الشارع المغاربي: تزامنت الأحداث الأخيرة المناهضة “للاستعمار الفرنسي” التي أدت إلى انقلابات متتالية في العديد من دول الغرب-الإفريقي مع صدور كتاب أكاديمي بحثي قيّم تحت عنوان صريح “أوروبا-إفريقيا: حول الأصول الاستعمارية للاتحاد الأوروبي” “Eurafrique: Aux origines coloniales de l’Union européenne * “. هذا الملف الهام حول حقيقة العلاقات الأوروبية الافريقية خاصة منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم تناوله كلاّ من “بيو هانسن” “Peo Hansen” و”ستيفن جونسن” “Stefan Jonsson” وهما تباعا أستاذ العلوم السياسية واستاذ الدراسات العرقية بمعهد البحوث في مجال الهجرة والعرق والمجتمع في جامعة “لينكوبينغ” “Linköping” بالسويد. (Edition La Découverte*)
وقد جاء في مقدمة الكتاب “أن أوروبا التي خرجت بعد الحرب العالمية الأولى مُدمّرة ومُفقّرة ومُنقسمة وقد كانت في أوج هيمنتها الامبريالية طيلة القرن التاسع عشر، سارعت في القيام بمراجعات ساهمت في بلورتها الأوساط الحاكمة والنخب الفكرية في القارة العجوز وتمحورت حول مفهوم واعد سُمّي “أوروبا-إفريقيا” “Eurafrique”. تحت هذا المُسمّى تم التفكير لتحويل القارة الإفريقية كمُلهم الوحدة الأوروبية باعتبار أن طوق نجاتها يعتمد على قدرتها على الاستغلال المشترك للثروات المتواجدة في مستعمراتها الإفريقية”. هذا الموقف يندرج في إطار ضمان وتعزيز الموقع الدولي للقارة الأوروبية بين القطبين الصاعدين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفييتي.
كما ذكر الكتاب أن “مشروع أوروبا-إفريقيا” الذي استهوى الأنظمة الأوروبية الاستعمارية، بما فيها الأنظمة الفاشية بين الحربين العالميتين، طفح على السطح من جديد وبقوة بعد سنة 1945 مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد حفّز نخبة أوروبية ممن اعتُبروا من مُؤسّسي “الاتحاد الأوروبي” من بينهم “جون مُوني” “Jean Monnet” و”روبير شومان” “Robert Schuman” في فرنسا و”بول هنري سباك” “Paul Henri Spaak” في بلجيكا الذي ترأس حلف الناتو بعد تأسيسه سنة 1949، و”كونراد أدنهاور” “Konrad Adenauer” في ألمانيا الذي شغل منصب ” نائب رئيس المستعمرات الألمانية” في الثلاثينات والذي أصبح رئيسا لألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. مع التذكير أنه تكونت جمعية تحمل اسمه وتنشط في كامل البلدان الإفريقية بما فيها تونس (تحصلت على ترخيص صدر بالرائد الرسمي التونسي سنة 1980,,,) والتي اشتهرت بعد الثورة في تونس بتمويل عدة جمعيات تونسية للدفاع عن المصالح الأوروبية وتنشيط عدة ندوات تسوق إلى التوقيع على مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق الذي عُرف باسم “الأليكا” “ALECA” والذي يهدف إلى إقحام قطاع الفلاحة والخدمات في المبادلات الحرة في خطوة غير متكافئة ومضرة بالاقتصاد الوطني.
كما جاء في تقديم الكتاب أن “فرنسا باعتبارها أهم قوة أوروبية استعمارية”، لعبت دورا أساسيا في موضوع بلورة مشروع ” أوروبا-إفريقيا” خاصة وأنها تعرضت إلى هزيمة نكراء في كل من الهند الصينية إثر معركة “ديان بيان فو” في فيتنام سنة 1954 وفي حرب التحرير في الجزائر في المنطقة العربية. نتيجة لذلك تشبثت فرنسا بمستعمراتها الإفريقية وبمناطق تأثيرها في شمال القارة وجنوبها وجعلت من إدماجها في السوق الأوروبية المشتركة شرطا أساسيا لمشاركتها في البناء الأوروبي.
هذا الملف المهم الذي تم طمسه في البلدان الأوروبية وعدم أخذه بالعناية وبالدراسات المُعمّقة من طرف الجامعات التونسية والعربية تمّ تحليله بإطناب ودقة من طرف المؤلفين خاصة على مستوى المفاوضات التي أفضت إلى التوقيع على معاهدة روما في سنة 1957 التي أسست “المجموعة الأوروبية”. كما كشفت طبيعة الأصول الاستعمارية للاتحاد الأوروبي من خلال إقحامها للبلدان الإفريقية داخل المجموعة الأوروبية مثل الجزائر قبل الاستقلال وبقية بلدان ما وراء البحار التابعة لها.
