الشارع المغاربي: بداية لا بدّ من التّنويه بأنّ زمن الزّعيم الحبيب بورڨيبة ليس بالزّمن الحاضر. فقد لمع نجم “سي الحبيب” بالتّزامن مع سطوع نجوم كبار آخرين شرقا كـ”سوكارنو” في أندونيسيا و”نهرو” في الهند وجمال عبد النّاصر في مصر.
في أواسط خمسينات القرن الماضي زمن بورڨيبة كان الزّعماء يجيدون فنّ الخطابة ويطوّعون لغات ولهجات بلدانهم لإيصال مضامين لشعوب غالبيّتها كانت إمّا أميّة أو ذات تحصيل علمي متواضع. وكان الإبهار سمة الخطباء والإنبهار يطبع الجمهور المتلقّي…ويكفي تصفّح بعض صور الإجتماعات الجماهيريّة للزّعيم بالسّاحات العامّة للتّأكّد من ذلك. ففيها زعيم خطيب أمام مصدح وفوق منصّة ووجوه شاخصة وكأنّها تحت تأثير مغناطيس…
الزّعيم الحبيب بورڨيبة وبحكم تكوينه في فرنسا وإطّلاعه الواسع على تاريخها وخاصّة تأثير فلاسفة ومفكّري قرن الأنوار صُنّف كـ”مُستبدٍّ مستنير”.فالحبيب بورڨيبة، رحمه اللّه، كان شديد الإيمان بأهميّة التّعليم العصري فكان ذاك من أوّل مشاريعه حيث كلّف الجامعي والأديب الألمعي والنّقابي العظيم المرحوم محمود المسعدي بملفّ بل بمشروع تحديث وعصرنة المدرسة التّونسيّة وحمل حقيبة التّربية والتّعليم لمدّة 10 سنوات (1958 – 1968) فعمّت المدارس العموميّة كلّ المناطق والأقاصي وفُتحت الأقسام للبنات والبنين على حدّ سواء إضافة لتوحيد التعليم والمناهج وغلق “المدارس الموازية”! .
في العشريّة الأولى لحكمه، كان الحبيب بورڨيبة في سباق مع الزّمن وبدأ بتنفيذ ما يراه مشروعا لتونس على واجهات عدّة ولم يكترث كثيرا بمن كانوا يعارضون عمله. فسنُّ مجلّة الأحوال الشّخصيّة مثلا كان قبل حتّى إعلان الجمهوريّة وهو لا يزال يشغل خطّة رئيس حكومة الباي…كان يمضي في ما يراه صالحا ويعوّل على ما كان يطلق عليه “الاتصال المباشر” للتفسير والإقناع بملكته الخارقة في الحديث والتحكّم في نبرات الصّوت والإستطراد وحتّى إثارة التّعاطف حتّى سيلان الدّموع خاصّة عند إستذكار والدته وبين قوسين كثيرا ما “برّر” حماسه لدعم حقوق النّساء بضرورة إنصاف نساء كوالدته…
الزّعيم بورڨيبة كان يعتبر نفسه “مُعلّما” للشّعب، صاحب رسالة فهو ينسب لنفسه انجاز توحيد الشّعب.
بورڨيبة هو كلّ هذا وأكثر في شتّى مجالات العيش من تعليم وصحّة وصحّة إنجابيّة وسكن وحثّ على العمل ولعلّ الكثيرون ممّن عاصروه أو بحثوا في نوادره يذكرون جملته:”زيدو في الإنتاج والإنتاجيّة في كلّ شيء…كان في جيبان الصّغار !”
يوم 6 أفريل أحيى التونسيّون والتّونسيّات ذكرى رحيله الثالثة والعشرون في أجواء مثقلة بالاحداث والخطب عن الزّعامة وحمل مشروع للحكم وعدد كبير من التونسيّات والتّونسيّين باتوا مسكونين بالتّعلّق بما مضى وتمجيده ولعن الحاضر بما فيه…وقد تفطّن بعض السّاسة ل”كنز” محبّة سي الحبيب، رحمه اللّه،فسعى كلّ على طريقته في النّهل من الموروث”البورڨيبي”والتشبّه به والإستشهاد بما فعله في مناسبات مشابهة وللأمانة،تعاظمت موجة التشبّه بالزّعيم الفذّ بعد2011 ولا فائدة لا في ذكر الأسماء لا ممّن إتّخذوا نهج خطابي شبيه ببورڨيبة واستعارة بعض كلماته،لا حتّى من ذهبوا إلى أبعد من ذلك بلبس نظارات وبدلات شبيهة بنظارات وبدلات سي الحبيب… رحمك وسامحك الله يا سي الباجي.
أكثر تشبيه للوضع بالوضع هذه الأيّام هو تعامل الزّعيم الرّاحل مع وضعه الصحّي وطريقته في إبلاغ شعبه وحرصه على تأمين سير دواليب الدّولة حتّى لا يجد الشّغور طريقا لرأس السّلطة.
