تجارة تونس الخارجية: تضارب مصالح ورفض للتكنولوجيا وابتزاز و”ذراعك يا علاّف”/ تحقيق: محمد الجلالي
قسم الأخبار
5 فبراير، 2022
0share
الشارع المغاربي: بين نظام بيروقراطي منحرف عن مساره وقوى جذب الى الخلف قوامها منظومة تشريعية مهترئة وبنى لوجستية وتحتية قديمة ومعاملات إدارية اتسمت بتضارب المصالح باتت الادارة بمثابة مثلث برمودا للتجارة الخارجية. ففضلا عن رفض بعض الادارات مواكبة التطور التكنولوجي والالتحاق بالمنظومة الالكترونية المنظمة للتجارة الخارجية ووقوف القوانين المنظمة لعمليات التوريد والتصدير سدا منيعا ضد تسريع عمل الإدارة، تلاحق عدد من موظفي وزارة الصناعة والمناجم والطاقة شبهات استغلال وظائفهم لابتزاز شركات خاصة نظير تيسير حصولها على تراخيص توريد.
وتؤكد احصائيات وشهادات نفذت إليها أسبوعية “الشارع المغاربي” جمع بعض المديرين بين مسؤوليات إدارية حاسمة ومناصب صلب هياكل جمعياتية لارتهان تراخيص التوريد الى من يدفع او يرضخ لدفع أتاوات غير قانونية.
منظومة الكترونية ولكن..
تنص القوانين المنظمة للتجارة الخارجية على حرية تصدير وتوريد جل المنتجات باستثناء قرابة 3 % من المواد لدواع أمنية أو صحية أو بيئية أو لحماية الثروة الحيوانية والنباتية والموروث الثقافي، وفق ما أكدت درّة البرجي المديرة العام للتجارة الخارجية بوزارة التجارة وتنمية الصادرات لـ”الشارع المغاربي”.
البرجي أوضحت ان التوريد أو التصدير يتمان بواسطة رخصة مسلّمة من قبل الوزارة وتحديدا من مصالح الإدارة العامة للتجارة الخارجية.
وأضافت: “لقد سعت الدولة الى التخلي التدريجي عن الملفات الورقية وعن التعامل المباشر بين الموظف والحريف عند توريد وتصدير البضائع فأحدثت نظاما آليا مندمجا لمعالجة إجراءات التجارة الخارجية يربط بين كافة الأطراف المتدخلة.”
ووفق تأكيد البرجي أصبحت معالجة الملفات نتيجة هذا التمشي تتم بصفة إلكترونية منذ إيداع مطلب الرخصة لدى الوسيط الديواني والوسيط البنكي المعتمد إلى غاية الإجابة الإلكترونية لمصالح الإدارة العامة للتجارة الخارجية عبر شبكة تونس للتجارة.
تشير شبكة تونس للتجارة TTN على موقعها الالكتروني الى انه تم انشاؤها من قبل الدولة منذ سنة 2000 لتصل بين مختلف الأطراف المتدخلة في عمليات التجارة الخارجية.
ويؤكد موظف بوزارة التجارة فضّل عدم الكشف عن هويته ان الهدف الرئيسي من هذه النافذة الالكترونية كان تسريع عمليات التوريد والتصدير وتجنب الجلبة والاكتظاظ امام وزارة التجارة وبقية الإدارات العمومية المتدخلة والتقليل من الانحرافات السلبية الناتجة عن التواصل المباشر بين طالبي الخدمة والموظفين العموميين، مشيرا الى ان وجود شبكة عنقودية من الموظفين والوسطاء الفاسدين حدّ من نجاعة النافذة الالكترونية وكرّس ممارسات قائمة على المحسوبية والزبونية والابتزاز بدءا بوزارة التجارة وصولا الى وزارات أخرى.
يقول الموظف: “أصبحت أغلب الخدمات والرخص والوثائق المسداة الى المواطنين ورجال الاعمال مصحوبة برشاوى وعمولات وخدمات يصعب حصرها.”
