الشارع المغاربي: تتالت في الآونة الأخيرة الاحداث المؤشرة لاحتمالية عودة ليبيا الى مربع الصراع والمواجهة الداخلية بين الأطراف الرئيسية الماسكة بدواليب السلطة ممثلة في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة الرافضة لتسليم مقاليد السلطة الى حكومة باشاغا الحاصلة منذ شهرين على تزكية البرلمان الليبي المعروف بقربه من مواقف خليفة حفتر المناهض للتيارات الإسلامية والمدعوم أساسا من مصر والامارات والسعودية وكذلك روسيا التي تموقعت حديثا في المشهد الليبي تزامنا مع التمدد التركي المندرج في سياق صراع النفوذ المتفاقم بين الأطراف الدولية الفاعلة في ليبيا والمتوسط. والملاحظ ان الجزائر ما تزال تدعم موقف رئيس حكومة الوحدة الوطنية معتبرة انه يمثل الشرعية الدولية القائمة على خطة الطريق الاممية وهو ما أكده مجددا الرئيس تبون على هامش زيارة الدبيبة الأخيرة الى الجزائر.
ويجدر التذكير بأن الازمة الليبية تحولت منذ سقوط العقيد القذافي الى شبه قضية تونسية داخلية بفعل شدة تأثيرها في المشهد السياسي والأوضاع الأمنية والاقتصادية بتونس وذلك بسبب الدور الوظيفي الذي انخرطت فيه الحكومات العربية عموما، ومنها الأطراف السياسية التونسية الحاكمة او الفاعلة التي اختارت الاصطفاف الى جانب القوى الدولية الساعية منذ البداية للتحكم في مسار “الربيع العربي” وتوجيهه وفقا لمصالحها الإقليمية والدولية ودون إيلاء أي اعتبار لتطلعات الشعوب العربية المنتفضة ضد الدكتاتوريات العربية. وهكذا لم تعد تونس قادرة عن النأي بنفسها عن التجاذبات الداخلية في ليبيا التي كثيرا ما تنتقل الى المشهد السياسي في تونس او تنعكس سلبا على العلاقات التونسية الليبية مثلما هو حاصل الآن إثر الموقف المندد الذي اتخذه عبد الحميد الدبيبة إزاء ما اعتبره انحيازا من الرئاسة التونسية لحكومة باشاغا بحكم السماح لها بالإقامة والنشاط الفعلي لفترة طويلة انطلاقا من تونس مع تقديم كافة التسهيلات اللوجستية والأمنية لها، وهو ما اقرت به هذه الحكومة وثمنته في بيانها الصادر إثر عودتها الى ليبيا.
التطورات المتسارعة خلال الأيام الأخيرة كشفت عن عمق هذه الازمة التي ظلت صامتة الى ان طفت على السطح بعد الكشف عن استدعاء الدبيبة سفير تونس لسعد العجيلي لإبلاغه بأسلوب غير ودي مدى انزعاج حكومة طرابلس من هذا “الاصطفاف” خاصة بعد الكشف عن “احباط” محاولة لدخول حكومة باشاغا الى ليبيا عبر معبر وازن الذهيبة بغرض “افتكاك” السلطة والسيطرة بالقوة على مراكز القرار بطرابلس. ولعل الزيارة الوشيكة التي أعلنت مصادر ليبية ان الدبيبة سيؤديها رفقة وفد هام الى تونس ستكون فرصة سانحة لتوضيح الموقف التونسي ورفع كافة الالتباسات المحيطة به، سيما في هذه الظرفية الدقيقة التي يحق للدول المحيطة ذات المصلحة في عودة الاستقرار الى ليبيا والمنطقة ان تكون لها مساهمة بناءة في المساعدة على تجاوز التوترات في الداخل الليبي. ويمكن تحقيق ذلك عبر إعطاء الفرصة لحوار بين الفرقاء يسمح بإنقاذ المسار الديمقراطي والانتخابي المتعثر بسبب عدم انعقاد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في الآجال المحددة. ومن هذه الزاوية يبدو من المنطقي ان تعمل تونس على التنسيق مع الموقف الجزائري الذي يدفع بهذا الاتجاه وهو ما يقتضي عدم التسرع بالتموقع الى جانب حكومة باشاغا على حساب حكومة الدبيبة التي يفترض ان عهدتها مستمرة الى غاية جوان 2022.
هذا هو المسار العقلاني الوحيد الذي يخدم مصلحة تونس سيما ان العوامل الموضوعية الإقليمية الدولية، ترجح ان تكون الأوضاع الليبية مرشحة للمزيد من التقلبات، ولا يستبعد ان يصل الامر الى عودة الاحتراب والتقاتل الداخلي مثلما حصل في منطقة زوارة النفطية في إطار الصراع المزمن الدائر محليا ودوليا للتحكم في الثروات النفطية للبلاد. والملاحظ في هذا الصدد ان من تبعات توقف الإنتاج المعلن عنه في عدة مواقع ليبية نفطية رئيسية، في سياق الضغوط المسلطة على الدبيبة، تراجع طاقة الإنتاج الليبية الى قرابة النصف أي بحوالي 600 ألف برميل وهو ما سيزيد من حدة ازمة الطاقة العالمية المستفحلة بفعل تصاعد حدة الصراع الروسي الأطلسي الدائر في أوكرانيا. والمرجح ان يزيد ذلك من حدة الضغوط المسلطة على تونس من قبل الأطراف الليبية والدولية والعربية المتصارعة على الساحة الليبية لدفع المسؤولين التونسيين للخروج عن موقف “الحياد الايجابي” الذي تؤكد تونس انها متمسكة به والحال ان موقفها غير المعلن يرجح دعمها الضمني لحكومة باشاغا سيّما في ظل ما تردد، نقلا عن حكومة الدبيبة، من ان الرئيس قيس سعيد رفض الرد عن طلبات الاستفسار الموجهة اليه بخصوص “الحظوة” الممنوحة لغريمه باشاغا.
ولتفادي انحراف الأوضاع الى الاسوإ في ليبيا، بما سينعكس سلبا على أمننا واستقرارنا، لا يجوز أن تنساق تونس وراء الأطراف العربية التي تقوم بدور وظيفي لصالح القوى الكبرى الساعية الى استدامة الصراع وتعفين الوضع الإقليمي والدولي على النحو الذي يديم معاناة شعوب المنطقة ويسمح باستمرار الفراغ الدستوري والمؤسساتي الذي يكفل لها مواصلة استباحة سيادة ليبيا ونهب مقدراتها بلا حسيب ولا رقيب. هذه هي القضايا الحقيقية التي يفترض ان تسعى تونس، بالتنسيق مع الجزائر، لطرحها والسعي لمعالجتها على الصعيد العربي والدولي والإقليمي وعلى صعيد العلاقات الثنائية مع ليبيا حتى يتسنى فعلا الخروج من دائرة الخطر الداهم الذي ما انفك يتربص بمنطقتنا وبشعوبنا على مدى العشرية المنقضية.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 26 أفريل 2022