الشارع المغاربي-حاوره:محمد الجلالي: تحدث المنصف مزيد المهندس والخبير في الصناعات الغذائية عن امكانية تحقيق تونس اكتفاءها الذاتي من الحبوب رابطا ذلك بتسخير كل الهياكل وتجنيد كل الخبرات والعمل على مضاعفة نسبة انتاج الاراضي المزروعة.
مزيد الذي يجرّ وراءه تجربة لا تقل عن 43 سنة في قطاع الحبوب وتحديدا في مجال الصناعات الغذائية شدد خلال حواره مع “الشارع المغاربي” على ضرورة تغيير الدولة سياسة دعم الحبوب والأعلاف والحليب مقترحا مواصلة دعم خبز الشعير والنخالة ورفع الدعم عن “الباقات” من جهة وانتاج المقرونة من القمح اللين بدل الصلب لتوفير نصف الميزانية المخصصة للحبوب من جهة ثانية الى جانب التوجه نحو انتاج الكولزا والفصّة حفاظا على احتياطي العملة الاجنبية والتخفيض في اسعار الاعلاف مع ضمان رفع الدعم عن الحليب دون المس من القدرة الشرائية للمستهلك.
في البداية بما تفسرون أزمة النقص في الحبوب التي تشهدها تونس في الآونة الاخيرة؟
لا يمكن التطرق الى ازمة الحبوب دون الاشارة الى أكثر من عامل.. فالتغيرات المناخية التي يعيش على وقعها العالم بأسره أثرت على إنتاج تونس من القمح والشعير منذ قرابة 4 مواسم. أضف الى ذلك دور الحرب الروسية الأوكرانية في تذبذب نسق انتاج ونقل الحبوب بالنظر الى مساهمة كل من روسيا وأوكرانيا بثلث الانتاج العالمي من الذّرة والصوجا اللذين يعتبران عنصرين أساسيين في تركيبة علف الحيوانات المستغلة في إنتاج الحليب.
هل صحيح أن الفلاح هو الأكثر تضررا من غلاء الاعلاف مقارنة ببقية الفاعلين الاقتصاديين؟
هذا مما لا شك فيه.. فالاربع شركات التي تورد الصوجا والذّرة كانت في ما مضى تتحكم في نسق التوريد حسب تطور أسعار الحبوب على المستوى العالمي فأصبحت مجبرة منذ سنوات على اقتنائها بأسعار مرتفعة بما يدفعها الى بيعها باسعار مرتفعة أيضا… بعد ذلك يأتي دور معامل العلف التي اضحت بدورها تبيع منتجاتها للفلاح بأسعار باهظة. وبما أن اسعار بيع الحليب من الفلاح الى معامل الحليب محددة من قبل الدولة فإن ذلك ينعكس بدوره على مداخيل مربيي الابقار (90 بالمائة منهم من صغار الفلاحين) الذين يشترون العلف بأثمان باهظة ولا يقدرون على الترفيع في اسعار بيع الحليب. وفي المرحلة الرابعة يأتي دور معامل الحليب التي تملك هوامش ربح اخرى في منتجات مثل الياغورت والأجبان والزبدة.. فلا غرابة في ظل هذا الوضع ان يفرّط عديد الفلاحين في مواشيهم..
لهذا بادرت باقتراح حل بديل للتخفيف من حدة أزمة الاعلاف؟
هنا لا مناص من التذكير بأن ازمة ارتفاع اسعار الصوجا والذرة كانت قد خيمت في ما مضى على الاقتصاد الاوروبي خاصة في فرنسا واسبانيا وايطاليا ولكن الفرق بيننا وبينهم ان الجانب الاوروبي شهد تحرك خبراء وباحثين لتطويق المشكل. والحل كان في ما يعرف بالصيغة RTS Ration Totale Sèche وهذا يعني ان يتم تغيير تركيبة العلف بالتخفيض في كمية الذرة والصوجا من 50 بالمائة الى 25 بالمائة فقط وتعويض هذا النقص باضافة عناصر جديدة هي الفصة (Luzerne) والكولزا (Colza). وبزراعة الفصة في مناطق الوسط والجنوب التونسي والكولزا في الشمال يمكن للدولة المحافظة على رصيدها بالعملة الأجنبية التي كانت تسخرها لتوريد الذرة والصوجا والاكتفاء باقتناء الفصة والكولزا بالدينار التونسي. زد على ذلك يمكن لنا استغلال نبتة الكولزا في توفير كميات من الزيت النباتي فضلا عما توفر من مواد علفية.
هذا يعني أن ذلك سينعكس على سعر العلف؟
كنتيجة لذلك سيتراجع سعر العلف بما لا يقل عن 20 بالمائة وهي فرصة ذهبية لاسناد الفلاحين بالضغط على كلفة الانتاج مع العلم ان احد معامل العلف بولاية صفاقس تكفل بتصنيع الصيغة الجديدة من العلف المستخرج خاصة من الفصّة والكولزا وزود بها بعض مربيي الابقار والمذهل انه تم الحصول على كميات أوفر من الحليب وبجودة أفضل بما دفع احد معامل الحليب الى تمكين كل من يستغل هذا العلف من منحة مالية.
