الشارع المغاربي: دأبت القنوات التلفزية التونسيّة العامة والخاصة على الاحتفاء بشهر رمضان من خلال البرامج المهتمّة بالشأن الديني وبالطبخ وبالمسلسلات إذ تفردها الثلاثة بعناية خاصّة من مختلف النواحي كعرضها في أوقات الذروة عندما تتجمّع العائلة على مائدة الإفطار أو في السهرة. وتحتلّ البرامج الدينيّة موقعا متميّزا في البرمجة وكأنها من المتمّمات التي لا يصحّ الصوم إلا بها حيث يتمّ عرضها قبل أذان المغرب لمّا تتحلّق العائلة حول المائدة استعدادا لطحن ما يخرج من المطابخ البيتيّة.
وبمتابعتي أغلب هذه البرامج وصلت إلى نتائج أعرضها في ما يلي:
على مستوى الشكل
لاحظت أن كلّ الذين يقدّمون هذه البرامج يظهرون في لباس تقليدي فاخر مصحوبا بكُشَيطة ويصرّون على إضافة لفظ الشيخ لأسمائهم متشبهين في ذلك بشيوخ الأزهر في مصر والحال أن القياس في هذه الحالة فاسد لأن الكاكولة التي يلبسها الأزاهرة خاصّة بالمنتسبين للتعليم الأزهري وهي المقابل الظاهر للباس الكهنة الأقباط. فكما أن للكنيسة القبطية بابا ورهبان ومدارس فللأزهر كذلك إمام أكبر وشيوخ ومدارس. أما بالنسبة للجبّة التونسيّة فهي لباس تقليدي يلبسه الناس جميعا في الأفراح وفي الصيف وليس خاصا بالزيتونيّين ولا يحمل أي معنى ديني يضيفه للابسه. وقد تميّز كبار الشيوخ بزينة خاصة بهم تتمثل في جبة بالشمس التي اختصّ بلباسها أصحاب المراتب الدينية العليا في التنظيم الإداري للمملكة التونسيّة ولم يكن يتجرأ على لباسها العامة وهي شبيهة بزي المحامي وميدعات الأطباء والممرضين. بعد الاستقلال انحسر وجودها بوفاة أصحابها ولم يعد يلبسها هذه الأيام سوى الشيخ مفتي الجمهورية لأنه أعلى منصب ديني في البلاد. هذا إذا استثنينا وزير الشؤون الدينية الحالي الذي يصرّ على الظهور بها في كل المناسبات والأماكن موهما الناس بأنه ينتسب إلى طبقة كبار الشيوخ الذين انتقلوا إلى رحمة ربّهم في خرق واضح للتقاليد والأعراف ولِما تواضع عليه الوسط الزيتوني وأصحاب المهنة. إن الإصرار على لبس الجبة وقرنها بالخطاب الديني يهدف للإيهام بقدسية خطاب لابس الجبة وهو ما ورد في مقال لهشام قريسة الرئيس السابق لجامعة الزيتونة بجريدة “الصباح” المؤرّخة في 3 أوت 2018 ذكر فيه بأن الهدف من ذلك يتمثل في”تقوية مرجعيّتنا الدينيّة وخلق نوع من الاطمئنان إلى كلامنا عند الناس” وهو ما يعني أن الجبّة لدى هؤلاء إنما هي وسيلة لفرض خطاب لا يمتلك مقوّمات الإقناع الذاتية بالاستناد إلى عكاكيز من خارجه للإيهام بأنه ينطق بلسان الله والشرع في أرضه. واللافت للانتباه أن الجبّة انتشرت انتشار النار في الهشيم بعد سنة 2011 في الجامعة الزيتونية وفي المظاهرات التي شارك فيها الأيمة دفاعا عن إمام معزول أو سندا لإمام نهضوي مثلما حدث في صفاقس وفي تونس إبان عزل بعضهم. لذا قدّرتُ أن لبس الجبة الذي يكون مصحوبا بخطاب ديني هو تحيّل على خلق الله وتدليس لم يأمر به لا الشرع ولا العرف.
على مستوى المضمون
تابعت البرامج التي تم بثها ونُشر بعضها على صفحات فايسبوك لأصل في النهاية إلى القول بأن الخطاب الذي يروّج فيها خطاب رثّ لا يمتلك مقوّمات الخطاب لا من ناحية اللّغة ولا من ناحية المضامين إذ هو إلى أسلوب الفداوي أقرب حيث يستهدف إغراب السامعين بالأخبار الملفّقة وبأكاذيب القصّاص من ذلك تقديم الصحابة في صورة الملائكة الأتقياء الأنقياء والحال أنهم اختلفوا ورفعوا السيوف في وجوه بعضهم البعض بعد وفاة الرسول (ص) وموقعة الجمل واحدة من الأحداث التي تكذّب روايات الدجاجلة في التلفزات. وقد بلغ الأمر بالصحابة في خصوماتهم إلى اغتيال علي وأبنائه وقطع رأس الحسين سبط الرسول وجرّ نسائه سبايا إلى ديوان الخليفة ولا ندري على وجه التحقيق إلى اليوم موقع دفن رأس الحسين. هؤلاء الصحابة والتابعين يقع تقديمهم في البرامج الدينيّة في صورة أخرى مزوّرة بعيدة كل البعد عن الحقيقة والواقع بهدف تقديم صورة مشرقة غير واقعية عن تاريخنا الذي لم تتمّ غربلته إلى يوم الناس هذا. ومن الأكاذيب التي دأبت البرامج الدينية على ترويجها فرية الإعجاز العلمي في القرآن حيث يتصيّد البلّه الاكتشافات العلمية لربطها بهذه الآية أو بتلك حتى يثبتوا أن القرآن موحى به من عند الله فضلا عن ادعائهم بأن القرآن جاء لينظم الحياة البشرية وأوجد تشريعات تحفظ الحقوق وتتكفّل بحسن تسيير الجماعات والأفراد والحال أن القرآن ليس كتاب علم ولا تشريع بل هو كتاب عقيدة وأخلاق فمن بين 6236 هي عدد آيات القرآن لا نجد سوى بعض الآيات التي تناولت المعاملات، وحسبما ورد في ص33 من كتاب الفقيه عبد الوهاب خلاف “علم أصول الفقه” فإن عددها لا يتجاوز 245 آية. أما بالنسبة للأحاديث فلم يصحّ لدى البخاري بشرطه سوى 1761 حديثا أخرجها من حوالي 600 ألف حديث وهو ما صاغه الشهرستاني في “الملل والنحل” بقوله: “والنصوص متناهية والوقائع غير متناهية وما يتناهى لا يضبطه ما يتناهى”، كل ذلك يتم تغييبه في البرامج الدينية لتظهر الخرافات والقول بأن أجر الصائم يصل إلى 700 مرة والتلذّذ بالصلاة والرياء والأنانية والتخفيض في الأسعار وغيرها من المظاهر السلوكية التي لا يخلو منها مجتمع ولا علاج لها إلا بالرفع من المستوى الثقافي العام عبر انفتاحه على مختلف الفنون والآداب وترويج خطاب عقلاني تنويري نقدي بجانب العدالة في توزيع الثروات وغيرها.
والذي نخلص إليه أن البرامج الدينيّة التي تعرض في رمضان تشترك جميعها في الترويج لخطاب ديني متخلّف بعيد كل البعد عن شواغل العصر وقيمه ومفاهيمه ولا هدف لها سوى ترويج أكاذيب القصّاص وافتراءاتهم لتغييب الوعي الحقيقي لفائدة آخر زائف.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 4 افريل 2023