الشارع المغاربي: بعيدا عن أي تجاذبات سياسية، الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس وصل إلى حالة خطيرة تُنذر بالانفجار أمام استفحال حالة اليأس والإحباط بسبب غياب برنامج تنموي وطني يعتمد دفع الاستثمار الداخلي لخلق القيمة المضافة ومعالجة معضلة البطالة بصفتها السبيل الوحيد لوضع حد لظاهرة الهجرة السرية والهجرة المنظمة المفزعة التي تستنزف ثرواتنا البشرية. علاوة على انفلات غلاء الأسعار وتدهور خطير للتوازنات المالية الخارجية والداخلية وتفاقم المديونية. وهي مؤشرات أجمعت عليها كل الجهات المختصة داخليا وخارجيا.
في نفس الوقت نلاحظ بكل أسف حالة التّيه والركود الذي يُميّز أداء الحكومة. وهو وضع لا يُبشّر ببوادر خروج من الأزمة الحالية في غياب رؤيا استراتيجية حول المُتغيّرات العالمية الحالية وربطها بمشروع وطني جديد جريء وفعال لدفع المسيرة التنموية بعمق واقتدار.
لا تغيير بآليّات وتعهّدات المنوال السابق
هذا المشروع يستوجب مراجعات عديدة لما تقرر منذ ثلاثة عقود والذي تبينت تداعياته السلبية إثر اندلاع الثورة وسقوط النظام. غير أن الحكومات التي تداولت على السلطة مند 14 جانفي 2011 اعتمدت تثبيت المنوال الاقتصادي المتهاوي مع تطعيمه، تحت ضغوط داخلية وخارجية، بقوانين عمّقت تفكيك الدولة ومن أهمها قانون البنك المركزي لسنة 2016.
التحولات العالمية العميقة التي تجري حاليا نتيجة تداعيات جائحة كوفيد-19 واندلاع الحرب الأطلسية-الروسية في أوكرانيا تتمحور بالأساس حول نهاية العولمة وبروز التكتلات الجهوية والإقليمية وإعادة النظر في ظاهرة المناولة عبر تشجيع إعادة تمركز المؤسسات العالمية داخل بلدانها في خطوة لتامين سلسلة الإنتاج ووضع حد للنمو الاقتصادي المتسارع في الصين.
هذه المعطيات الهامة يجب أن تكون في أوليات التدابير التي تستنير بها السلطات في تونس من أجل صياغة سياسة وطنية جديدة تقطع مع المنوال السابق ومع التبعية العقيمة للشريك الأوروبي الذي تبين بوضوح أنه حريص على مصالحه الذاتية وهو أمر لم تستوعبه السلطات التونسية مع الأسف.
التستر على حقيقة الوضع مع الشريك الأوروبي والتشبث بأنه المنقذ الوحيد للبلاد وفقدان الثقة بالنفس وغياب الرؤيا الإستراتيجية كلها عوامل جعلت السلطة فاقدة لبديل وطني. حيث جعلت قبلتها شمالا عوض أن تتجه نحو ترتيب البيت من الداخل وتعزيز العلاقات المغاربية مع الجزائر وليبيا خاصة في خطوة أولى لبناء تكتل جهوي يحمي الجميع.
أزمة تنذر بتراجع نفوذ أوروبا
المواقف المنحازة للولايات المتحدة التي اتخذتها بلدان الاتحاد الأوروبي منذ اندلاع الازمة في أوكرانيا عمقت الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية داخل الاتحاد. هذا الوضع أفضى إلى خلافات خطيرة حول الموقف من روسيا في علاقة بالمصالح الكبرى للعديد من البلدان في مقدمتها ألمانيا والمجر والنمسا وكذلك فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال.
في نفس الوقت تشهد فرنسا وكذلك ألمانيا تدهور في علاقاتها مع البلدان الإفريقية نتيجة التدخلات السياسية والعسكرية تحت راية مقاومة الإرهاب. والحال أنه تدخل من أجل الاستفراد بثروات هذه البلدان خاصة في مالي الغنية بالموارد النفيسة مثل الذهب والفضة واليورانيوم. في نفس الوقت تشهد شعوب هذه المنطقة هجرة مكثفة نحو الشمال عبر تونس وليبيا والجزائر والمغرب نتيجة البطالة والفقر والتهميش وهو وضع شبيه بما يجري في تونس. مما يدل أن نفس الأسباب تؤدي حتما إلى نفس النتائج الاقتصادية والاجتماعية الكارثية.
