الشارع المغاربي – جربة‭ ‬في‭ ‬لائحة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭ ‬لمنظمة‭ ‬اليونسكو؟‭!‬ بقلم: معز زيود

جربة‭ ‬في‭ ‬لائحة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭ ‬لمنظمة‭ ‬اليونسكو؟‭!‬ بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

21 سبتمبر، 2023

الشارع المغاربي: مَنْ‭ ‬يعرفُ‭ ‬جزيرة‭ ‬جربة‭ ‬جيّدًا،‭ ‬ومَن‭ ‬طافَ‭ ‬بين‭ ‬ثنايا‭ ‬منازلها‭ ‬وطوابيها‭ ‬وجادّاتها،‭ ‬ومَن‭ ‬شرب‭ ‬من‭ ‬قُلَلِها‭ ‬وتمشّى‭ ‬بين‭ ‬جداول‭ ‬جِنانها‭ ‬وكان‭ ‬محظوظا‭ ‬حدّ‭ ‬تذوّقِ‭ ‬تُفّاحها‭ ‬المشرف‭ ‬على‭ ‬الانقراض،‭ ‬ومَن‭ ‬تأمّل‭ ‬فرادةَ‭ ‬مِعمارها‭ ‬وأطرِزةَ‭ ‬الصوامع‭ ‬القصيرة‭ ‬للمئات‭ ‬من‭ ‬مساجدها‭ ‬الماكثة‭ ‬فوق‭ ‬الأرض‭ ‬وتحتها،‭ ‬ومَن‭ ‬شاهد‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬كنائسها‭ ‬ومعابدها‭ ‬وحواريها،‭ ‬ومَن‭ ‬عاينَ‭ ‬رِفعة‭ ‬حصونها،‭ ‬ومَن‭ ‬تظلّل‭ ‬بنخيلِ‭ ‬منارةِ‭ ‬برج‭ ‬جليج‭ ‬على‭ ‬مشارف‭ ‬مطار‭ ‬مليتة،‭ ‬ومَن‭ ‬زارَ‭ ‬برج‭ ‬القسطيل‭ ‬وبرج‭ ‬الغازي‭ ‬مصطفى‭ ‬ولمحَ‭ ‬بالقرب‭ ‬منه‭ ‬برجَ‭ ‬الجماجم‭ ‬المشرئبّة،‭ ‬ومن‭ ‬أنصت‭ ‬لعجائزها‭ ‬وتزوّد‭ ‬ببعض‭ ‬حكاياتها‭ ‬وأساطيرها‭ ‬منذ‭ ‬هوميروس‭ ‬وأوليس‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭… ‬مَنْ‭ ‬امتلأ‭ ‬بكلّ‭ ‬ذلك‭ ‬أو‭ ‬حتّى‭ ‬ببعضه‭ ‬يُدرك‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬أنّ‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬جزيرة‭ ‬جربة‭ ‬لا‭ ‬يستقيم‭ ‬بمجرّد‭ ‬الاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬والمنطق‭ ‬وانتهاج‭ ‬الموضوعيّة‭ ‬في‭ ‬الطرح‭ ‬والتوصيف‭. ‬جربة‭ ‬هي‭ ‬حقّا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير،‭ ‬جربة‭ ‬نسيجٌ‭ ‬متشابكٌ‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬والخيال‭ ‬ونشيد‭ ‬الروح،‭ ‬حتّى‭ ‬أنّ‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المفكّرين‭ ‬والأدباء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬حكّموا‭ ‬القلب‭ ‬وأطلقوا‭ ‬المشاعر‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬سطوةِ‭ ‬جمالها‭ ‬منذ‭ ‬القديم‭. ‬فهذا‭ ‬غوستاف‭ ‬فلوبير‭ ‬Gustave Flaubert‭ ‬يتغزّل‭ ‬بهوائها‭ “‬في‭ ‬جربة،‭ ‬الهواء‭ ‬متناهي‭ ‬النعومة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنّه‭ ‬يمنعك‭ ‬من‭ ‬الموت‭” (‬A Djerba‭, ‬l’air est si doux qu’il empêche de mourir‭)‬،‭ ‬وذاك‭ ‬أندري‭ ‬جيد‭ ‬André Gide‭ ‬يصف‭ “‬غروب‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬جربة‭ ‬بـ‭) ‬الأجمل‭ ‬في‭ ‬الكون‭”(…‬