في ذات السياق أجرى “الشارع المغاربي” استطلاعا استهدف 50 شركة مورّدة ووسيطا ديوانيا وخلص الى ان 40 % من المستجوبين يؤكدون تعرضهم للابتزاز من قبل موظفين عموميين عند سعيهم للحصول على رخص توريد.
واحتلت وزارة الصناعة طليعة الوزارات التي شهدت عمليات ابتزاز لفاعلين اقتصاديين بـ 45 % تلتها وزارة التجارة بـ 35 % ثم وزارات أخرى بـ 20 %.
أما أكثر وزارة معطّلة لإجراءات التوريد وفق نفس الاستطلاع فكانت وزارة التجارة بـ 65 % تلتها وزارة الصناعة بـ 27% فوزارات أخرى بـ 8 %.
وبمواجهة درّة البرجي المديرة العامة للتجارة الخارجية بالاتهامات الموجهة لوزارة التجارة بيّنت ان وزارتها تبدو في الظاهر معطلة لإسناد التراخيص وانها تكون في الغالب بحاجة الى رأي فني Avis Technique من وزارات أخرى مثل وزارات الصناعة والفلاحة والصحة والداخلية والبيئة والسياحة.
وتابعت قائلة: “يبلغ معدل آجال معالجة رخص التجارة الخارجية بين 3 أيام وأسبوع بالنسبة للملفات التي يتم إرسالها لمصالح الرأي الفني المرتبطة بشبكة تونس للتجارة غير أنه يمكن ان تتجاوز هذه الآجال تتجاوز المعدل المذكور في بعض الملفات التي يتم إرسالها ورقيا للمصالح غير المرتبطة بشبكة تونس للتجارة على غرار إدارة حفظ الصحة والمحيط بوزارة الصحة والديوان الوطني للصناعات التقليدية التابع لوزارة السياحة بالإضافة الى مصالح وزارة الداخلية التي تفضل التعامل الورقي على الالكتروني لدواع امنية بحتة.
أما بخصوص وجود لوبيات وعصابات داخل الوزارة وخارجها لابتزاز الفاعلين الاقتصاديين فقد اكتفت البرجي بدعوة كل من كان عرضة لتجاوزات من هذا القبيل الى التوجه الى القضاء لملاحقة كل من يثبت ضلوعه فيها.
لغز إدارة الصناعات المعملية
إثر مطلب نفاذ الى المعلومة موجه الى شبكة تونس للتجارة في 9 جويلية 2020 حصلت “الشارع المغاربي” على معطيات عن كل التراخيص التي تمتعت بها الشركات الموردة من وزارة الصناعة في 2018 و2019.
ولئن تم حجب أسماء الشركات واستبدالها برموز رقمية بدعوى حماية المعطيات الشخصية فإن معالجة المعطيات سمحت لنا بالخروج باحصائيات لافتة.
تشير جداول شبكة تونس للتجارة الى تلقي وزارة الصناعة أكثر من 13 ألف طلب ترخيص وارد من وزارة التجارة في سنتي 2018 و2019 لتوريد بضائع متصلة بصناعات معملية وغذائية وكيميائية وميكانيكية وبالنسيج والتكرير.
كان نصيب الأسد من طلبات الترخيص موجها الى إدارة السلامة بـنسبة 56،7 % والى الإدارة العامة للصناعات المعملية بنسبة 36% بينما تلقت بقية الإدارات 7،3% من الطلبات.
ولئن كان تعاطي جل الإدارات مع طلبات الترخيص سريعا على غرار إدارة السلامة التي قدمت رأيها الفني في 90% من الطلبات في مدة لم تتجاوز الخمسة أيام وإدارة الصناعات الغذائية التي اجابت على 67،7 % من الطلبات قبل انقضاء خمسة أيام وإدارة النسيج والملابس التي أبدت رأيها الفني في 57% من طلبات الترخيص في خمسة أيام أيضا فقد تدحرجت هذه النسبة بصفة لافتة بالنسبة للإدارة العامة للصناعات المعملية التي أكتفت بالإجابة على 15،6 %من طلبات الترخيص في خمسة أيام بينما استغرق ابداء رأيها الفني في 84،4% من طلبات الترخيص مدة تراوحت بين 6 أيام وأكثر من شهرين.
وبالتمعن في جدول الاحصائيات المستخرجة من قائمات تراخيص هذه الإدارة يتأكد انها استغرقت أكثر من ستين يوما قبل تقديم رأيها الفني في 61 مطلب ترخيص للتوريد منها 14 مطلبا تراوحت مدة معالجته بين 90 و361 يوما.
في المقابل حصلت 49 شركة على الرأي الفني لإدارة الصناعات المعملية في ظرف ساعات معدودات.
في هذا الإطار تمكنت احدى الشركات من التمتع بترخيص للتوريد بتاريخ 9اوت 2019 في مدة لم تتجاوز 21 دقيقة وحصلت شركة أخرى على ترخيص في ظرف 27 دقيقة. اما الرقم القياسي فقد كان يوم 3 أفريل 2019، حيث ابدت الإدارة رأيها الفني في ترخيص بعد تسع دقائق فقط من ورود الطلب.
مدير بوزارة الصناعة فسّر بطء إجابات الإدارة العامة للصناعات المعملية بتدخل شبكة من الموظفين والمديرين في مسار الطلبات الواردة على الوزارة مشيرا الى انها تنطلق من إدارة الشباك الموحد وتعود اليها في مسار وصفه بالمريب.
وتابع مبينا ان عددا من مديري الوزارة سعوا لارساء منظومة الكترونية ذكية لمعالجة الطلبات وان مجموعات ضغط وأصحاب مصالح تصدوا لأية محاولة للتغيير.
المدير اتهم بعض زملائه بتكوين وفاق لابتزاز الموردين مشيرا الى انهم ما فتئوا يمارسون ضغوطا على بعض الإدارات الأخرى للتسريع في الإجابة او على الفاعلين الاقتصاديين لابتزازهم.
واكد ان بعض المتدخلين في مسار ابداء الرأي الفني بوزارة الصناعة ما فتئوا يفرضون على طالب التراخيص إما دفع رشاوى مقابل التسريع في معالجة ملفاتهم او اجبارهم على تقديم منح وهبات لفائدة ودادية أعوان وموظفي الوزارة.
ولفت المدير الى انه يكفي التمعن في المسؤوليات الإدارية والوظيفية التي يتحملها أعضاء الودادية وحتى النقابة الأساسية بالوزارة للتأكد من الانزلاقات التي قال ان جمعهم بين مسؤوليات إدارية وجمعياتية ونقابية يفرضها.
سر المنح والهبات الأخرى
يكشف تقرير مالي لودادية أعوان وموظفي وزارة الصناعة انجز في سنة 2019، حصل “الشارع المغاربي” على نسخة منه، ان الجمعية العمالية حصلت على موارد مالية تفوق 82 الف دينار من مداخيل اشتراكات الاعوان وانخراطاتهم السنوية وعلى 277 الف دينار كمساهمة عمومية من الدولة (تذاكر أكل ومنح مالية بمناسبة عيدي الإضحى والفطر والعودة المدرسية) وعلى 683 الف دينار كمنح وهبات وموارد أخرى.
ويشير تقرير مراجع حسابات الودادية لسنة 2020 الى انها تلقت في سنتي 2019 و2020 أكثر من مليار ومائتي ألف دينار في شكل ومنح هبات من مؤسسات بالإضافة الى حصولها على منح من وزارة الصناعة ومعاليم انخراط واشتراكات سنوية للأعوان.
ولئن تغافلت الودادية عن تحديد المؤسسات والأطراف التي مكّنتها من “منح وهبات أخرى” ولم يعمل مراجع الحسابات على كشفها في تقريره، فقد أتت إجابة الكتابة العامة للحكومة على استشارة قانونية سبق لرئيس الودادية ان لجأ اليها في 9 سبتمبر 2020 لتبدّد الغموض وتزيح الإبهام.
