الشارع المغاربي: المَـقاتل الحسّاسة لحرب المياه بدأت تتجلّى للعيان وتكشف عن هشاشة الاقتصادات البدائيّة، بعد أن شرعت في دق ناقوس الخطر منذ عقود من الزّمن. كُلفة البرتقالة الواحدة من المياه: 12 لترا من الماء. بل وكلفة حبّة التّمر (دقلة) : 50 لترا. هذه المنتوجات الفلاحيّة وغيرها، تصدّرها تونس إلى مختلف أصقاع العالم، فضلا عن الخضروات المكلفة مائيّا )مثل الطّماطم ( مما يعني أن تونس ما تزال تصدّر المياه في شكل منتوجات جاهزة للاستهلاك. وذلك في عزّ أزمة المياه العالميّة، النّاتجة عن التّغيّرات المناخيّة والقصور الحراري… وهي عوامل ناتجة بدورها عن مسبّبات بشريّة، أساسها استفحال النّمط الاستهلاكي والصّناعي لدى الدّول المصنِّعة بصفة خاصّة. 20 في المائة من دول العالم مصنّعة و80 في المائة، أي الدّول النّامية، تتحمّل تبعات هذه الحضارة الصّناعيّة التي عبثت بمقوّمات الحياة ومُقدّرات الإنسان في العالم من الثروة الطبيعيّة ومنها الثروة المائيّة.
والأنكى، هو أنّ الخيار الاقتصادي التونسي، على إثر تجربة التّعاضد في السّتينات وعلى إثر أوّل مؤتمر عالمي للبيئة والثروات الطّبيعيّة بستوكهولم، هو أن تنتج تونس للغرب ما لم يختر الغرب أن ينتجه لنفسه، أي المواد التي تتطلّب كمّيات مائيّة كبرى. إن مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة البشريّة، 5-6 جوان 1972، بستوكهولم هو أول مؤتمر عالمي في الاختصاص، حيث تضمّن إعلان ستوكهولم 26 قرارا، في مقدّمتها القضايا البيئيّة التي حدّدت “الحوار” بين الدّول الصناعيّة والدّول النّامية حول “الصّلة بين النّموّ الاقتصادي وتلوّث الهواء والماء والمحيطات والآبار ورفاه النّاس في جميع أنحاء العالم”. ومن هذا المؤتمر تناسل برنامج الأمم المتّحدة للبيئة.
إنّ غياب استراتيجيا مائيّة لتونس بالتّعاون مع أشقائها من دول الجوار، جعلها تتّجه بصفة عمياء إلى القبول بالشروط المفروضة من الدّول التي تربطها بها علاقات اقتصاديّة وتجاريّة، بناء على اتّفاقيات.
اليوم، يؤكّد التاريخ أنّه على الدّولة أن تفكّر في تغيير المنوال الاقتصادي وفق مخطّطات جديدة تأخذ بعين الاعتبار عناوين التّنمية المستدامة والأمن المائي. فقد آن الأوان، اليوم، ليراجع المستثمرون، في اقتصاد القرع والبطّيخ، حساباتهم من أجل الحاضر والمستقبل. وهو ما يتطلّب تعويض ذلك بمنتجات الذّكاء والمعرفة… وتلك مسألة أخرى لا تخلو من مفارقات.
فعِوض أن يصدّر البلدُ المنتوجَ الذّكي(ابتكارات، تجديد، خدمات تقنيّة (… فإنّه مازال مورّطا في تصدير الأذكياء أنفسهم، أي المنتجين أنفسهم أو الكفاءات الإنتاجيّة، وفي غالب الأحيان دون رجوع ولا استرجاع!