كيف‭ ‬إذن‭ ‬لا‭ ‬تُسمّى‭ ‬جربة‭ ‬بـ‭”‬جزيرة‭ ‬الأحلام‭”‬؟‭!‬،‭ ‬وكيف‭ ‬لا‭ ‬تُدرجُ‭ ‬في‭ ‬لائحة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭ ‬لمنظمة‭ ‬اليونسكو؟‭! ‬جزيرة‭ ‬جربة‭ ‬جديرة‭ ‬فعلا‭ ‬بهذا‭ ‬التكريم‭ ‬بل‭ ‬هي،‭ ‬في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬أعظم‭ ‬منه‭ ‬أصلا‭ ‬بتعدّدها‭ ‬الحضاري‭ ‬وثراء‭ ‬تراثها‭ ‬العريق‭ ‬الراسخ‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّها‭ ‬عانت‭ ‬طويلا‭ ‬ويلات‭ ‬التهميش‭ ‬من‭ ‬المركز‭ ‬وكابدت‭ ‬حتّى‭ ‬الوصم‭ ‬زمن‭ ‬انتشار‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا‭ ‬وما‭ ‬قبله‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬الجيران‭. ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬ننسى‭ ‬أنّ‭ ‬إعادة‭ ‬الألق‭ ‬إلى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬الجزيرة‭ ‬وقُراها‭ ‬وشوارعها‭ ‬ومفترقاتها‭ ‬الرئيسيّة،‭ ‬بعد‭ ‬إهمالٍ‭ ‬متعمّدٍ‭ ‬طويل،‭ ‬لم‭ ‬يُنجزْ‭ ‬إلّا‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬إزاحة‭ ‬مسؤولي‭ ‬الولاية‭ ‬السابقين‭ ‬واستئناف‭ ‬أشغال‭ ‬كادت‭ ‬تُجهض‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أهّلها،‭ ‬العام‭ ‬الماضي،‭ ‬لاحتضان‭ ‬القمّة‭ ‬الفرنكوفونيّة‭ ‬المؤجّلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يجهل‭ ‬ثمارها‭ ‬الطيّبة‭ ‬على‭ ‬جزيرة‭ ‬جربة‭ ‬إلّا‭ ‬الجهلة‭ ‬والمتصيّدين‭…‬

وهكذا‭ ‬فإنّ‭ ‬تسجيل‭ ‬جزيرة‭ ‬جربة‭ ‬على‭ ‬لائحة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي،‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬على‭ ‬تصنيف‭ ‬آخر‭ ‬موقع‭ ‬أثري‭ ‬تونسي‭ )‬موقع‭ ‬دقّة‭ ‬الأثري‭ ‬(1997‭ ‬،‭ ‬يُشكّل‭ ‬فرصة‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الأهميّة‭ ‬للتعهّد‭ ‬بإنقاذ‭ ‬الجزيرة‭ ‬من‭ ‬كارثتي‭ ‬تلوّث‭ ‬معماريٍّ‭ ‬وبيئي‭ ‬ما‭ ‬فتئا‭ ‬يتهدّدانها‭ ‬ومن‭ ‬ممارساتٍ‭ ‬اجتماعيّة‭ ‬جديدة‭ ‬تنتهك‭ ‬هدوءًا‭ ‬فعليّا‭ ‬ورمزيّا‭ ‬طالما‭ ‬ميّزها،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬عُرفت،‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬قريب‭ ‬جدّا،‭ ‬حتّى‭ ‬بنعمةِ‭ ‬عدم‭ ‬استخدام‭ ‬السيّارات‭ ‬للمنبّهات‭ ‬في‭ ‬طرقاتها‭. ‬لا‭ ‬يخفى،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار،‭ ‬أنّ‭ ‬لجان‭ ‬الرقابة‭ ‬التابعة‭ ‬لمنظمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬سجّلت‭ ‬في‭ ‬ملاحظاتها‭ ‬الوسيطة‭ ‬بشأن‭ ‬ترشيح‭ ‬الملف‭ ‬التونسي‭ ‬أنّ‭ ‬بعض‭ ‬المواقع‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬بجزيرة‭ ‬جربة‭ ‬تشكو‭ ‬هشاشة‭ ‬كبرى‭ ‬تُهدّد‭ ‬باندثارها‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يستوجب‭ ‬من‭ ‬ثمّة‭ ‬تدخّلا‭ ‬عاجلا‭ ‬لحمايتها،‭ ‬ويدفع‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬الاستجابة‭ ‬إلى‭ ‬المطالب‭ ‬المشروعة‭ ‬لسُكّانها‭ ‬وفي‭ ‬مقدّمتها‭ ‬تحويل‭ ‬جربة‭ ‬إلى‭ ‬الولاية‭ ‬رقم‭ ‬25‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬استحقاقاتها‭. ‬ولا‭ ‬ريب‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬الأحوال‭ ‬أنّ‭ ‬الدولة‭ ‬التونسيّة،‭ ‬رغم‭ ‬الأزمات‭ ‬الشديدة‭ ‬والمتراكمة‭ ‬التي‭ ‬تُكابدها،‭ ‬قد‭ ‬حقّقت‭ ‬إنجازًا‭ ‬تاريخيّا‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يمنحها‭ ‬نفحًا‭ ‬من‭ ‬الدُربة‭ ‬على‭ ‬إجادة‭ ‬تقديم‭ ‬ملفّاتها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تثمين‭ ‬ثراء‭ ‬تراثها‭ ‬العريق‭ ‬ورفع‭ ‬رايتها‭ ‬عاليًا‭ ‬بين‭ ‬أمم‭ ‬العالم‭.‬

ومع‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك،‭ ‬سيبقى‭ ‬تاريخ‭ ‬10‭ ‬سبتمبر‭ ‬2023‭ ‬عالقًا‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬كلّ‭ ‬الذين‭ ‬يعشقون‭ ‬جزيرة‭ ‬جربة،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬التونسيّين‭ ‬أو‭ ‬غيرهم،‭ ‬ممّن‭ ‬سبق‭ ‬لهم‭ ‬الامتلاء‭ ‬بنسيمها‭ ‬واستنشاقِ‭ ‬رائحةٍ‭ ‬أخّاذةٍ‭ ‬تملأُ‭ ‬الروحَ‭ ‬قبل‭ ‬الرئتين‭ ‬بمجرّد‭ ‬أن‭ ‬تطأ‭ ‬القدمان‭ ‬ترابها‭…

‬*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 19 سبتمبر 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING