برنامج الإصلاحات الحكومية: أهداف هلامية غير قابلة للتحقيق
قسم الأخبار
16 يونيو، 2022
0share
الشارع المغاربي-كريمة السعداوي:أعادت تصريحات أعضاء الحكومة التونسية الثلاثاء 7 جوان الجاري حول الملامح الكبرى لـ “برنامج الاصلاحات الحكومية” الى الاذهان ملفات عديدة أبرزها ملف رفع الدعم وتجميد الاجور وايقاف الانتدابات في القطاع العمومي وذلك في سياق يتسم بغموض “رؤية” الحكومة وهلاميتها وخاصة عجزها المؤكد عن ايجاد حل لأسوإ ازمة مالية واجتماعية تعيشها تونس منذ عقود.
وبغض النظر عن غموض أهداف برنامج “الاصلاحات” لغياب مؤشرات كمية تعكسها ووجود موارد تمولها، فان العجز المؤكد لتنفيذها يرجع الى انها اهداف مسقطة وغير قابلة للتحقيق يسعى واضعوها الى تجسيمها في ظرف زمني وجيز يتسم اصلا بالركود وبتفشي البطالة وعدم الاستقرار المؤسساتي.
برنامج “الإصلاحات” : اهداف هلامية
قبل تقديم عدد مهم من الوزراء الثلاثاء الفارط تفاصيل “برنامج الاصلاحات الحكومية”، عرضت رئيسة الحكومة نجلاء بودن، في وقت سابق، تقدم برنامج الإصلاحات الهيكلية للحكومة وتم للغرض نشر وثيقة تفصيلية له على مواقع التواصل الاجتماعي لرئاسة الحكومة اشارت الى طابعه الـ “تشاركي”، بحجة مساهمة 400 موظف اداري سامٍ في صياغته في ظل غياب اهم منظمات المجتمع المدني والاطراف الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة، على هذا الصعيد، وابرزها الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية.
كما تم التأكيد على ان الحكومة لا تزال منفتحة على جميع الأطراف الراغبة في إبداء ملاحظاتها بخصوص المحاور الرئيسية لبرنامج الإصلاح، مع التشديد على سمته “الوطنية الخالصة” وذلك ردا على الاتهامات التي وجهت للحكومة عند تسريب النسخة الأولى من الوثيقة، في جانفي المنقضي حيث تم اعتبار برنامج “الاصلاحات” مجرد استجابة لطلبات صندوق النقد الدولي بغرض الحصول على تمويل للتخفيف من عجز ميزانية الدولة بحوالي 4 مليارات دولار.
وعموما، وعد برنامج الإصلاح، مثل برامج حكومات ما بعد 2011، بتوجيه الدعم لمستحقيه، والتحكم في أجور موظفي الدولة والقطاع العمومي وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية وإصلاح النظام الجبائي بهدف تحرير المبادرة الاقتصادية وضمان المنافسة العادلة.
ويعد برنامج الإصلاح أيضًا بإلغاء تراخيص الاستثمار، مع موفى العام الحالي، وتقديم عروض كبرى تستقطب اهتمام المستثمرين المرجعيين في القطاعات الاستراتيجية، وذلك اضافة الى دفع مشاريع الرقمنة لما لها من اهمية على مستوى استعادة ثقة الفاعلين الاقتصاديين، وتوطيد الاستثمار الخاص ودعم النشاط الاقتصادي.
كما قدمت وثيقة الحكومة تصورات عامة لخطط ترمي الى تطوير وسائل الدفع ومعالجة مشكل الديون البنكية المتعثرة ورقمنة انظمة المدفوعات المالية، استعدادا لإطلاق خدمات المشغل الوطني للدفع عبر الهاتف المحمول قبل نهاية الشهر الجاري بما يمكن من خلاص المواطنين فواتير مرافق عامة مختلفة عبر منصة معلوماتية للدفع عن بعد.
وتطرق برنامج الإصلاحات الحكومية بشكل عام دون تفاصيل واضحة لإصلاح القطاع الفلاحي سيما عبر تمكين الاجانب من ملكية اراضي الدولة مراكنة أي دون المرور بطلبات العروض واجراءات الصفقات العمومية علاوة على طرح افكار تهم إعادة إطلاق وتفعيل الخطة التونسية للطاقة الشمسية والاستراتيجيات القطاعية في مجال مجابهة التغيرات المناخية ودعم مشاريع وبرامج الانتقال البيئي.