آليات “الهيمنة الاستعمارية” وتداعياتها في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء
احتدت المعارك في القارة الإفريقية إثر الحرب العالمية الثانية وانطلاق الحرب الباردة بدافع إيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية بين الغربي الأطلسي والشرقي السوفييتي من أجل السيطرة السياسية في علاقة بما أصبح عليه العدد الكبير لبلدان حديثة العهد بالاستقلال متواجدة بالمحافل الدولية (الأمم المتحدة ومجلس الامن الدولي والمؤسسات المالية الدولية). وبدافع السيطرة الاقتصادية لما تمثله من ثروات طبيعية هامة في القطاعات الفلاحية والمنجمية المتوفرة في هذه المنطقة. فكانت في نفس الوقت حربا غربية-شرقية بالتوازي مع تطاحن داخل البلدان الغربية فيما بينها لعبت فيها فرنسا وبريطانيا الدور الريادي بحكم علاقاتهما السابقة بهذه المنطقة.
تعتمد آليات الهيمنة الاستعمارية بالدرجة الأولى على العمل للحد من النزعة التحررية التي بدأت تنتشر إثر الحرب العالمية الثانية عبر التدخل العسكري والاغتيالات بدعوى مقاومة الشيوعية. بالتوازي مع تشجيع وترشيح شخصيات ميدانية إفريقية تُمكنها من السلطة وما تدره من منافع مقابل إعلان الولاء التام لها والعمل على حفظ مصالحها. وهو ما قامت به فرنسا في كل من ساحل العاج مع الرئيس “هفوات بواني”. وفي السنيغال مع الرئيس ليوبولد سدار سنغور ومع الرئيس “عمر بونغو” في الغابون الذي عمّر في السلطة أكثر من أربعين سنة ثم تم توريث ابنه “علي بونغو” الذي أُطيح به مؤخر. وكذلك الشأن في التشاد مع إدريس دبّي. كما يتم الحرص على الإطاحة بكل طرف يحظى بشعبية كبيرة ويرفع شعار التحرر أمثال “باتريس لومانبا” في الكونغو و”توماس سانكرا” في بوركينا فاسو ومعمر القذافي في علاقة بسعيه إلى بعث عملة مشتركة في القارة الإفريقية.
لقد سعت فرنسا إلى الانتقال من مفهوم “أوروبا-إفريقيا” إلى مفهوم ضيق سمي “فرنسا-إفريقيا”France-Afrique” الذي تم تعزيزه بمؤسسات وإمكانيات بشرية ومادية عسكرية منها واستخباراتية هامة لتحقيق أهدافها في القارة الإفريقية.
كما اختارت الاعتماد على علاقة قيصرية بين الفرنك الفرنسي (FF) والفرنك الإفريقي (CFA) أو ما أسمته بمنطقة الفرنك (La zone franc). لقد تم بعث الفرنك الإفريقي بتاريخ 26 ديسمبر 1945 إثر مصادقة فرنسا على اتفاقات “برتين وودس” ” Bretton Woods” وصرحت بالتسمية الرسمية لهذه العملة “Franc des Colonies Françaises d’Afrique ” (Franc CFA). ثم غيرت الاسم بعد استقلال هذه البلدان مع الإبقاء على نفس الحروف “”Franc de la Communauté Financière Africaine” بالنسبة لمنطقة الاتحاد المالي لبلدان غرب إفريقيا و””Franc de la Coopération Financière en Afrique Centrale” ” بالنسبة لمنطقة الاتحاد المالي لبلدان إفريقيا الوسطى.