يقول علي عميرة مدير عام الجمعيات والأحزاب برئاسة الحكومة في نص اجابته: “في ما يخص الحصول على تبرعات وهبات من القطاع الخاص فان احكام الفصل 34 من المرسوم 88 المنظم لعمل الجمعيات ضبطت موارد الجمعية بأنواعها المتمثلة في اشتراكات الأعضاء ومساعدات عمومية وتبرعات وهبات ووصايا وطنية أو أجنبية وعائدات ناتجة عن ممتلكات الجمعية ونشاطاتها ومشاريعها.”
إجابة نبه موظف بالوزارة طلب عدم الكشف عن اسمه الى انها لم تخرج عن التقيد بمنطوق القانون المنظم لعمل الجمعيات مستدركا بانها تحجب ارتكاب إدارة الودادية تجاوزات لم يتطرق اليها نفس القانون وهي وقوع أغلب أعضاء الهيئة المديرة للودادية في وضعيات تضارب مصالح.
وحسب محضر جلسة للهيئة المديرة للودادية مؤرخ في 27 جانفي 2021، تتوزع مهام أعضائها بين 7 مديرين ورئيسي مصلحة وعامل واحد.
تعطيل فاتصال وابتزاز
وكان”الشارع المغاربي” قد حصل على شهادات من وزارتي الصناعة والتجارة تصب في خانة تعمد عدد من الموظفين العموميين مراودة بعض الفاعلين الاقتصاديين عن أموالهم مقابل تسريع معالجة تراخيص التوريد. وبالاتصال ببعض المستثمرين تحفظ أغلبهم عن الادلاء بأي تصريح بينما اكتفي اخرون بالتشكي من بطء معالجة تراخيص التوريد.
احد الموظفين أكد ان بعض زملائه حوّلوا منظومة TTN الالكترونية الى عمل بيروقراطي صارم يعطل اي نمو اقتصادي مشيرا الى انهم كانوا لا يكتفون بالعمل المكتبي الذي يتطلب ارسال المطالب ومتابعة مسارها وانهم باتوا يتعمدون تعطيل التراخيص حتى يتصل بهم أصحاب الشركات لفرض شروطهم وايهامهم ببذل مجهودات للافراج عن التراخيص.
كما بلغ الامر ببعض الماسكين بزمام المنظومة الالكترونية حد الحصول على أرقام الشركات والتواصل معها وربط علاقات مشبوهة مع أصحابها وفرض اتاوات في شكل رشاوى او منح لهياكل جمعياتية تحت اشرافهم وفق تأكيد نفس الموظف.
في سياق أخر أشار موظف بوزارة التجارة الى استغلال بعض الموظفين في أكثر من وزارة عدم تحيين التشريعات المنظمة للتجارة الخارجية للتقيد بمدة 30 يوما التي يفرضها القانون في معالجة تراخيص التوريد.
وعرج على عدم مواكبة المنظومات الالكترونية التي تستغلها أكثر من وزارة للتطور التكنولوجي مستشهدا بمنظومة وزارة التجارة التي قال انها تعود الى تسعينات القرن الماضي.
في هذا السياق بينت درة البرجي ان وزارة التجارة واعية بقدم التطبيقة المستغلة في معالجة تراخيص التوريد مشيرة الى ان الوزارة ستعتمد تطبيقة جديدة في شهر فيفري الحالي.
وكانت “الشارع المغاربي” قد اتصلت منذ اسبوعين بالمكلفة بالاعلام في وزارة الصناعة لمواجهتها بمختلف المعطيات وحصلت على وعد بتنظيم لقاء مع فتحي السهلاوي مدير إدارة الصناعة المعملية . ورغم مهاتفة المكتب الإعلامي بالوزارة مجددا في أكثر من مناسبة لم يتسن لنا الحصول عليه على الخط.
هكذا اذن بات فساد بعض الموظفين العموميين واهتراء البنى اللوجستية والتشريعية وتشعب المنظومة البيروقراطية أركانا لمثلث غامض أشبه بـ “مثلث برمودا” وما فتئ يطال التجارة الخارجية ويفرض سطوته وسيطرته على اقتصاد مأزوم ومتداع.
صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 1 فيفري 2022