غير ان التدقيق في تقديم وزراء حكومة بودن برامج “الاصلاحات” الخاصة بوزاراتهم – علما أن جلهم لا يملك شهائد عليا في الاقتصاد والمالية – يحيل بشكل قاطع الى ان هذه البرامج لا تتعدى مرحلة الوعود والمقاصد التي يغلب عليها الطابع الانشائي في انتظار بدء الإصلاحات الهيكلية التي تطلبها المؤسسات المالية الدولية الدائنة.
اجراءات ووعود مستهلكة
تضمنت تقريبا وثيقة سرّية أعدتها الحكومة الحالية بعنوان “الإصلاحات من أجل الخروج من الأزمة” تم تسريبها بداية جانفي الفارط نفس الإجراءات الواردة في وثيقة برنامج الإصلاحات التي عرضتها نجلاء بودن مؤخرا وذلك على أساس توجيه الوثيقة “السرية” الى الهيئات المالية الدولية للحصول على تمويلات خارجية ضرورية لسد الثغرة المتعاظمة في ميزانية الدولة.
وأشارت النسخة الأولى لبرنامج “الاصلاحات” إلى أن كتلة الأجور ومنظومة الدعم تشكّلان السبب الرئيسي لأزمة المالية العمومية. ومن أجل السّيطرة على هذا المشكل، اقترحت الحكومة تجميد الأجور والانتدابات واعتماد برنامج التقاعد المُبكر وتوجيه أعوان الوظيفة العمومية نحو القطاع الخاص خلال السنوات الثلاث المقبلة، متوقّعة أن تُسجّل كتلة الأجور تراجعا إلى حدود 14.5 بالمائة من الناتج الداخلي الخام في سنة 2025. بالإضافة إلى هذا، اقترحت الحكومة تنفيذ رفع الدعم الموجه للمحروقات تدريجيا إلى حين بلوغ الأسعار الحقيقية في أفق سنة 2026، والزيادة في معاليم استغلال الكهرباء والغاز تحت عنوان “التعديل الآلي للأسعار” ومراجعة دعم المواد الأساسية بداية من سنة 2023 إثر تركيز منصة الكترونية لصرف تعويضات مالية للفئات الاجتماعية المعنية بالدّعم. كما تهدف الإصلاحات إلى انتهاج سياسة جديدة إزاء المؤسسات العمومية سواء عبر التفويت في صنفها “غير الاستراتيجي” أو “تحسين حوكَمَتها “.
وكان الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي قد أكد في 17 ماي الماضي ان المنظمة الشغيلة ستتصدى للإصلاحات اللاشعبية للحكومة والتي لا تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الاجتماعية للتونسيين ولا تراع تداعيات جائحة أزمة كوفيد-19 وتأثيرات الحرب الروسية – الأوكرانية على الوضع الاقتصادي في تونس.
كما عبّر الطبوبي عن “رفض الاتحاد القاطع التفويت في المؤسسات العمومية” مؤكدا أن الاتحاد يدعو دوما إلى الحوار موضحا ان المنظمة ليست في صف النظام او المعارضة وأنها تبحث عن مصالح الطبقة “الشغيلة”.
لكن سبق لرئيس الجمهورية قيس سعيّد أن أكد في وقت سابق أن هذه “الإصلاحات المؤلمة” ضرورية لتجاوز الأزمة المالية والاقتصادية التي تمر بها البلاد محملا الفساد والفاسدين مسؤولية التراجع الاقتصادي الكبير خلال العشر سنوات الماضية.
وكان الاتحاد قد أبرز في مرات عديدة رفضه كل قرار بتجميد الزيادة في الاجور أو التقليص في عدد الموظفين بالقطاع العمومي. ويتخوف مراقبون سيما بعد اقرار الاتحاد اضرابا ليوم 16 جوان الجاري يشمل 159 منشأة عمومية من أن تدخل البلاد في حرب كسر عظام بين الحكومة والاتحاد الذي يملك ورقة الإضرابات العمومية وهو ما ستكون تبعاته مدمرة على الاقتصاد التونسي في ظل أزمة اقتصادية شديدة تشهدها البلاد غداة ارتفاع نسبة الدين إلى أكثر من 100 بالمائة من الناتج الداخلي الخام وبلوغ نسبة التضخم 7.8 بالمائة والبطالة لأكثر من 17 بالمائة.