وما تأثير ذلك على الدعم الموجه للاعلاف والحليب؟
هنا علينا اخذ النقص الفادح في كميات الحليب والذي قد يدفعنا الى توريده بالعملة الاجنبية ومضاعفة سعر بيعه بعين الاعتبار لأن ذلك سيمسّ من قدرة المستهلك الشرائية. فسعر بيع لتر الحليب في أوروبا مثلا لا يقل عن أورو أي أكثر من 3 دنانير. وباعتماد تركيبة RTS يمكن الاستغناء عن توريد الحليب وبالتالي عدم استنزاف رصيدنا من العملة الاجنبية. وفي إجابة على سؤالك حول تأثير التركيبة الجديدة على الدعم اؤكد انه بالامكان عدم دعم إنتاج الفصّة والكولزا والاقتصار على دعم النخالة التي تمثل حوالي 25 بالمائة من التركيبة. هذا يعني انه بالامكان رفع الدعم عن الحليب مع الإبقاء على سعر اللتر في حدود 1600 مليم بما قد لا يؤثر كثيرا على جيب المستهلك مقارنة بسعر الحليب المورد.. نحن اليوم في حاجة أكثر من أي وقت مضى الى المرور بسرعة قصوى الى اعتماد التركيبة الجديدة للمحافظة على قطيع الأبقار وإسناد صغار المربين الذين يمثلون قرابة 90 % من مجموع الناشطين في القطاع وتوفير الحليب بالكميات المطلوبة.
ألا يتطلب ذلك إنجاز دراسة جدية عن الأراضي الصالحة لزراعة الفصة والكولزا؟
هذا ما أنا بصدد الانكباب عليه مع العلم ان دولتين مثل رومانيا والمجر قطعتا أشواطا كبيرة في تجويد هذه الزراعات باعتماد تقنيات عملية في مضاعفة الإنتاج.. للاسف في تونس لم نستغل كما يجب مؤسساتنا البحثية في مجالات الزراعات رغم توفر المختصين.. ويمكن في هذا الاطار الاستنجاد ببعض المتقاعدين ممن علا كعبهم في البحوث الزراعية.
وكيف تفاعلت السلطة مع اقتراحاتك؟
سبق ان التقيت منذ ثلاثة أشهر بوزيري الفلاحة عبد المنعم بالعاتي والاقتصاد سمير سعيد وقدمت لهما بسطة عن تركيبة RTS فلمست لديهما اهتماما باقتراحاتي وخاصة في ما يتعلق بتعويض القمح الصلب بالقمح اللين في صناعة العجائن ولكن الأمر يتطلب حسب تقديري ترجمة هذا الاهتمام إلى إجراءات وقرارات عملية.
هل لك ان توضح لنا علاقة تعويض القمح الصلب باللين بالضغط على الواردات وبالتخفيض في ميزانية الدعم؟
عادات التونسيين الغذائية لا تخرج عن استهلاك الخبز والكسكسي والمقرونة وهي كلها مستخرجة حاليا من القمح الصلب الذي نستورد أغلبه بأسعار عالية تساوي ضعف أسعار القمح اللين. ووفق ما لاحظت وعاينت في دول مثل الصين واليابان وايطاليا والمانيا يمكن الاعتماد على القمح اللين لصناعة المقرونة مع إضافة مكون غذائي وبالتالي نستطيع التخفيض في ميزانية الحبوب الى النصف مع مواصلة دعمها او رفع الدعم تدريجيا مقابل رفعه عن العجائن المستخرجة من القمح الصلب وترك حرية الاختيار للمستهلك مع العلم أن كلا الصنفين من المقرونة يتميز بنفس الفوائد الغذائية وانه بالامكان استخراج 80% من الفارينة من القمح اللين و70 % فقط من السميد من القمح الصلب. ثم إن التركيز على استهلاك القمح اللين سيتيح للدولة تفادي توريد 5 ملايين قنطار من القمح الصلب سنويا وطحنها ودعمها (أي سدس الكمية المستوردة) والتي عادة ما يتم في ما بعد تهريبها إلى دول مجاورة بعد تحويلها الى عجائن.. هذه الاقتراحات وجهتها خاصة الى وزير الاقتصاد قبل آخر لقاء جمعه بوفد عن صندوق النقد الدولي ويفترض أن يتم إضافتها إلى برنامج الإصلاحات الاقتصادية المقترح على الصندوق.. فالكل يعلم حساسية ملف الخبز الذي يعود الى سنة 1984 والضغط المسلط على صندوق الدعم من جهة وخطورة الوضعين الاجتماعي والاقتصادي في الآونة الأخيرة.