لعلّ المؤرّخين وأساتذة القانون الدّستوري مؤهّلون أكثر من سواهم للتّذكير بذاك التّنقيح الشّهير الذي بات بمقتضاه كاتب الدّولة للرّئاسة حتّى سنة 1969 يسمّى وزيرا أوّلا ويتولّى بمقتضى ذلك تسيير شؤون البلاد إلى حدّ عودة الرّئيس… كان الوزير الأوّل آنذاك المرحوم الباهي الأدغم.
الزّعيم بورڨيبة، كان حريصا على غرس فكرة لدى الجميع في الدّاخل والخارج بأنّه” تونس وتونس هو”. وكان يسمح لنفسه من ذاك المنطلق بالحديث في كلّ كبيرة وصغيرة، في السّياسات الكبرى داخليّا أو خارجيّا. فخطبه تبثّ إذاعيّا وتلفزيّا ويتم التّذكير بمقولاته يوميّا قُبيل موعد شريط الأنباء في “توجيهات الرئيس” ولا يُمرّر خبر قبل أنشطته مهما قلّت أهميّتها، فكنا نراه يتنزّه أو يسبح أو بصدد قراءة الصّحف فضلا عن إستقباله مسؤولين أو ضيوف، كلّ ذلك يمرّر قبل أيّ خبر آخر مهما كانت خطورته وأهميّته!
في موضوع صحّته، لم يتوان سي الحبيب عن الحديث بكلمات واضحة ومباشرة حتّى عن خصوصيّاته الجنسيّة. ثم وبعد أزمته الصحيّة الكبرى كانت الرّئاسة تصدر بيانات ممضاة من قبل طبيبه المعتمد الدكتور الأستاذ عمر الشّاذلي. كما تصدر بيانات للإعلان عن سفر الزّعيم للخارج للتّداوي أو النّقاهة وحتّى وهو في الخارج كانت هناك متابعة إعلاميّة لصحّته وتطوّرها وجولاته في بعض الحدائق وعندما يقتضي الأمر تزوره وفود وزاريّة ويتمّ الإعلام أوّلا بأوّل !
طبعا تلك المتابعة الإعلاميّة اللّصيقة لم تكن مجرّد أخبار هدفها الوحيد إعلام المواطنات والمواطنين بما يجري على رأس هرم الدّولة وكواليس الحكم وما كان يعتمل داخل ردهات القصر إذ أنّ محصّلة تلك الأخبار “الشفّافة” هو حدّ أدنى من إحترام للمواطنات والمواطنين بإعلامهم بأنّ رئيس الدّولة مريض وبأنّ من يتولّى التسيير هو الوزير الأوّل وبالنّتيجة يضيق مجال الإشاعة وحتّى فبركة الأخبار.
تمشّي الزّعيم هذا كان نابعا من شعوره العميق بمسؤوليّاته تجاه عموم التّونسيّات والتّونسيّين ومن إيمانه بأنّه بطريقة ما أب للأمّة التّونسيّة بأكملها وبأن نزعته نحو الاستفراد بالحكم والقرار كانت نابعة من انّه يرى نفسه في موقع الأب الذي يعي مصلحة أفراد عائلته أكثر منهم…فلا يمكن لأب أن يخفي مرضه أو تغيّبه عن البيت دون إعلام أبنائه وبناته وعندما يرى أنّ مرضه وغيابه قد يطول، يعلن عن ذلك ويكلّف من يستثيق به لإدارة شؤون العائلة!طبعا بلغة الحاضر قد نسمّي ذلك شفافيّة ومدّ المواطنين بكلّ ما يحدث لرأس الدّولة…
كما قلت في بداية هذه الورقة، زمن بورڨيبة يختلف عن زمننا هذا، فعهد الزّعامات ولّى لا في تونس فحسب بل في العالم بأسره. فالرّؤساء هم الآن مكلّفين من قِبل شعوبهم بإدارة الشّأن العام حسب موازين ولمدد تحدّدها الدّساتير وكأيّ مكلّف بمهمّة يكون مطالبا من قبل من يسوسهم بأن يمدّهم بأسباب تغيّبه عن النّشاط ومدّته.
مسألة صحّة الرؤساء ونشر ملفّاتهم الطبيّة من “الطابوهات” المنتشرة في عدّة دول. ولعلّ الكثيرون يذكرون ملف مرض الرّئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران والجدل الذي أُثير حوله قبيل وبعيد رحيله…
في تونس وبعد الزّعيم بورڨيبة، عادت إرادة التستّر على الوضع الصحّي للرّئيس وتجلّى ذلك خاصّة خلال عهدة الرّئيس الرّاحل الباجي قائد السّبسي، رحمه اللّه، وكيف اشتعلت بُعيد رحيله إشاعات الموت المستراب…كان ذلك في ظلّ دستور ينظّم لدرجة ما الشغور المؤقّت والنّهائي فكيف يمكن للتّونسيّين تقبّل غياب رئيس تجتمع بين يديه كلّ السّلطات لعدّة أيّام متتالية دون أن يكون هناك أيّ بديل دستوري وفق دستور قيس سعيّد نفسه؟
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي ” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 افريل 2023