السياسة المالية الراهنة في تونس نموذجا لمراكمة الفشل
تمثل السياسة المالية الراهنة في تونس نموذجا لمراكمة الفشل، من ناحية وحالة خاصة لـ “التخطيط” دون رؤية للمستقبل، من ناحية أخرى. وتعكس ميزانية 2022 بشكل خاص بوضوح هذه الوضعية سيما ان اقرارها تم في سياق اتسم بالشعبوية، ولكن اساسا بتناقض الخطاب وازدواجيته. وفي هذا الاطار، نشر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مارس الفارط دراسة بعنوان “ميزانية 2022 رهينة صندوق النقد الدولي: حول اسباب تخوف الرأي العام التونسي من اللجوء مجددا للصندوق”. وابرزت الدراسة انه إلى جانب غياب المرجعية الاقتصادية الإطارية والتشبث بنفس الإطار والمنوال التنموي واعتماد فرضيات غير واقعية ونفس الإجراءات والسياسات التقليدية الحريصة فقط على الحد من العجز وتحقيق التوازن بين الموارد والنفقات، كرست ميزانية 2022 من الناحية الاجتماعية والسياسية هيمنة المافيات واللوبيات و”الكناطرية” التي تمكنت من دفع السلط القائمة الى الاستمرار في اللجوء الى التداين الداخلي والخارجي بما سيقود حتما الى الرضوخ الى إملاءات وشروط صندوق النقد الدولي المهددة لسيادة القرار الوطني ولكل تمش إرادي في المجال التنموي.
وأوضحت دراسة المنتدى التونسي لحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنه غالبا ما يتم من الناحية المنهجية وخاصة لدى الدول الحريصة عل صفتها الاجتماعية والطامحة لترسيخ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، استعمال الميزانية العامة لتصحيح موازين القوى السائدة في اتجاه المزيد من التوازن والاعتدال، قصد منع تغول وهيمنة بعض الشرائح الاجتماعية على حساب شرائح أخرى، والذي من شأنه ان يخل بتماسك النسيج الاجتماعي ويقود الى توتر الأوضاع الاجتماعية والسياسية وتدهور مناخ الأعمال والآفاق التنموية. الا أن ما حصل مع ميزانية 2022 هو تكريس وتثبيت موازين القوى السائدة عبر الامتناع عن اعتماد إجراءات استثنائية تمكن من توزيع عادل للأعباء قصد الخروج من أزمة المالية العمومية بنسيج اجتماعي أكثر توازنا وتماسكا لتوفير ظروف ومناخ أعمال تحفّز أكثر على تحقيق الانتعاش الاقتصادي.
وتم التركيز في هذا السياق على انه وفي ظل التشبث بالاختيارات الليبرالية الجديدة وتغوّل الأطراف المهيمنة خارجيا وداخليا والرافضة لكل إجراءات استثنائية تمكن من تعبئة أقصى ما يمكن من موارد عمومية اضافية وتوزيع عادل للأعباء والحد من اللجوء الى التداين تم اعتماد سياسة تقشفية قائمة عل الضغط عل النفقات العمومية عبر تجميد الزيادة في الأجور في القطاع العمومي بين سنتي 2022/2024 الى جانب تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية والقطاع العمومي.
كما تتضمن هذه السياسة التراجع التدريجي عن دعم المحروقات الى أن تبلغ سعرها الحقيقي نهاية سنة 2026 الى جانب الترفيع في معاليم استغال الكهرباء والغاز ووضع منظومة الكترونية تسمح بالتسجيل والتصرف في التحويلات المالية للفئات المعنية بتلقي التعويض في اطار التخلي التدريجي عن دعم المواد الغذائية الأساسية بداية من سنة 2023.
كما تقوم السياسة التقشفية على التخلي عن الديون العمومية المتخلدة بذمة المؤسسات العمومية ومراجعة سياسة الدولة في ما يخص مساهماتها برؤوس أموال المؤسسات العمومية “غير الاستراتيجية” وصولا الى العمل عل التفويت فيها بداية من 2022. كل هذه الاختيارات الفاقدة لأي محتوى اقتصادي مستدام والمحدودة في امكانية تطبيقها وذات البعد التنموي الغائب تشكل اليوم مصدرا واقعيا لتخوف الرأي العام من السياسات المالية للسلط القائمة ومن مساعيها للتوصل مجددا بأي ثمن الى اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 جوان 2022