وكيف يمكن التصدي للسوق السوداء للنخالة والمواد العلفية عموما مع التوجه نحو العجائن المستخرجة من القمح اللين؟
لاحظت طيلة اشتغالي في قطاع المطاحن منذ 1980 ان النخالة كانت من اكثر المنتوجات غير المرغوب فيها بالنسبة لأهل القطاع لأنه بقدر حرص اصحاب مصانع العجين على بيعها وفق المسالك القانونية يشدد اصحاب مصانع علف وفلاحون على انهم يشترونها بأسعار مضاعفة بما تسبب في إغلاق عدد منها. فهل الى هذا الحد لدينا نقص في هذه المادة العلفية؟ وقد تطرقت الى هذا الموضوع في لقائي بوزير الفلاحة وأكدت له أنه بالإمكان مراقبة عمليات إنتاج وبيع النخالة عن بعد.. ما أود التنصيص عليه أنه إذا تم إحكام تصرف معامل العجين الاربعة الكبرى في إنتاج وتوزيع النخالة سيتم القضاء بصفة كبيرة على السوق السوداء للنخالة.. كما على الإدارة العمومية ان تطور من اساليبها وتعتمد على التكنولوجيا الحديثة لمتابعة ومراقبة القطاع.
وهل من حلول عملية في مسألة دعم الخبز؟
علينا العودة الى عاداتنا الغذائية القائمة على خبز الشعير والخبز المكون من النخالة والسميد (pain complet) وهما أكثر فائدة غذائية وأقل كلفة رغم أن مخابزنا تبيعهما بأسعار أعلى.. وقد اقترحت على وزير الاقتصاد سمير سعيد مواصلة دعم خبز الشعير وخبز السميد والنخالة ورفع الدعم عن خبز “الباقات” لتشجيع المواطن على استهلاك الصنف الأول منه.
ولكننا مازلنا نعول على توريد النصيب الأوفر مما نحتاج من الشعير تماما مثل القمح؟
كلنا يعلم ان تونس تستورد نصف حاجاتها من الشعير ونصف حاجاتها من القمح. والغريب اننا تمكننا بصفة استثنائية سنة 2019 من انتاج 20 مليون قنطار من الحبوب من مجموع 30 مليون قنطار فتعرض قسط منها للتلف بسبب سوء التخزين.. وينتظر خلال السنة الحالية ان يكون المحصول في حدود مليوني قنطار فقط وهي قد لا تكفي للبذر خلال الموسم المقبل… هي نتيجة كارثية لم يسبق لبلادنا ان شهدتها بما سيدفعنا الى توريد قرابة 30 مليون قنطار لتأمين حاجاتنا الاستهلاكية.. هذا الوضع يستدعي وقفة حازمة لايجاد حلول عملية ومجابهة النقص الفادح في الحبوب.. يفترض ان نكون اليوم في حالة طوارئ غذائية مثلما حدث في روسيا خلال سنة 2015… روسيا التي كانت الى حدود 2015 بلدا غير منتج للقمح ومع فرض حظر اقتصادي عليها اتخذت إجراءات صارمة وسياسة زراعية ناجعة مكنتها من تحقيق فائض في إنتاج الحبوب.. ما حدث في روسيا شبيه بالمعجزة الاقتصادية وهو ما يجب ان تشهده بلادنا التي يفترض أن تجند كل الهياكل وتسخر كل الخبرات لتجاوز العجز الغذائي… ولو تعاضدت كل الجهود لتمكنا من تحقيق الاكتفاء الذاتي في الحبوب.. صحيح أن الأراضي الصالحة لزراعة الحبوب تراجعت من مليونين الى مليون هكتار ولكن هذا لا يمنع من تحقيق الهدف المنشود بمضاعفة نسبة إنتاج الهكتار الواحد… على سبيل الذكر لا الحصر تمكن أحد الفلاحين بولاية القصرين من انتاج 58 قنطار في الهكتار رغم ان المعدل الوطني هو في حدود 15 قنطارا للهكتار وهي نتيجة ليست مستحيلة ويمكن النسج على منوالها.
الا تمثل بعض الشركات التي تحتكر قطاعات توريد الاعلاف والمطاحن والعجائن حجر عثرة امام اي اصلاح قد يهدد مصالحها؟
علينا التذكير بأن الدولة شريك اساسي في قطاع الحبوب ما دامت تدعمه، بما يعني انه بمقدورها اتخاذ اي اجراء لحوكمته ولن تلقى سوى الترحاب من الخواص. من حقها الاطلاع على الكميات التي ينتجونها ومراقبة مسالك توزيعها.. لدي قناعة راسخة بأنها قادرة على تعديل البوصلة واضفاء التغييرات اللازمة ولن تجد سوى التجاوب من الخواص.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 4 جويلية 2023