هذا الوضع اعتبره بعض المحللين السياسيين الأكاديميين “بالاستعمار المُقنّع” تحت راية اتفاقيات شراكة غير متكافئة كما جاء في الإصدار الأخير تحت عنوان “أوروبا-إفريقيا: الجذور الاستعمارية للاتحاد الأوروبي” والتي سبق بالمناسبة أن أكدنا في بعض المقالات التي نُشرت بجريدة الشارع المغاربي على هذا المُعطى التاريخي الخطير الذي تم ّالتّنصيص عليه في «مُعاهدة روما” المُوقّعة من طرف الدول الست المؤسسة للمجموعة الأوروبية بتاريخ 25 مارس 1957. حيث ضغطت فرنسا “لضم بلدان ما وراء البحار التابعة لمنطقة الفرنك الفرنسي” التي ثبت أنها تمثل في “معاهدة روما” %75 من المساحة الجغرافية خارج أوروبا وهي بالأساس المستعمرات الإفريقية الفرنسية والبلجيكية.
* essai Eurafrique : Aux origines coloniales de l’Union européenne, Peo Hansen et Stefan Jonsson, tous deux professeurs à l’université de Linköping (Suède). Edition La découverte. هذا الإصدار بين أن اتفاقيات الشراكة كانت مطيّة استعملها الاتحاد الأوروبي لضمان استمرارية مناطق نفوذه الحيوية بصفتها أسواق لمنتوجاته وخز ان مُهمّ للتزود بالمواد الأولية. لضمان عناصر القوة لصالحه أمام القوى العظمى. هذه التوجه المُتستّر تحت راية اتفاقيات الشراكة حسب رأي المحررين، تحول إلى كابوس دمّر إنجازات البلدان المتحررة بعد الحرب العالمية الثانية. هذا الوضع تحول في تونس إلى اندلاع ثورة أسقطت النظام ولم تنجح في تفكيك اللغز الحقيقي الذي يقف وراءه. غير أنه على مستوى البلدان الإفريقية بدأ مؤخرا يتحوّل إلى حراك سياسي فاعل مطالبا بالتحرر من الهيمنة الفرنسية خاصة في مالي حيث سارعت فرنسا مؤخرا بسحب قواتها المسلحة بطلب من السلطات المحلية، في حركة شبيهة بالهروب المُذل للقوات الأمريكية من أفغانستان. وقد سبقتها ألمانيا قبل ذلك في حركة مماثلة.
ماكرون سعى في الجزائرلإخراج فرنسا من أزمة الطاقة في الوقت الذي سارع فيه الرئيس الفرنسي إلى ترتيب زيارة “مصالحة” للجزائر سعيا لإخراج بلاده من أزمة الطاقة التي تنذر بأزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة، نلاحظ أن الحكومة التونسية تتحرك مثل سابقاتها بدون رؤيا استراتيجية ومتشبثة بالشريك الأوروبي بوصفه طوق النجاة مثلما تبين من الزيارة الأخيرة لرئيسة الحكومة التي حضرت “أيام المؤسسة” التي نظمتها منظمة الأعراف الفرنسية والتي طالبت من خلالها الشركات الفرنسية للاستثمار في تونس. متناسية ما صرح به السفير الفرنسي في ندوة نظمتها جمعية التونسيين المتخرجين من المدارس العليا الفرنسية “ATUGE” في شهر ماي 2022 حيث أكد “أنه منذ سنتين لا يوجد أثر لأي استثمار فرنسي جديد في تونس”. غياب الاستثمارات الفرنسية في تونس منذ 2020 هو قرار فرنسي رسمي استراتيجي تم تعزيزه بمنح امتيازات مالية هامة وتحفيزات جبائية لدفع الشركات الكبرى إلى إعادة تمركز نشاطاها داخل فرنسا لتعزيز سلسلة الإنتاج داخليا وذلك في إطار تراجع العولمة خاصة بعد اندلاع جائحة كورونا. تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أخبر شعبه بأن أيام “البحبوحة” انتهت وأن البلاد تمر بأزمة عميقة وهي تقترب من فصل الشتاء كان كفيلا لإقناع السلطة التونسية بعدم التعويل على هذا الطرف لإنقاذ الاقتصاد التونسي.
