذ معه كتلة أو مجموعة تكون مناصرة لقراره؟ والغريب أن الجبالي عاد في المؤتمر العاشر ليتصدّر اللجان التي أعدّت اللوائح وغيرها ممّا لا يعتدّ به راشد الغنوشي في حركته وبالعودة إلى البيان نلاحظ أن القوماني:
1) توجّه به إلى الإعلاميين والصحفيّين وهو العنوان الخطأ وقد كان عليه أن يتوجّه باستقالته من القيادة لِمن عيّنه فيها لأنها مسألة داخليّة طرفاها الغنوشي والقوماني إذ جرت العادة أن الوجهة الأساسيّة لهذه الوثائق هي المسؤول الأوّل في الحزب أو من ينوبه حتى تكتسب صبغة رسمية ويعتدّ بها عند تقدير المواقف والتحالفات.
2) ذكر أن له تباينا مع مواقف الحزب من حكم 25 جويلية الذي أظهر يُبسا في التعامل مع مخالفيه. فرغم الضغوط التي مارستها حركة النهضة وتُبّعها فإنه لم يتزحزح قيد أنملة عن مواقفه السابقة وكانت تصريحات الجبهة النهضوية المتعلّقة بالشغور واعتبار رئيس الدولة ذلك تآمرا القشة التي قسمت ظهر البعير ودفعت بالقوماني إلى إعلان ما أعلن عنه فارا بجلده ممّا يمكن أن تأتي به حوادث الأيام مستقبلا. فهل سيتخلى تبعا لذلك عن اعتبار 25 جويلية انقلابا وقيس سعيد منقلبا ومستبدّا بالسلطة وهي المعاني التي روّج لها طوال السنتين الماضيتين في الوقفات وفي وسائل الإعلام؟
3) بجانب الشأن العام لتبرير رسالته أضاف القوماني الأوضاع الحزبية الداخلية. والذي يعلمه الجميع أن أوضاع النهضة الداخلية لم تتغير منذ التأسيس حيث يشرف الغنوشي على كلّ كبيرة وصغيرة ولم تفلح محاولات الانقلاب عليه منذ سبعينات القرن الماضي. ولعلّ القوماني يتذكر أنه صحبة احميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي قاموا بمحاولة انقلابية لافتكاك العاصمة وهي أكبر وأهمّ مكتب في التنظيم أيامها إلا أن الغنوشي تفطن إلى ذلك فأطردهم جميعا.
قال الجورشي في مجلة “حقائق” العدد 225 بتاريخيْ 8 و14 ديسمبر 1989 موجها خطابه إلى عبد الفتاح مورو رئيس اللجنة المكلّفة بالنظر في مآل الانقلابيين التي لم تتمّ أشغالها إلى اليوم ما يلي: “ولا أظنه قد نسي تلك الليلة المخزية التي وقع فيها حلّ مكتب العاصمة وتجميد عضوية المشرف عليها لا لشيء إلا لأن العاصمة حاولت أن تقود حركة إصلاح ومراجعة وتجديد في جسم إخواني يختنق”. في جواب له عن سؤال ورد في جريدة “الصريح” بتاريخ 17 أكتوبر 2016 قال القوماني: “ان الانضمام لحركة النهضة جاء في هذا التوقيت تطبيقا لتوجهات مؤتمرها العاشر الذي عقد منذ أشهر قليلة”. ويعلم الجميع أن خلافات ظهرت في هذا المؤتمر حول بقاء راشد الغنوشي على رأس الحركة وهل يُقبل ترشحه في المؤتمر الحادي عشر ومسائل أخرى تستهدف إبعاد مؤسّس الحركة. عندها عمل هذا الأخير على تطعيم جناحه بأسماء كالقوماني وبلقاسم حسن إضعافا لحجة الآخرين. وقد قام الاثنان بالدور الموكل اليهما في الدفاع عن صاحب الفضل عليهما. فادعاء القوماني أن الأوضاع الحزبية غير مرضية تعلّة لتبرير الانسحاب خوفا من المساءلة لأن أوضاع الحركة آخذة في الانحدار منذ المؤتمر العاشر وتفاقم أمرها بعد انتخابات 2019 ورئاسة الغنوشي مجلس النواب التي عادت عليه وعلى حزبه بالوبال نتيجة المواقف المخزية التي استمات الحزب الدستوري الحر في مواجهتها منعا لجر البلاد إلى محاور قطرية تركية في غير مصلحتها. أيامها كان القوماني صوت الغنوشي في مجلس باردو وفي كل وسائل الإعلام المدافع عنه وعن خياراته بحماس لا يحسد عليه.
والذي تهمنا الإشارة إليه أن بيان القوماني المتجوّل والمتحوّل سياسيا يؤكد جملة من الحقائق من بين أهمها أن الذين جيء بهم إلى حكم البلاد بعد سنة 2011 ودون استثناء اعتبروا الدولة غنيمة اقتسموها في ما بينهم وهو ما يفسّر السياحة البرلمانية والحزبية المنفلتة من أي عقال حيث لا ناظم ينظمها لأن هدفها هَبْرُ أكثر ما يمكن من المنافع. ويفسّر كذلك تهم الفساد المالي التي طالت من تصدّروا الفضاءات السياسية والإعلامية في العشرية الماضية وبدأت أخبار تجاوزاتهم تترى وملفاتهم تفتح والتحقيق فيها جار ونتمنى أن يصل إلى نهاياته.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 افريل 2023