الشارع المغاربي: مَنْ يعرفُ جزيرة جربة جيّدًا، ومَن طافَ بين ثنايا منازلها وطوابيها وجادّاتها، ومَن شرب من قُلَلِها وتمشّى بين جداول جِنانها وكان محظوظا حدّ تذوّقِ تُفّاحها المشرف على الانقراض، ومَن تأمّل فرادةَ مِعمارها وأطرِزةَ الصوامع القصيرة للمئات من مساجدها الماكثة فوق الأرض وتحتها، ومَن شاهد ما تبقّى من كنائسها ومعابدها وحواريها، ومَن عاينَ رِفعة حصونها، ومَن تظلّل بنخيلِ منارةِ برج جليج على مشارف مطار مليتة، ومَن زارَ برج القسطيل وبرج الغازي مصطفى ولمحَ بالقرب منه برجَ الجماجم المشرئبّة، ومن أنصت لعجائزها وتزوّد ببعض حكاياتها وأساطيرها منذ هوميروس وأوليس إلى اليوم… مَنْ امتلأ بكلّ ذلك أو حتّى ببعضه يُدرك لا محالة أنّ الحديث عن جزيرة جربة لا يستقيم بمجرّد الاحتكام إلى العقل والمنطق وانتهاج الموضوعيّة في الطرح والتوصيف. جربة هي حقّا أكثر من ذلك بكثير، جربة نسيجٌ متشابكٌ من الواقع والخيال ونشيد الروح، حتّى أنّ العديد من كبار المفكّرين والأدباء في العالم حكّموا القلب وأطلقوا المشاعر في وصف سطوةِ جمالها منذ القديم. فهذا غوستاف فلوبير Gustave Flaubert يتغزّل بهوائها “في جربة، الهواء متناهي النعومة إلى درجة أنّه يمنعك من الموت” (A Djerba, l’air est si doux qu’il empêche de mourir)، وذاك أندري جيد André Gide يصف “غروب الشمس في جربة بـ) الأجمل في الكون”(…
كيف إذن لا تُسمّى جربة بـ”جزيرة الأحلام”؟!، وكيف لا تُدرجُ في لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو؟! جزيرة جربة جديرة فعلا بهذا التكريم بل هي، في الحقيقة، أعظم منه أصلا بتعدّدها الحضاري وثراء تراثها العريق الراسخ في الأرض، على الرغم من أنّها عانت طويلا ويلات التهميش من المركز وكابدت حتّى الوصم زمن انتشار فيروس كورونا وما قبله من أقرب الجيران. لا ينبغي إذن أن ننسى أنّ إعادة الألق إلى العديد من مدن الجزيرة وقُراها وشوارعها ومفترقاتها الرئيسيّة، بعد إهمالٍ متعمّدٍ طويل، لم يُنجزْ إلّا على إثر إزاحة مسؤولي الولاية السابقين واستئناف أشغال كادت تُجهض. وهو ما أهّلها، العام الماضي، لاحتضان القمّة الفرنكوفونيّة المؤجّلة التي لا يجهل ثمارها الطيّبة على جزيرة جربة إلّا الجهلة والمتصيّدين…
وهكذا فإنّ تسجيل جزيرة جربة على لائحة التراث العالمي، بعد ما يزيد عن ربع قرن على تصنيف آخر موقع أثري تونسي )موقع دقّة الأثري (1997 ، يُشكّل فرصة في منتهى الأهميّة للتعهّد بإنقاذ الجزيرة من كارثتي تلوّث معماريٍّ وبيئي ما فتئا يتهدّدانها ومن ممارساتٍ اجتماعيّة جديدة تنتهك هدوءًا فعليّا ورمزيّا طالما ميّزها، وهي التي عُرفت، إلى زمن قريب جدّا، حتّى بنعمةِ عدم استخدام السيّارات للمنبّهات في طرقاتها. لا يخفى، في هذا المضمار، أنّ لجان الرقابة التابعة لمنظمة اليونسكو كانت قد سجّلت في ملاحظاتها الوسيطة بشأن ترشيح الملف التونسي أنّ بعض المواقع المنصوص عليها بجزيرة جربة تشكو هشاشة كبرى تُهدّد باندثارها. وهو ما يستوجب من ثمّة تدخّلا عاجلا لحمايتها، ويدفع كذلك إلى الاستجابة إلى المطالب المشروعة لسُكّانها وفي مقدّمتها تحويل جربة إلى الولاية رقم 25 من أجل الاستفادة من استحقاقاتها. ولا ريب في كلّ الأحوال أنّ الدولة التونسيّة، رغم الأزمات الشديدة والمتراكمة التي تُكابدها، قد حقّقت إنجازًا تاريخيّا من شأنه أن يمنحها نفحًا من الدُربة على إجادة تقديم ملفّاتها من أجل تثمين ثراء تراثها العريق ورفع رايتها عاليًا بين أمم العالم.
ومع كلّ ذلك، سيبقى تاريخ 10 سبتمبر 2023 عالقًا في أذهان كلّ الذين يعشقون جزيرة جربة، سواء من التونسيّين أو غيرهم، ممّن سبق لهم الامتلاء بنسيمها واستنشاقِ رائحةٍ أخّاذةٍ تملأُ الروحَ قبل الرئتين بمجرّد أن تطأ القدمان ترابها…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 19 سبتمبر 2023