وقد أدى هذا التدخل إلى سحب السلطة النقدية من البلدان الأربعة عشر المعنية. ووصل الأمر إلى أن أصبحت هذه البلدان تقوم سنويا منذ عشرات السنين بإيداع %50 من رصيدها من العملة الأجنبية من التجارة الخارجية لدى البنك المركزي الفرنسي بدعوى ضمان قيمة الفرنك الإفريقي الذي يتم طبعه في فرنسا وتحت إشرافها. استصدار العملات المحلية شكل حاجزا للتنمية الاقتصادية لهذه البلدان. حيث نسبة القروض للاقتصاد المحلي قياسا بالناتج المحلي الإجمالي لا يمثل إلا %23 فقط في منطقة الفرنك الإفريقي حاليا بينما مقارنة يمثل %100 في منطقة اليورو؟
هذا طبعا زيادة على السيطرة المطلقة على الثروات الهائلة التي تُستغل من طرف الشركات الكبرى الأوروبية والفرنسية من طاقة ومناجم وموارد فلاحية )ذهب، أورانيوم، منغنيز، حديد، خشب، كاكاو، قطن وغيرها.( هذه المنتوجات يتم تصديرها خاما وبأثمان بخسة لتحويلها وتثمينها صناعيا في البلدان الأوروبية ثم تسوق في العالم بقيمة إضافية عالية. وهو ما يعبر عنه بالتبادل غير المتكافئ (L’échange inégal) الذي يُكرّس تعميق التفاوت في التنمية وانتشار الفقر والخصاصة والبطالة وانسداد الأفق للشباب في البلدان الإفريقية. مما أدى إلى الهجرة السرية شأنهم شأن الشباب التونسي أين تلتقي شعوبنا وخاصة شبابنا في نفس الخندق الذي نعيشه اليوم
تلخيص الوضع في القارة الإفريقية مؤسف وصادم حيث تُصنف من أفقر بلدان العالم والحال أنها في نفس الوقت تُعتبر من أغنى البلدان من حيث احتياطاتها المنجمية والنفطية والزراعية مثل مالي والنيجر والغابون التي تسخر بمناجم الذهب واليورانيوم والبترول والغاز. مواد أساسية يتم استغلالها استغلالا فاحشا من طرف الشركات الأوروبية أمثال الشركة الفرنسية العالمية “أريفا” “AREVA” في ميدان اليورانيوم والشركات الكبرى التي تتعامل معها مثل “ألستوم” “Alstom” و”سويس” “Suez” و”بويغ” “Bouygues” وشركات “طوطال إينرجي” “وآلف” في ميدان البترول.
في نفس الوقت ثلث الشعب المالي والنيجيري وغيرهما في إفريقيا يعانون من الجوع ومن عدم وفرة الماء الصالح للشراب. عشرة آلاف طفل يموتون سنويا نتيجة فقدان الماء الصالح للشراب حسب مصادر دولية. كذلك %30 من الأطفال لا يلتحون بالمدارس سنويا نتيجة الفقر والاحتياج. معدل سن العيش لا يتعدى 49 سنة في المنطقة؟؟؟
كيف يمكن تقييم الوضع في تونس في خضم “الأصول الاستعمارية للاتحاد الأوروبي” وتواجده المكثف؟
نذكر أن الوثيقة التأسيسية للمجموعة الأوروبية التي انبثقت عن معاهدة روما بتاريخ 25 مارس 1957 من طرف الست دول المعنية )بلجيكا وفرنسا وإيطاليا واللكسمبرغ وهولندا وألمانيا الغربية( قررت بطلب فرنسي ملح إدماج كلا من الجزائر، والحال أنها كانت تخوض حرب تحرير ضروس، وكذلك ما يسمى بالمناطق الفرنسية ما وراء البحار وهي أربع جزر، بصفتها أعضاء كاملة العضوية في المجموعة الأوروبية. كما نصت الوثيقة على ترك المجال مفتوحا لإدماج “منطقة الفرنك” الفرنسي في إطار شراكات. وقامت فرنسا بإدماج حضوري لعشرين مستعمرة إفريقية بالأساس بعنوان الشراكات مع المجموعة الأوروبية. وأضيف إليهم ثلاث مستعمرات بلجيكية وهي الكنغو البلجيكي ورواندا وبورندي بالإضافة إلى الصوماليلاند التابع للاستعمار الإيطالي وغينيا الجديدة التابعة للاستعمار الهولندي.
أما بالنسبة لتونس وغيرها من البلدان العربية الأخرى)المغرب وتونس ولبنان وسوريا وغيرها بصفتها مستعمرات سابقة( فقد تُرك المجال مفتوح للتربص بإدماجها في شراكات مع المجموعة الأوروبية حين تتوفر الفرص. حيث انطلقت الاتصالات للتسويق لهذه الشراكات منذ التوقيع على معاهدة روما.
حول هذا الموضوع لابد من التنويه بالقرارات الاستباقية التي اتخذتها حكومة الاستقلال في تونس للصد دون هذا الالتفاف الاستعماري الجديد. حيث سارعت الدولة التونسية في سنة 1958 بصك الدينار التونسي بصفته عملة وطنية والقطع مع الفرنك الفرنسي. كما قامت بتأسيس البنك المركزي التونسي في نفس السنة.
السياسة التي اعتمدتها فرنسا والاتحاد الأوروبي في تونس سعت منذ البداية لوضع حد لتجربة الآفاق العشرية التي انطلقت في بداية الستينات والتي قامت على تنفيذ مخططات تنموية هامة لتثمين الثروات الوطنية في الصناعة والفلاحة والخدمات مع الحرص على اجتناب المديونية المُفرطة والعمل على تونسة الاقتصاد الوطني والتركيز على تطوير المرافق العمومية مثل التعليم والصحة والنقل.
لتحقيق هذا الهدف تم فرنسا بالذات على شيطنة النخبة الحاكمة آنذاك التي يتزعمها الفقيد أحمد بن صالح بتهمة أنها سياسة اشتراكية. هذه الشيطنة وجدت لها صدى في الداخل مما أدى إلى الإطاحة بأحمد بن صالح. وللتاريخ فقد صرح أحمد بن صالح في عدة مناسبات “أن من أطاح به هو الاستعمار وليس الرئيس بورقيبة”. من ذلك نلاحظ أن قرار الإطاحة بأحمد بن صالح في سبتمبر 1969 جاء إثر التوقيع على أول اتفاقية شراكة مع المجموعة الأوروبية بتاريخ 28 مارس 1969.
تزامنت هذه الخطوة مع بداية تنفيذ سياسة الانفتاح التي كانت تسوق للرأس مالية ولحرية السوق التي تعمل على وضع حد لكل مد وطني. وقد تم تطبيق هذه في مصر مع وصول السادات للسلطة وفي عديد البلدان الأخرى بما فيها تونس.
حيث ركز الاتحاد الأوروبي على قرب المسافة بين بلدان الجنوب الأوروبي)فرنسا وإيطاليا زيادة على ألمانيا وبلجيكا( وبلدان شمال إفريقيا ليجعل منها منطقة حرة غير خاضعة للضرائب لانتصاب مؤسساتها الصغرى والمتوسطة بالأساس للمناولة بأجور منخفضة. وهو ما تجسم بقانون سنة 1972 بدعوى أنه نشاط يوفر مواطن شغل. غير أنه لا يوفر قيمة مضافة وثروة ولا يعزز رصيد البلاد من العملة الاجنبية مثلما يسوق له باطلا إلى اليوم.
لقد بينت الدراسة التي قامت بها الباحثة الألمانية “كريستين كوش” “Kristina Kausch” حول السياسة التدريجية التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي في شمال إفريقيا لتطويع البلدان عبر آليات عديدة ذكرت من أهمها:
- استقطاب اليد العاملة من بلدان شمال إفريقيا خاصة منذ بداية الستينات لإعادة الإعمار والبناء )في فرنسا وألمانيا بالخصوص( وانتصاب شركات المناولة في تونس والمغرب مثلا التي توفر فرص عمل رغم محدودية أجورها. وهو سكين ذو حدين حيث من جهة يوفر عائدات بالعملة الأجنبية ولكنها تعتبر وسيلة ضغط في يد الاتحاد الأوربي تستعمل متى شاء عبر قرار تحديد أو حتى إيقاف التحويلات بدواعي شتى. كما أن الشركات غير المقيمة لا تضمن الاستقرار.
- دفع السلطة المحلية للتعويل على القطاع السياحي وإيلائه دورا أكبر من حجمه رغم هشاشته ورغم الاستثمارات الضخمة التي تم تسخيرها على حساب القطاعات المنتجة وبديون خارجية عالية ومردودية ضعيفة جلها يتم تهريبها للخارج.
- تكوين نخب داخلية موالية للاتحاد الأوروبي ومناصرة له عبر العديد من الوسائل خاصة منها الجامعات وتمويل وسائل الإعلام غالبيتها ناطقة بالفرنسية.
- تجنيد الجاليات من الأجيال الثانية والثالثة التي نشأت في البلدان الأوروبية والتي أصبحت غالبا مزدوجة الجنسية.
- تجنيد الجمعيات المدنية غالبا ما تكون فروعا لجمعيات أوروبية وأمريكية انتشرت في كامل البلاد خاصة بعد الثورة.
- التغلغل داخل الإدارة الوطنية مركزيا وجهويا ومحليا وفي البلديات والجمعيات المدنية ولنا في وكالة التعاون الألمانية “ج.إي.زاد” “G.I.Z” أفظع مثال حيث أصبحت بدون مبالغة المسير الأول في البلاد.
- تدخل السفراء في الشأن السيادي داخل البلاد والحرص على تعيين مناصرين لهم على جميع المستويات.