ولقد تطرّقتُ لهذين الموضوعين فقط لأقول إن تونس لا تعرف إلى اليوم كيف تُـثمِّن مواردها الطّبيعيّة ولا مواردها البشريّة، وإنّ الترسانة التّشريعيّة التي وُضعت عند بناء الدّولة الوطنيّة، ما تزال شغّالة وقد تجاوزها الزّمن. بل ومن مخلّفات هذا الوضع المأزوم، يكفي أن نذكر البطالة والبيروقراطيّة المقيتة النّاتجة عن تسطّح الإدارة واحتكامها إلى نواميس إداريّة باليّة لا تواكب التّغيرات المتسارعة لحاجات المجتمع ولا رهانات المرحلة…
وهكذ يفترض أن تبدأ أيّة مبادرة للإصلاح من معالجة مثل هذه المفارقات الصّارخة. فأيّ برنامج للتّنمية المستدامة يجب أن يقوم على ثلاثة محاور: اقتصادي، بيئي، اجتماعي.
ويستوجب الأمر حَوكَمة ديمقراطيّة، على أساس معرفي، توجّه ما بقي من جهود لتدارك الأمر وربط السّلوك الاقتصادي برهانات الإنسان على الأرض، وإلاّ فسنظلّ خارج التاريخ وربّما الجغرافيا أيضا. فلا بدّ، في هذه المرحلة الصّعبة، من “توحيد الجهود” في إطار اقتصاد دائري يتمحور حول: استشراف قوّة الموارد والتّصرّف فيها فعليّا. وهو ما يقوم على توحيد ثلاثة مجالات: عرض الفاعلين الاقتصاديّين، طلب المستهلكين ودراسة سلوكاتهم الاستهلاكيّة وترشيدها، ثمّ التّصرّف في النّفايات وتدبيرها وتثمينها. وهنا أتحدّث عن توحيد الجهود، ليس فقط بين مؤسّسات الدّولة التي تشهد هي الأخرى سوء تنسيق، بل بين الفاعلين الاجتماعيّين وتشريكهم فعليّا: المواطن نفسه، الجماعات المحليّة، الإداريّون ومنتجو الخدمات، الشركات المنتجة، الجمعيّات وكافة مكوّنات النّسيج المدني… كلّ هذه القوى، يجب أن تتناسق مع بعضها خدمة لرهانات المرحلة، دون تضارب أو تناحر، بل على أساس المصلحة العليا وهي، حتما، مصلحة المجموعة الوطنيّة)وليس المصالح الخارجيّة).
ولا خير في شعب يصدّر الماء والغذاء، ثمّ يأكل من وراء البحار! أيّ خوَر هذا؟ وبالتّوازي، لا خير في شعب، نسبة الانقطاع عن التّمدرس لديه: 100 ألف طفل وشاب سنويّا، بينما يصدّر كفاءاته العلميّة والتّقنيّة إلى الخارج، بل ويلفظها! أيّ خراب هذا؟
ولا ريب أنّ عنوان التّنمية المستدامة، اليوم، بات مقياس الاختيارات الأنجع التي تميّز سياسات الدّول وهو صورة لمدى تدبيرها لمصيرها. إنّه عنوان يحتّم ربط السياسات بالمعرفة وليس بالعِرافة أو بالمصالح الضيّقة والآنيّة والرّهانات السّحريّة. إذ ما الفائدة في أن تتجه الاستثمارات، في عزّ الخيارات اللّيبراليّة، إلى التّعويل على مقياس الرّبح السّريع وتجوهر الثّروة “الوطنيّة” في كتلة الأقليّة من الأفراد، يصعب توجيهها إلى المصلحة العامّة… بل وسرعان ما تتبخّر الثروات في الخارج أو تنتقل بين البنوك الدّوليّة! وذلك نوع من فساد الثروة، في حدّ ذاته. وفي غياب دور للدّولة والمجموعات والمؤسسات لربط الموارد بمشروع تنموي مستدام، يصعب الحديث عن سيادة. والموارد المائيّة، اليوم، مثال لهذه السيادة، حتى لا يستمرّ النّزيف!
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 4 افريل 2023