بدائل ينقصها التطبيق والتفعيلقررت الجزائر في شهر جوان 2022 تجميد المعاملات التجارية مع إسبانيا رغم أهميتها وهو قرار سار المفعول إلى اليوم في علاقة بالأزمة بين الجزائر وإسبانيا نتيجة اصطفاف الحكومة الإسبانية مع الموقف المغربي في موضوع الصحراء الغربية بدون سابق استشارة. خاصة وأن هذا الموقف تزامن مع قرار إسبانيا تزويد المغرب بالغاز الطبيعي الجزائري في خرق للعقد المبرم بين الطرفين. هذه الفرصة الهامة لتسويق المنتوجات التونسية لم تجد أي اهتمام من السلطة التونسية لتحفيز كل المؤسسات الصناعية والفلاحية والخدماتية التونسية لتعويض المنتوجات الاسبانية في السوق الجزائرية. كان من المفروض أن تتجند كل الوزارات المعنية (وزارات المالية والصناعة والتجارة والبنك المركزي والبنوك التجارية والديوانة التونسية ووكالة النهوض بالصناعة ومركز النهوض بالصادرات) من أجل تقديم كل التسهيلات الضرورية ورفع كل القيود وتوفير السيولة المالية لكل المؤسسات المؤهلة للتصدير بضمان تقديم طلبيات ثابتة من المؤسسات الجزائرية. فرصة مهمة يتم إهدارها بطريقة مريبة والحال أن البلاد في حاجة مُلحّة لدفع الإنتاج الوطني والتشغيل والتصدير. فما هي اسباب هذا التغافل؟
البنك المركزي أوصد كل الأبواب أمام دفع الاستثمار في الاقتصاد الوطني المنتجبالاعتماد على القوانين التي صادق عليها مجلس النواب بين سنة 2015 وسنة 2019 وخاصة القانون عدد 35 الصادر في أفريل سنة 2016 المتعلق بما سُمّي “استقلالية البنك المركزي” والذي خول لهذه المؤسسة السيادية الخروج من دائرة السلطة الوطنية، أوصد البنك المركزي كل الأبواب أمام دفع الاقتصاد الوطني المنتج خاصة عبر استفراده بقرار تحديد نسبة الفائدة المديرية التي تعتبر الآلية الأساسية لدفع الاستثمار والتي تستوجب تخفيض هام لتشجيع الاستثمار الداخلي.غير أن البنك المركزي اختار أن يصطف وراء قرارات الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي لخدمة البنوك التجارية (العديد منها تحت تصرف بنوك فرنسية) ليضمن لها نسبة فائدة إيجابية عبر امتصاص نسبة التضخم بنسبة فائدة مديرية مرتفعة ويوفر لها أرباح طائلة عل حساب دفع الاقتصاد المنتج من أجل التشغيل والتصدير. كما اختار أن يصطف وراء إملاءات الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي المتعلقة بالدعم وبالتفويت في المؤسسات العمومية في خطوة تتضارب مع المصالح الوطنية ومن شانها أن تُهدّد الاجتماعي في البلاد.كما اختار أيضا الصمت، وهو المؤمن على التوازنات المالية الخارجية للبلاد، أمام تعاظم العجز التجاري في النظام العام المعتمد دوليا الذي بلغ 25,05 مليار دينار في الثمانية أشهر الأولى في سنة 2022 مقابل 18,7 مليار دينار في نفس المدة من سنة 2021 أي بزيادة بنسبة %34 وهو رقم قياسي لم يسبق له مثيل منذ استقلال البلاد خاصة وأنه تتم تغطيته بقروض أجنبية بالعملة الأجنبية. لذلك نعتقد أنه لا يمكن للبلاد الخروج من هذه الأزمة دون سحب قانون البنك المركزي لسنة 2016 وتوجيه البنك المركزي نحو معاضدة السياسة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
افتتاحية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 13 سبتمبر 2022