حسب الباحثة الألمانية “هذا المخطط المُحكم جعل من تونس دولة تدور في فلك البلدان الأوروبية مسلوبة السيادة والاستقلال لا يمكنها القيام بأي إصلاح يتضارب مع مصالح الاتحاد الأوروبي. الشيء الذي أتاح له عملية السطو على مقدرات البلاد وثرواتها ومؤسساتها وفي مقدمتها القطاع المصرفي بما فيه البنك المركزي الذي يعتبر رمزا للسيادة النقدية الوطنية وباني المسيرة التنموية في البلاد.
كما تمكن الاتحاد الأوروبي من التغطية على اختلال التوازنات في المبادلات التجارية بين الطرفين بطريقة لا تخلو من نفاق وتدليس تم تمريره منذ عدة عقود عبر تواطئ غريب من الجهات الرسمية المعنية وكذلك من جميع المنظمات الاجتماعية وفي مقدمتها اتحاد الصناعة والتجارة والاتحاد العام التونسي للشغل خاصة على مستوى مركز الدراسات. وكذلك من المنظمات المهنية ذات الصلة ومن النخب الجامعية التي تورطت جميعها في هذا الموضوع المحوري. حيث لو تم كشف حقائق اختلال التوازنات لأقدمت البلاد على فرض مراجعات كبيرة وعميقة في المنوال التنموي لما فيه خير البلاد والعباد.
كما تم القضاء على النسيج الصناعي الذي تكون في العقود الثلاثة الأولى بعد الاستقلال بمفعول تطبيق اتفاق الشراكة الموقع سنة 1995 حيث تم إلغاء المعاليم الديوانية على المنتوجات الصناعية المتأتية من الاتحاد الأوروبي.
التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الكارثية في تونس منذ عقود يحتم علينا اليوم فتح ملف الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وتصويب المسار
لقد أطنب الاتحاد الأوروبي في عمليات التأقلم من أجل إحكام القبض على مستعمراته سواء عبر تنصيب دكتاتوريات يتم حمايتها وإغراؤها لتحافظ على مصالحه وقد تعددت الحالات في القارة الإفريقية مند ستة عقود. كما تأقلمت مع بروز الثورات التي بشرت بالانتخابات الديمقراطية. حيث سرعان ما عملت على تطويع الأحزاب السياسية التي تبين أنها لا تملك مشروع إنقاذ وطني بقدر ما تراهن على السلطة ومنافعها مقابل تقديم خدمات مثل تمرير القوانين التي تخدم الاتحاد الأوروبي والعديد من البلدان الإقليمية الأخرى. مما جعل البلاد تتحول إلى وكر للتدخل الأجنبي لكل من هب ودب.
المؤشرات التي عددناها سابقا حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلدان الإفريقية جنوب الصحراء أصبح اليوم لا يختلف كثيرا على ما هو عليه الوضع في تونس. انتشار الفقر وغلاء المعيشة وانتشار البطالة والفساد وانتشار ظاهرة الفساد والهجرة السرية وهجرة الادمغة. مع انهيار لقيمة العملة الوطنية نتيجة استصدار مؤسسة البنك المركزي وتحويل لوجهة القطاع المصرفي عن تمويل الاقتصاد المنتج. وهي لعمري مسائل محورية لا يمكن الاستغناء عنها لتحقيق تعافي اقتصادي ودفع للاستثمار المحلي.
لذلك نرفع نداء ملح إلى رئاسة الجمهورية بصفتها المؤسسة المباشرة للسلطة في البلاد وإلى الشعب التونسي صاحب السلطة ومانحها بالوكالة وإلى كل المنظمات الوطنية والاحزاب السياسية والنخب الفكرية والثقافية وإلى كل اللوبيات المتنفذة في مفاصل الاقتصاد الوطني علينا أن نعلم جميعا أن الاستعمار وحش اكتوينا بويلاته منذ القرن التاسع عشر. أطردناه بدماء والدينا وأجدادنا وتسلل لنا من جديد. فهو لا يبالي بفقر الشعوب وبحرمانها ولا بانتحار شبابها ولا بانهيار اقتصادها وانتشار الفساد والإفساد والتهرب والتهريب لأن كل هذه العوارض التعيسة لنا هي مدخل ومكمن قوة له ليفتك بنا جميعا قدر ما امكن له وقدر ما مكناه من أنفسنا.
فهل من صحوة جماعية لطرده واسترداد وحدتنا وحقنا في تقرير مصيرنا لنشر العدالة والحقوق والازدهار لكل فئات شعبنا وفي كل ربوع بلانا. لا شيء مستحيل إذا توفرت العزيمة والإرادة ونبذ الأنانية وحب الذات.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 5 سبتمبر 2023